جهاز المخابرات الفرنسية يدفع ثمن التنبؤات الفاشلة بشأن إفريقيا.. كيف؟

منذ شهرين

12

طباعة

مشاركة

بعد فترة قصيرة من توليه قيادة جهاز المخابرات الخارجية الفرنسي، زار رئيس الجهاز الجديد "نيكولا ليرنر" في 9 يناير/كانون الثاني 2024، مركز البعثة الإفريقية (CDM) الذي يعد واحدا من 7 مراكز تتبع للجهاز.

وذكرت مجلة "إنتيليجنس أونلاين" الفرنسية المعنية بشؤون الاستخبارات أن رئيس جهاز المخابرات الخارجية "ليرنر" يبدي اهتماما شديدا بإفريقيا، خاصة غرب القارة.

وقالت في أحد تقاريرها إن هذه الزيارة تكتسب رمزية كبيرة، فقد اتهمت الحكومة الفرنسية جهاز المخابرات الخارجية بالفشل في التنبؤ بما يحدث في إفريقيا.

وخاصة بعد الانقلابات الأخيرة في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، التي تزامنت مع انتكاسات للمخابرات الخارجية.

كان آخرها اعتقال أربعة عملاء من مديرية التقنية والابتكار التابعة لوزارة التجارة والصناعة الفرنسية في بوركينا فاسو أوائل ديسمبر/كانون الأول 2023 ما زالوا رهن الاعتقال حتى الآن.

استبدالات وضربات 

وأدت هذه الإخفاقات إلى إقالة عدد كبير من موظفي المخابرات الخارجية، تزامنا مع قرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتسريع خطط استبدال "برنارد إيمي"، الدبلوماسي الذي ترأس الجهاز منذ عام 2017.

وكان الدبلوماسي "سيلفان إيتي" سفير فرنسا في النيجر، والذي يعد من أبرز رجال المخابرات الخارجية في منطقة غرب إفريقيا، قد دافع عن إخفاق الجهاز في التنبؤ بما حدث في النيجر حين أطيح برئيس البلاد محمد بازوم في يوليو/ تموز 2023.

وشهد إيتي لجهاز المخابرات الخارجية في جلسة استماع الجمعية الوطنية الفرنسية في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، والتي أعلن عنها في منتصف فبراير/شباط 2024. 

وقال إيتي أمام لجنة الدفاع الوطني والقوات المسلحة "إن عمل جهاز المخابرات الخارجية في النيجر ومالي وبوركينا فاسو مكرس بالكامل لمحاربة الإرهاب". 

وأوضح أن الجهاز غير مفوض بالتدخل في الشؤون السياسية للدول الثلاث. وبين أنه في منطقة الساحل، تحتل الاستخبارات السياسية المرتبة الثانية في سلم الأولويات بعد مهام مكافحة الإرهاب، التي تستهلك معظم المقدرات الفنية والبشرية المحدودة بطبيعتها. 

وذكر أنه من الصعب إعادة توجيه هذه المقدرات إلى المجال السياسي في غضون أيام تبعا لسير الأحداث.

لم تكن الانقلابات في مالي وبوركينا فاسو والنيجر هي الضربة الوحيدة التي تلقتها باريس وهددت نفوذها. 

إذ أعقب الانقلابات خطوة أخرى عندما قررت الدول الثلاث في 28 يناير 2024، الانسحاب من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، مقدرة في بيان مشترك أن الأخيرة "تشكل تهديدا لها".

وأوضح البيان المشترك للدول المنسحبة، أنها ستغادر "إيكواس"، المكونة من 15 عضوا "في أقرب وقت ممكن".

والمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا تعرف اختصارا بالفرنسية بـ"سيدياو" وبالإنجليزية "إيكواس"، وهي منظمة سياسية واتحاد اقتصادي إقليمي تأسس في 25 مايو/أيار 1975.

وقال موقع "الحرة" في 29 يناير 2024، إن أسباب هذه الخطوة متعددة، ومن بينها رؤية أنظمة تلك الدول أن "إيكواس لم تعد ذات سيادة في قراراتها وفرنسا تؤثر بشكل كبير على تحركاتها".

وأورد أن "أنظمة إيكواس فشلت حتى في مكافحة الإرهاب رغم الدعم الفرنسي، وأصبحت الدول في قرارتها لا تنتظر جديدا منها".

وخلص إلى أن "منطقة الساحل أصبحت أوكرانيا الإفريقية، ولها علاقة مباشرة في صراع النفوذ الدولي وإعادة بلورة نظام عالمي جديد، تسعى موسكو إلى أن تكون لها الكلمة العليا فيه".

فشل فرنسا

وأضاف "أن الدول الثلاث ترى أن المجموعة لم تعد سوى آلية لتمرير سياسة باريس".

وتابع أن هذه الدول ترى أنه لم تعد هناك فائدة من البقاء في هذه المنظمة التي لم تعد منسجمة مع الأهداف التي سطرتها.

وخاصة أن هذه الدول كثيرا ما عزفت على وتر محاربة "الاستعمار الجديد" والإمبريالية الغربية الممثلة في فرنسا.

وفي تقرير نشره معهد الدراسات الإيطالي "إيسبي 90" ومقره "روما"، قال إن الأسباب المعلنة لهذا الانسحاب هي "تهديد" المجموعة الاقتصادية لغرب إفريقيا، لدول الساحل الثلاث، و"خيانة مبادئها وخضوعها لإملاءات أجنبية". 

وأضاف "إذا فككنا طلاسم هذه الجمل سنجد أن فرنسا بعد فشلها في إرغام الحكام الجدد على تسليم السلطة بدعوى الانقلاب العسكري، حاولت توظيف مجموعة إيكواس لتمارس ضغوطا على الدول الثلاث". 

وأتبع أن هذه الضغوط تحولت إلى شبه حصار سياسي واقتصادي فرضته المنظمة على الدول الثلاث إلى درجة منع وصول الدواء إلى النيجر مثلا، أو محاولة منع ممثلي "إيكواس" من الذهاب إلى نفس البلد.

وسجل أن "هذا انحراف عن الأهداف التي أنشئت من أجلها إيكواس جعلها أداة طيعة لتنفيذ أجندة فرنسية خالصة، وهدفها الأول هو الهيمنة على الذهب واليورانيوم والثروات الطبيعية لهذه البلدان".

وكانت صحيفة "تايمز" البريطانية قد وجهت انتقادات لفرنسا بشأن إدارة مستعمراتها السابقة في إفريقيا، وحملتها المسؤولية عما وقع من اضطرابات.

وقالت في افتتاحيتها الصادرة في 8 أغسطس 2023، "إن سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتخبطة فشلت في تحقيق الاستقرار في المستعمرات الفرنسية السابقة في إفريقيا". 

وأضافت أن النيجر كانت تعد إلى وقت قريب من أكثر المستعمرات الفرنسية السابقة استقرارا بمنطقة الساحل الإفريقي، لكنها لم تعد كذلك الآن بعد الإطاحة بحكومتها، شأنها شأن بوركينا فاسو ومالي.

وأضافت أن السيناريو نفسه تكرر في الانقلابات التي شهدتها الدول الثلاث، حيث يتم إصدار بيان كئيب حول نظام الحكم السيئ، ثم الحديث عن اليأس الذي أنتجته سنوات طويلة من الجفاف، والفوضى الأمنية، وقبل كل شيء فشل النموذج الفرنسي لتحقيق الاستقرار في القارة.

وأفردت "تايمز" مساحة خاصة للمخابرات الفرنسية وقالت إنه "لطالما زعمت من قبل أنها استطاعت التنبؤ بتمرد مجموعة فاغنر العسكرية الروسية ضد النظام الروسي بموسكو".

لكنها الآن فشلت في التنبؤ بانقلاب النيجر كما فشلت قبل ذلك في توقع الانقلابات التي حدثت في كل من مالي وبوركينا فاسو، وفق تقديرها.

تحديات فرنسا 

ونشرت وكالة "رويترز" البريطانية في 5 يناير 2024، تقريرا عن تطورات الأوضاع في الساحل الإفريقي، وعلاقة ذلك بالمتغيرات التي طرأت على جهاز الاستخبارات الخارجية الفرنسي. 

وذكرت أن هناك ربطا بين إقصاء برنار إيميه رئيس المخابرات الفرنسية السابق الذي يبلغ من العمر 65 عاما والفشل الذي أصاب المخابرات الفرنسية. 

إذ لم تنجح المخابرات في اكتشاف واستباق وتدارك الانقلابات المتلاحقة التي شهدتها بلدان الساحل الثلاثة (مالي وبوركينا فاسو والنيجر) في الأعوام الأربعة الأخيرة. 

وقد أفضى ذلك في نهاية المطاف إلى خروج فرنسا منها وإلى انحسار نفوذها في المنطقة.

وستكون إحدى المهام المطلوبة من مدير المخابرات الخارجية الجديد نيكولا ليرنر أن يوفر للإليزيه المعلومات والتحليلات التي تساعد على فهم ما حدث والعمل بعد ذلك على استعادة بعض ما تم فقده في المنطقة بالغة الأهمية الإستراتيجية لباريس، خاصة وأن الإخفاق الفرنسي لم يكن سهلا 

ولعل من أبرز علامات الفشل أن باريس التي نشرت، في أوج حضورها في منطقة الساحل، قوة "برخان" التي وصل عددها إلى 5500 رجل متمتعة بدعم لوجيستي وجوي ومخابراتي. 

وكانت تلك القوة المنتشرة في الدول الثلاث المشار إليها، أرغمت تباعا على الخروج من مالي ثم من بوركينا فاسو، وأخيرا من النيجر، حيث رحل آخر جندي فرنسي في 22 ديسمبر/كانون الأول 2023. 

كذلك، قررت باريس إغلاق سفارتها في العاصمة النيجيرية نيامي، وبررت الخارجية ذلك بالإشارة إلى "العقبات الخطيرة التي جعلت من المستحيل قيامها بمهامها مثل ضرب طوق حول مقر السفارة، وفرض قيود على تنقل الموظفين". 

لكن الخسارة الفرنسية الأكبر بحسب الوكالة البريطانية تكمن في أن انسحاب "برخان" ترافق مع انسحاب قوة "الكوماندوز" الأوروبية المسماة "تاكوبا" التي كانت ترابط في مالي لتمكين الحكومة من بسط سلطاتها. 

ورغم أن خروج القوة الفرنسية من النيجر لم يتبعه خروج قوة أكثر تواضعا إيطالية - ألمانية، مع بقاء القوة الجوية الأميركية في قاعدتيها بالبلاد، فإنه لا يبدو أن أحدا سيحل ميدانيا محل الفرنسيين في الساحل، وهو ما يترك الباب مفتوحا لاستقواء نفوذ الدول المنافسة للغربيين.

ومن الأدلة على ذلك أن موسكو سارعت إلى إعادة تنظيم صفوف "فاغنر" وإعطائها تسمية جديدة "أفريكا كوربس أو القوة الإفريقية".

الأمر الذي يدلل على رغبتها العارمة في الاستفادة من الفراغ الفرنسي في المنطقة وعزمها على تعزيز حضورها.

ومنذ اليوم يبدو الحضور الروسي ظاهرا في مالي، وأيضا في بوركينا فاسو، على حساب باريس المتراجعة على جميع الجبهات.