التغيرات الثقافية والاقتصادية في دول الخليج.. هل تسبب توترات اجتماعية؟

"هذه الأمور المحظورة تُعرض الآن على أنها ضرورية ولا غنى عنها"
تشهد دول الخليج تحولات جديدة في سياساتها الاقتصادية والاجتماعية، تهدف إلى جذب المزيد من العمالة الأجنبية، وفي الوقت نفسه دفع المواطنين المحليين نحو الانخراط في القطاع الخاص.
إلا أن هذه السياسات، وفقا لما أورده موقع "دويتش فيله" الألماني، لا تحظى بقبول واسع لدى مواطني دول الخليج الذين يبدون تحفظا وقلقا متزايدا تجاهها.

انتقاد غير مباشر
استهل الموقع تقريره مشيرا إلى حالة الجدل التي حدثت في دولة الإمارات قبل ثلاثة أعوام حين "أثارت سلسلة مطاعم الوجبات السريعة (صب واي) غضبا واسعا على مستوى البلاد، بعد نشر إعلان وظيفي يدعو المواطنين الإماراتيين للعمل في تحضير السندويشات داخل فروعها".
وعزا ذلك الاستياء العام بسبب "عدّ العديد من المواطنين الإعلان (إهانة وسخرية وهجوما على السكان المحليين)، ما دفع النيابة العامة إلى فتح تحقيق في (المحتوى المثير للجدل)".
وأوضح الموقع أن "الإعلان الذي نُشر في ديسمبر/ كانون الأول 2022 صدر عن مجموعة (كمال عثمان جمجوم)، وهي شركة كبيرة مقرها دبي، وكانت تحاول فقط تطبيق لوائح جديدة".
إذ تهدف القواعد التي أُقرت عام 2022 إلى رفع نسبة المواطنين الإماراتيين العاملين في الشركات التي تضم 50 موظفا أو أكثر إلى 10 بالمئة بحلول نهاية عام 2026.
في هذا السياق، قال أحد الباحثين العاملين في الإمارات، والذي فضل عدم الكشف عن هويته: "المسألة تتعلق بوظيفة خدمية منخفضة الأجر، عادة لا يعمل بها المواطنون، كما أن معظم العاطلين عن العمل من الإماراتيين يحملون على الأقل شهادة جامعية".
وأضاف: "الغضب كان موجها نحو الشركة لا الحكومة، مع أنه تضمن أيضا انتقادا غير مباشر للسياسة الجديدة".
وأشار الموقع إلى أن "السعودية بدأت هي الأخرى تطبيق قواعد مشابهة تهدف إلى إدماج المواطنين في سوق العمل".
بل ولفت إلى أن "المملكة شددت هذه القواعد خلال العامين الماضيين؛ حيث باتت الشركات التي تضم 100 موظف مطالبة بتوظيف ما لا يقل عن 30 بالمئة من السعوديين".
وبحسب الباحث ذاته، فإن "فضيحة إعلان (صب واي) ليست سوى مثال واحد من بين العديد من الحالات التي تُظهر كيف تؤدي خطط العمل الجديدة في دول الخليج إلى توترات اجتماعية".

العقد الاجتماعي
من جانبهم، يرى خبراء من مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي أن "هذا النوع من السياسات الاقتصادية في دول الخليج يؤدي إلى تقويض العقود الاجتماعية القائمة".
حيث يتوقع الخبراء أن "محاولة إضفاء الحداثة على نظام الحكم الهرمي المحافظ بغرض جذب المستثمرين الأجانب، قد يهدد شرعية العقود الاجتماعية القائمة والمستقرة في كلا البلدين".
وأضافت المؤسسة الأميركية: "لقد أدى الاستقطاب المتزايد داخل المجتمع الخليجي في أعقاب الانتفاضات العربية وما نتج عنها من إشكالات ومن محاولات دؤوبة لإعادة هندسة المجتمع، إلى تأليب الشريحة الاجتماعية المحافظة على شقيقتها الليبرالية".
ولذلك، تقدر المؤسسة أن "قدرة دول الخليج العربي على الحفاظ على عقودها الاجتماعية مع مواطنيها، أصبحت متوقفة على مهارتها في تجنب خلق توترات جديدة بينما تسعى لحل المسائل القائمة".
وتابع الموقع الألماني: "في السابق، كانت الحكومات الخليجية توفر الوظائف والسكن والخدمات الأخرى للمواطنين، بتمويل من عائدات النفط، وكان هذا النموذج يُعد بمثابة عقد اجتماعي غير معلن: الدولة تؤمن احتياجات المواطن، مقابل القبول بنظام حكم سلطوي".
واستدرك: "لكن مع انخفاض أسعار النفط، والتحول العالمي بعيدا عن الوقود الأحفوري، وتزايد أعداد الشباب -بما في ذلك ارتفاع معدلات البطالة بينهم- أصبح من الصعب بشكل متزايد على دول الخليج النفطية الحفاظ على هذا العقد".
وردا على ذلك، أشار التقرير إلى أن "حكومات الخليج بدأت في دعم القطاع الخاص، خاصة الشركات التي لا تعتمد على النفط كمصدر رئيس للدخل. كما بدأت في تقليص الإنفاق العام، وتشجيع الشباب على دخول عالم ريادة الأعمال".
وعقب فريدريك شنايدر، الباحث في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر قائلا: "إن محاولة حكومات دول الخليج دفع المواطنين من القطاع العام إلى وظائف أقل استقرارا في القطاع الخاص، بالتوازي مع تقليص المزايا الاجتماعية، تثير حالة متزايدة من عدم الارتياح".
واستشهد الموقع بما حدث في يناير/ كانون الثاني 2025، حين "أطلقت الحكومة السعودية برنامجا حمل اسم (المصافحة الذهبية)، يهدف عبر حوافز مادية إلى تشجيع السعوديين على الانتقال من القطاع العام إلى الخاص".
وأضاف الباحث المقيم في الإمارات أن "جميع هذه المشاريع الاقتصادية الجديدة رافقها خطاب يروج لفكرة أن الوظائف الحكومية هي خيار سهل أو حتى مريح، ما أثار استياء بعض المواطنين".

توترات جديدة
في الوقت نفسه، ذكر الموقع الألماني أن دول الخليج "تسعى إلى جذب مزيد من العمالة الأجنبية للعمل في قطاعات غير نفطية".
وهو ما يفسر، بحسبه، "تعديل قوانين الملكية للأجانب ومنح إقامات طويلة الأمد، إلى جانب تخفيف القيود الدينية والاجتماعية".
وأوضح أن "الإمارات بدأت هذا التحول منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بينما شرعت السعودية فيه أخيرا".
حيث أطلقت المملكة في منتصف عام 2025 تأشيرة جديدة للمهنيين، وستسمح للأجانب بامتلاك العقارات اعتبارا من عام 2026.
واستدرك: "لكن هذه السياسات الاقتصادية التي تهدف إلى إحداث تحول ثقافي في بيئة العمل، تؤدي إلى توترات اجتماعية جديدة"؛ إذ يرى الباحث أنه "من الواضح أن هذه البرامج تمنح امتيازات لفئات معينة من الوافدين".
وتابع: "كما أن دفع الإماراتيين والسعوديين إلى دخول القطاع الخاص جعلهم ينظرون إلى المهاجرين الجدد كمنافسين مباشرين في سوق العمل".
ويؤكد الباحث أن "ذلك يقود إلى توترات اجتماعية وثقافية جديدة، إذ يعبر بعض المحافظين من السكان المحليين عن استيائهم من سياسة (الترحيب بالوافدين) التي تتبناها الدولة".
ووفق الموقع، "تتمثل مظاهر ذلك في الجدل حول مقترح تغيير عطلة نهاية الأسبوع من (الجمعة والسبت) إلى (السبت والأحد) أسوة ببقية دول العالم، والاعتراض على منح اعتراف أكبر بأعياد غير إسلامية مثل عيد الميلاد".
فضلا عن ذلك، يحمل بعض المواطنين مسؤولية تزايد مظاهر سلبية مثل البغاء وتوسع استهلاك الكحول، إلى الوافدين الأجانب، وفق التقرير.
وتابع: "حيث بررت أبوظبي حينها نمط الحياة الجديد على أنه شر لا بد منه، ولذلك بدأت السماح ببيع بعض أنواع المشروبات الكحولية، كمحاولة لاسترضاء الأجانب المقيمين في البلاد".
ويفسر خبراء مؤسسة كارنيغي هذه التحولات في السياسة الإماراتية بـ (انحسار عصر النفط).
وأضافوا: "بالرغم من أن انحسار عصر النفط لا يشكل بالضرورة أي تهديد لكيان الدولة الإماراتية وتلاحمها، إلا أن تبعات هذا الانحسار قد تقوض الامتيازات التي يرتكز عليها العقد الاجتماعي وتؤدي إلى واقع غير مريح للمواطن الإماراتي بينما تتهيأ البلاد لمزيد من التحولات".
"أما في السعودية، حيث لم يبدأ هذا التحول إلا أخيرا، باتت مثل هذه الأمور المحظورة تُعرض الآن على أنها ضرورية ولا غنى عنها"، يقول الموقع.
ويضيف: "تسعى السلطات من خلال ذلك إلى تقديم المملكة في صورة جديدة، وتحويل الرياض إلى مدينة عالمية جاذبة للسياح والمستثمرين الأجانب على حد سواء".
من جانبه، يعتقد فريدريك شنايدر أن "الكثير من المواطنين المحليين يشعرون بأن الشركات الأجنبية تستحوذ على الفرص التجارية التي كانت متاحة للشركات الوطنية".
مشيرا إلى أن "وزارات وهيئات حكومية في السعودية انتقدت المبالغ الضخمة التي دُفعت لشركات استشارات غربية في إطار مشروع مدينة نيوم المستقبلية ومشاريع التحول الأخرى".
كما نوه إلى أن شركات استشارية محلية شابة، تسعى لشق طريقها في السوق، شاركت أيضا في هذا النقد.
في سياق متصل، لفت شنايدر إلى أنه "يلمس في أحاديثه مع مواطنين خليجيين تزايدا في مشاعر الخيبة تجاه الغرب بشكل عام".
وبحسب الموقع الألماني، فقد عزا ذلك إلى عاملين رئيسين: أولهما ما يعده أهل الخليج (نفاقا وتواطؤا) فيما يتعلق بالإبادة في غزة، وثانيهما تراجع موثوقية الحلفاء التقليديين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة.