Tuesday 19 March, 2024

صحيفة الاستقلال

تغير موقف نظام السيسي من العدوان الإسرائيلي.. الدوافع والسياقات

منذ 2021/06/08 20:06:00 | أوراق بحثية
بالرغم من منع نظام السيسي أي حراك شعبي في الشارع المصري فإنه سمح بالخطابات الدينية والإعلامية حادة اللهجة ضد إسرائيل
حجم الخط

المحتويات

مقدمة

أولا: طبيعة موقف النظام المصري من الأحداث

1. التحركات والمواقف الرسمية

2. المواقف غير الرسمية

ثانيا: دوافع وأسباب تغيير النظام المصري لموقفه

1. العلاقة بين النظام والإدارة الأميركية

2. مستجدات العلاقة بين النظام المصري وإسرائيل

3. الموقف الإسرائيلي من سد النهضة الإثيوبي

4. مشاريع تضر بالمصالح الإستراتيجية لمصر

5. آثار التطبيع الإماراتي مع إسرائيل

الاستنتاج والخاتمة


مقدمة

منذ اندلاع ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وحتى الآن، شهدت علاقة النظام المصري بالقضية الفلسطينية تطوراً إيجابياً حيناً وسلبياً أحياناً أخرى، وكان ذلك مرتبطا بعدة أسباب، لعل أبرزها تعاقب أكثر من سلطة خلال تلك الفترة.

لكن منذ حدوث الانقلاب العسكري في 2013، كان الموقف السلبي من دعم القضية الفلسطينية أو تقديم أي إسناد ملموس لها هو السائد.

أثار موقف النظام المصري جراء التصعيد الأخير في فلسطين الكثير من علامات الاستفهام لدى المتابعين والمراقبين، حيث لوحظ أن النظام ذهب لمساحة تموضع مختلفة شيئا ما عن مواقفه السابقة من ذات القضية.

كان السؤال الأبرز هو عما إذا كان النظام المصري هو نفسه الذي كان له موقف سلبي من دعم الجانب الفلسطيني في 2014 وما بعدها، وأن إسرائيل هي نفس الاحتلال المعتدي، وأن المقاومة هي نفسها، ففيم التغير في موقف النظام إذن؟ وما أسباب هذا التغير وما دوافعه؟

ترصد الورقة ابتداء أبرز نقاط الاختلاف بين موقفي النظام المصري من التصعيد الإسرائيلي في عدواني 2014 و2021 على غزة، ومن ثم ننتقل لبحث السياقات والمتغيرات السياسية التي دفعت القاهرة لمراجعة وتطوير موقفها من القضية، والبحث في مساحات الدوافع والمصلحة التي ساقتها للوصول لهكذا تغير.


أولا: طبيعة موقف النظام المصري من الأحداث

نناقش خلال هذا المحور التغير في موقف النظام المصري من القضية الفلسطينية والاعتداءات التي حدثت على المسجد الأقصى وقطاع غزة، وذلك من خلال رصد ومقارنة الموقفين بين 2014 و2021، ووقوفاً كذلك على موقف مصر بعد الثورة وخلال عام من حكم الرئيس محمد مرسي، للوصول لفهم أعمق لتلك المواقف المتباينة وسياقاتها.

التحركات والمواقف الرسمية:

تحركت وزارة الخارجية المصرية في العدوان على غزة 2021 مبكرا بإصدار بيان إدانة للاعتداءات الاسرائيلية،  كان محوره استنكار اقتحام المسجد الأقصى والاعتداء على أهالى القدس والمصلين وسياسة التهجير التي تنتهك القانون الدولي، ثم تواصلت بشكل فاعل مع أطراف الصراع وجهات إقليمية ودولية متعددة. 

وفي ذات السياق أكد السفير نزيه النجاري مساعد وزير الخارجية، في اجتماعه بسفيرة إسرائيل أميرة أورون على ما ورد في البيان السابق كما شدد على ضرورة احترام المقدسات الإسلامية، وتوفير الحماية للمدنيين الفلسطينيين وصيانة حقوقهم في ممارسة الشعائر الدينية.

في اليوم التالي عقد وزير الخارجية سامح شكري اجتماعاً بمقر الوزارة مع السفير طارق طايل، رئيس بعثة جمهورية مصر العربية في رام الله وحَمّلَه رسالة دعم "للأشقاء الفلسطينيين حكومة وشعباً". 

وكذلك، أجرى الوزير اتصالا بنظيره السعودي فيصل بن فرحان اتفقا فيه على أهمية  ترجيح الحلول السياسية لكافة أزمات المنطقة. 

وعلى المستوى الدولي تلقي اتصالاً هاتفياً من "تور وينسلاند" المبعوث الأممي الخاص لعملية السلام في الشرق الأوسط، عرض فيه الوزير موقف مصر الرافض للاعتداءات الإسرائيلية في القدس وأعلمه بالإعداد لاجتماع وزاري عاجل لمجلس الجامعة العربية.

وعلى النقيض من ذلك الموقف العاجل والواضح، شهد عام 2014 صدور الموقف الرسمي المصري الأول بعد اندلاع العدوان بأسبوع كامل في إطار مبادرة طرحتها الخارجية المصرية لوقف إطلاق النار، بلغة خطاب حيادية لا تحمل تعاطفاً مع أحد الطرفين أو إدانة لأحدهما على الآخر، ما عُد شبيها للخطاب والمواقف التي درج عليها نظام مبارك في عهد ما قبل الثورة. 

طرحت المبادرة المصرية في 15 يوليو/تموز 2014، تهدئةً بين الطرفين دون شروط مسبقة على أن يلتقي وفدان ممثلان للطرفين في القاهرة خلال 48 ساعة من بدء تنفيذ المبادرة لاستكمال مباحثات وقف إطلاق النار، بعدما وصفت ما قام به الطرفان "أعمالاً عدائية" داعية إلى وقفها قبل تنفيذ المفاوضات. 

جاءت الموافقة على هذه المبادرة أحادية من الجانب الإسرائيلي، في حين رفضتها حركة المقاومة الإسلامية حماس التي تدير قطاع غزة، مؤكدةً أن القاهرة لم تستشِرها قبل إعلان هذه المبادرة، وأنه لا يوجد بها إلزام لإسرائيل للاستجابة لِشروط الفلسطينيين، و كما صرح الناطق باسم حماس سامي أبو زهري، وسرعان ما عادت الغارات الجوية على القطاع في ظهر اليوم نفسه إثر فشل هذه المبادرة. 

بطبيعة الحال كان هذا الموقف بتفاصيله المختلفة معبرا عن كون النظام المصري في ذلك الحين أقرب للاحتلال الإسرائيلي من الجانب الفلسطيني المقاوم. 

وفي ذلك السياق، فقد أشار الكاتب والمحلل السياسي مصطفى زهران إلى أن العدوان الإسرائيلي الذي تم في 2014 على قطاع غزة، كشف النقاب عن حدّة الانقسام السياسي والمجتمعي في الداخل المصري.

وهو ما تمثل في الموقف الواضح لدى النّخبة السياسية الحاكمة في مصر في التعاطي مع الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع، والتي وصلت إلى الدّعم غير المباشر للعدوان بُغية القضاء على حركة حماس.  

فضلا عن ذلك، فقد أشار الدكتور عادل بيومي أن الموقف المصري حينها كان مرتبطا بالحفاظ على النظام الوليد ومتماشيا مع حالة الاستعداء للإسلاميين، والرغبة في عدم الضغط على إسرائيل تماشياً مع الموقف الأميركي في ذلك الوقت. 

وفي إطار تلك السياسة التي كان يتبعها النظام بعيد الانقلاب العسكري في 2013، كان له عمل دؤوب في غلق وإغراق الأنفاق التي كانت تمد قطاع غزة المحاصَر بالمؤونة والدواء والغذاء والعتاد، بطلب من إسرائيل، وفي نفس الوقت كان يُحْكِم إغلاق المعابر الحدودية على الفلسطينيين.

على العكس من ذلك، لم يتوقف الموقف المصري في مايو/أيار 2021 عند التحركات المشار إليها سلفا، بل شمل الدوائر العربية، مثل المشاركة في الاجتماع الطارئ لجامعة الدولة العربية الذي طالب فيه وزراء الخارجية العرب المحكمة الجنائية الدولية بالتحقيق الجنائي في "جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية" التي ترتكبها إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.

 ودعا الوزير سامح شكري في كلمته إلى ضرورة حل القضية من جذورها بالعودة إلى حل الدولتين وإقامة دولة مستقلة للفلسطينيين عاصمتها القدس الشرقية. 

توسعت وزارة الخارجية في اتصالاتها الدولية إذ بحثت مع وزير خارجية ألمانيا هايكو ماس والممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيف بوريل ضرورة استئناف جهود السلام بما يحمل أفقاً حقيقياً للتوصُّل إلى إنشاء الدولة الفلسطينية المستقلة. 

في اليوم التالي تواصل مع روسيا وبريطانيا وفرنسا وإيرلندا مؤكدا على رؤية مصر السابق تفصيلها في تصريحاتها، ونشرت الخارجية على صفحتها التقدير البريطاني لجهودها ووعدها بدعم القاهرة بكافة المساعي اللازمة. 

واستمر التواصل مع الجانب الإسرائيلي إذ أجرى وزير الخارجية سامح شكري، في 12 مايو/أيار اتصالاً بنظيره الإسرائيلي غابي أشكنازي"أكد خلاله على ضرورة وقف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية"، وأهمية التوقف عن التصعيد  وعدم اللجوء إلى الوسائل العسكرية.

في اليوم التالي قالت مصادر مصرية إن وفداً أمنياً مصرياً من جهاز المخابرات العامة برئاسة اللواء أيمن بديع، وصل إلى تل أبيب، لبحث وقف إطلاق النار في قطاع غزة وإنهاء موجة التصعيد الأخيرة في الأراضي الفلسطينية.

لم يقتصر التطور على العلاقة بالطرف الإسرائيلي إذ شكر سفير فلسطين بالقاهرة مصر لفتحها مستشفياتها أمام جرحى العدوان الإسرائيلي. 

في 15 مايو/أيار أرسلت مصر عشر سيارات إسعاف إلى غزة لنقل جرحى القصف الإسرائيلي، كما ونقلت بعض المصادر أنه تم في وقت لاحق إرسال خمس سيارات إسعاف أخرى وجرى تجهيز ثلاث مستشفيات مصرية لتقديم العلاج.

من الضروري هناك كذلك الإشارة إلى فترة التطور الإيجابي و"الاستثنائي" في العلاقات بين حركة حماس والنظام في مصر، والتطور في دعم القضية الفلسطينية، في فترة تولي الدكتور محمد مرسي رئاسة مصر.

إذ سجلت الدولة في عهده مواقف مشهودة في مواجهة التصعيد الإسرائيلي فضلا على فتح حركة الاقتصاد والحركة للمحاصرين داخل قطاع غزة. 

خلال ذلك العام أبدت السياسة الخارجية المصرية انفتاحاً على قضية فلسطين، حيث أكد مرسي حرصه على دعم إتمام المصالحة الفلسطينية، وقد تطورت المواقف لدرجة اعتزام الرئيس الراحل زيارة غزة مع رئيس الوزراء التركي حينها رجب طيب أردوغان والرئيس الفلسطيني محمود عباس، حسب تصريحات للأخير في القاهرة مايو/أيار 2013.

أيضاً كان من أبرز المواقف المصرية حينها مواجهة الخرق الإسرائيلي للتهدئة والعدوان على غزة في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 باغتيال قائد المقاومة أحمد الجعبري.

تلك الواقعة قوبلت برفض مصري شديد وإجراءات عاجلة لوقف هذا العدوان، حيث أرسلت القاهرة وفدا برئاسة رئيس الوزراء وقتها هشام قنديل إلى قطاع غزة، إضافة إلى إصدار بيانات قوية اللهجة، مع  الحشد الإقليمي والدولي الذي توقف على إثره العدوان بشكل عاجل، ما شكل حينها سياسة مصرية جديدة مختلفة عما كان معهوداً في السابق.

المواقف غير الرسمية:

بالإضافة لتلك المواقف الرسمية الصادرة عن مؤسسات الدولة المختلفة، فقد كانت هناك مواقف أخرى -في نفس الاتجاه الذي تم الإشارة إليه سلفا- لمؤسسات إعلامية أو دينية.

وبالرغم أنها مؤسسات غير ناطقة رسميا باسم النظام، إلا أنه من المعروف أنها محسوبة عليه وتدار بتوجهات مباشرة من أجهزته ومؤسساته. 

وفي ذلك السياق فقد كان خطاب أبرز المنابر الإعلامية التابعة بشكل مباشر لأجهزة الدولة في أزمة 2021 شديد اللهجة في إدانته للموقف الإسرائيلي ودعمه للفلسطينيين في القدس.

ركز هؤلاء الإعلاميون على القدس وما يحدث للمصلين وسكان حي الشيخ جراح ووصف قرارات إسرائيل "بالتهجير العرقي والإرهاب" وتطرق بعضهم إلى ما يحدث في غزة ودور المقاومة. 

أكد الخطاب على الروابط الدينية والاجتماعية ولكنه لم يحمل أي دعوات جماهيرية. كما استهزأ بعض الإعلاميين بالتصريحات الأميركية وتحيزها للجانب الإسرائيلي.

كما جاءت خطبة الجمعة في الجامع الأزهر داعمة للقضية ومنددة بشدة بالعدوان الإسرائيلي إلى حد التعليق بـ"ما أخذ بالقوة لا يرد إلا بالقوة" ولكنها متماشية مع الخطاب الإعلامي في تركيزها على الانتهاكات الواقعة في المسجد الأقصى وغياب أي دعاوى أو مطالبات للنظام المصري. 

وبالعودة لرصد مواقف ذات المؤسسات الإعلامية المحسوبة على النظام، ففي حرب 2014، وفي سياق انشغال مؤسسات وأجهزة الدولة المصرية في ذلك الحين -بعد وقوع انقلاب الثالث من يوليو/تموز- بمواجهة رافضي الانقلاب، كان الأمر مختلفا تماما استناداً إلى اعتبار حركة حماس جزءاً من جماعة الإخوان المسلمين، التي كان قد تم تصنيفها إرهابية لدى السلطات المصرية. 

وقد نالت حركة حماس في ذلك السياق تشويهاً متعمداً، حيث صدرت مزاعم بإرسال قوات من قطاع غزة لاعتصام رابعة لمساندة أنصار الشرعية في مصر، واختباء القائم بأعمال المرشد العام للإخوان الدكتور محمود عزت داخل القطاع، وهو ما دفع الحركة لنفيه تكراراً مفيدة بعدم تدخلها في الشأن الداخلي المصري.

أما على المستوى الشعبي، فلم يسمح النظام المصري لأي تحركات شعبية تتماشى مع الخطاب الديني والإعلامي والدبلوماسي الذي يصدره، وكذلك اعتقل بعض الأفراد الذين عبروا عن احتجاجهم ضد إسرائيل بشكل علني.

قد يكون مرد ذلك السلوك إلى أمرين؛ الأول هو أن النظام قد لا يأمن عواقب نزول الناس إلى الشوارع، حيث من الممكن أن تتحول الاحتجاجات لأي سبب كان إلى وسيلة ضغط عليه، أو حتى احتجاجات ضد النظام بشكل مباشر.

 أما الثاني فهو إرسال رسالة مباشرة إلى الكيان الإسرائيلي -الذي يعلم تمام العلم توجهات الشعب المصري المعادي للاحتلال- أنه لولا وجود هذا النظام، لكان ملايين المصريين موجودين في الشوارع ضد تل أبيب.


ثانيا: دوافع وأسباب تغيير النظام المصري لموقفه:

بناء على ما قُرِّر في الجزء السابق من الورقة من أن الموقف المصري مختلفٌ عما كان عليه موقفه في التصعيد ضد غزة عام 2014، فإننا نحاول في هذا القسم البحث عن الدوافع التي سببت هذا الاختلاف النسبي في موقف النظام المصري. 

لذا، فإننا نحتاج إلى تسليط الضوء على عدد من التطورات في العلاقة بين النظام المصري والكيان الإسرائيلي من خلال المحاور والعناصر التالية:

العلاقة بين النظام والإدارة الأميركية:

يعد الدور المصري في القضية الفلسطينية هو أحد أهم محددات العلاقة بين مصر والولايات المتحدة وبالتحديد منذ توقيع ”اتفاقيتي كامب ديفيد" بين مصر ودولة الاحتلال الإسرائيلي عامي 1978 و1979. 

فبعيداً عن تفاصيل اتفاق التطبيع المصري-الإسرائيلي الذي وقعه الرئيس المصري الراحل أنور السادات، فإن الاتفاق ذاته سمح لمصر بعد ذلك بأن تكون الوسيط الأول بين دولة الاحتلال وفصائل المقاومة الفلسطينية، وأن تكون أحد ركائز حفظ الأمن في المنطقة طبقاً لمفهوم واشنطن له. 

وهذا بدوره أضفى قيمة إضافية وأهمية للقاهرة لدى الحكومات الغربية، وعلى رأسها الإدارات الأميركية المتعاقبة.

 ولعبت مصر بالفعل دور الوساطة تاريخيا في العديد من القضايا على الساحة الفلسطينية في عهد الرئيس الأسبق، محمد حسني مبارك، والمجلس العسكري، ثم الرئيس الراحل محمد مرسي. 

تمثل هذا الدور في التوسط بين حركة المقاومة الإسلامية (حماس) التي تدير قطاع غزة، وحكومة الاحتلال لإنهاء جولات تصعيدية عديدة كما حدث عام 2009 و2012 و2014. بالإضافة إلى أن مصر كانت الوسيط في صفقة تبادل أسير جيش الاحتلال، جلعاد شاليط، مع 1027 أسيرا فلسطينياً في 2011.

لكن بعد اتفاقيات التطبيع التي أبرمتها بعض الدول الخليجية والعربية، وعلى رأسها الإمارات، مع الكيان الإسرائيلي، كان من المنتظر أن ينتقل مركز ثقل إدارة العلاقة بين العرب وإسرائيل من القاهرة إلى عواصم أخرى وبخاصة أبوظبي، وبالتالي كان من المفترض أن يؤدي ذلك لتراجع أهمية الدور المصري في هذا الملف بالنسبة لمتخذ القرار الأميركي.

انطلاقاً من هذه النقطة الجوهرية، ومن فهم النظام المصري لأهمية دوره في المنطقة بالنسبة للولايات المتحدة، فقد رغب النظام -كما سنوضح تفصيلا- في توظيفه خلال جولة التصعيد الحالية بين فصائل المقاومة ودولة الاحتلال، بحيث ترسل القاهرة رسالة إلى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، مفادها أن دوره لا يمكن تجاوزه بحال، وأن واشنطن تحتاج إليه لتحقيق استقرار الوضع في المنطقة، طبقاً للرؤية الأميركية.

وبطبيعة الحال، ففي ظل وجود بايدن في البيت الأبيض، فإن السياق الحالي للعلاقات بين واشنطن والنظام المصري يشير إلى تراجع مستوى العلاقات.

 فمنذ الحملة الانتخابية له، لم يخف بايدن رؤاه السلبية حول نظام عبدالفتاح السيسي، خصوصاً في ملف الديمقراطية والحقوق والحريات. واشتهر عنه تصريحه بأنه "لا مزيد من الشيكات على بياض لديكتاتور (الرئيس السابق دونالد) ترامب المفضل". 

وبعد وصول بايدن للرئاسة زادت وتيرة إصدار البيت الأبيض لبيانات تنتقد انتهاكات أجهزة الأمن في مصر لحقوق الإنسان، وتصاعد الضغط الأميركي على السيسي في هذا الملف. 

نتج عن هذا بالفعل بعض الإفراجات عن عدد – ولو محدود- من الإعلاميين والنخب الذين احتفظ بهم النظام في سجونه لسنوات. كذلك، لم يجر بايدن أي اتصال بالسيسي حتى قبيل العدوان الأخير، رغم مرور ما يقارب الـ4 أشهر على استلام الأول منصبه. 

كما أن هناك ضغطاً متزايداً على السلطة في مصر فيما يخص ملف حقوق الإنسان والمجتمع المدني. وفي المقابل، هناك حدث قوي في المنطقة يتمثل في التصعيد الكبير الحالي بين الفصائل الفلسطينية ودولة الاحتلال.

 الأمر الذي قد يشكل فرصة يستثمرها النظام لتحريك سياسة الولايات المتحدة تجاهه، انطلاقا من معرفة السيسي للعقلية الأميركية التي تحركها توازنات المصالح كأولويات لتحديد سياساتها الخارجية، وقد تبدى ذلك النهج البراغماتي الأميركي في التعامل مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، على سبيل المثال. 

فرغم تأكيد أجهزة الأمن الأميركية أن لابن سلمان دوراً في اغتيال الصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، لم تفرض واشنطن عقوبات على شخصه، وصرح وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، أن الولايات المتحدة مضطرة للعمل معه لأنه سيحكم المملكة لفترة طويلة كما يبدو.

وبناء على ما تقدم، فقد حافظ النظام المصري على اتصالاته الدبلوماسية المكثفة مع إسرائيل والفصائل الفلسطينية بمختلف توجهاتها، ليوصل رسالة مفادها أن مصرَ لا يمكن استبدالها بأحد للقيام بهذا الدور.

ومما لا شك فيه أن أهداف النظام قد تحققت نسبياً، فقبل ساعات معدودة من إنفاذ وقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حظي السيسي باتصال من جو بايدن، وفيه عبر الأخير عن ”تقديره وتثمينه“ لجهود النظام مع جميع الأطراف، والتي ”تتسم بالاتزان والحكمة“، فضلاً عن أنه ”يرسخ دور مصر التاريخي والمحوري في الشرق الأوسط وشرق المتوسط وأفريقيا لدعم الاستقرار وتسوية الأزمة“، حسب البيان الصادر عن الرئاسة المصرية.

لذا، فإن الموقف المصري الحالي من مستجدات الأوضاع على الساحة الفلسطينية عكس رغبته في أمرين. 

الأول هو أن يبتز إدارة البيت الأبيض لتتواصل مع النظام المصري في أعلى المستويات وبشكل طبيعي، بحيث لا يظهر رأس النظام على المستوى الدولي وكأنه منبوذ من قِبل إدارة الدولة الأهم في العالم. 

والأمر الثاني، هو أن تخفف الإدارة الأميركية حدة انتقاداتها للنظام المصري في ملف الحقوق والحريات، وأن تغلب مصلحتها معه في حماية أمن إسرائيل إذا وجدت أن الخلافات حول ملف حقوق الإنسان ستعود بالسلب على رؤيتها الأمنية للشرق الأوسط.

مستجدات العلاقة بين النظام المصري وإسرائيل:

من الممكن وصف علاقة إسرائيل بالنظام المصري الحالي منذ بداياته بأنها علاقة تحالف وثيقة، حيث كان للكيان دور بارز في ترويج فكرة قبول السيسي على المستوى الدولي.

ودولة الاحتلال كانت أحد أبرز المشجعين والمنسقين للانقلاب العسكري قبل وقوعه في 3 يوليو/ تموز 2013، كما كانت أحد أبرز الداعمين والمسوِّقين له دولياً بغية إكسابه الشرعية.

فضلاً عن أن إسرائيل تعد أحد الأعمدة الرئيسة في المحور الإقليمي الذي ينتمي إليه النظام المصري ويكتسب جزءاً كبيراً من قوته ونفوذه من خلال دعم وتأييد هذا المحور. 

أكد ذلك أيضاً العميد في جيش الاحتلال الإسرائيلي، آرييه الداد، في مقال نشرته له صحيفة معاريف الإسرائيلية في أعقاب الانقلاب العسكري في مصر عام 2013، حيث تحدث عن الدور الإسرائيلي في إسقاط الرئيس الراحل محمد مرسي.

تحدث إلداد صراحة عن مرحلة الانقلاب العسكري، وقال إن حكومة الاحتلال "فعَّلت أدواتها الدبلوماسية، وربما وسائل أكبر، لإحضار عبد الفتاح السيسي إلى السلطة في مصر، وإقناع الإدارة الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما بعدم معارضة هذه الخطوة".

 فبعد فترة وجيزة من الانقلاب، أطلقت إسرائيل بشكل سريع بعثاتها الدبلوماسية في الولايات المتحدة والعديد من الدول الأوروبية للضغط من أجل دعم الواقع السياسي الجديد في مصر ولمنع الحصار الدبلوماسي على القاهرة بعد الانقلاب العسكري.

وبالتالي، فإن الورقة تنطلق من أن علاقة النظام المصري الحالي مع الكيان الإسرائيلي هي تحالفية، سيكون من الصعوبة بمكان أن يستطيع النظام الفكاك منها أو تغييرها إلى خصومة أو غير ذلك، على الأقل في المستويين القريب والمتوسط، فوجوده وشرعيته مرتبطان بشكل كبير بوجوده داخل المحور الإقليمي المناهض لثورات الربيع العربي، وذلك منذ نشأته، كما وضح العميد العسكري في جيش الاحتلال الإسرائيلي.

لكن -ومع الإقرار بهذه الحقيقة- من المهم إدراك أن هذا التحالف واجه بعض تعارضات المصالح  بين الطرفين مع تطور الأحداث في المنطقة والإقليم.

وبناء على ذلك، لا بد من البحث في تلك النقاط التي ساهمت في تكوين حالة فيها بعض التباين في محددات وأطر العلاقة بين الطرفين، حتى نستطيع تفسير وفهم بعض المواقف التي من الممكن وصفها بأنها تشذ عن إطار التحالف بين دول هذا المحور، أو بالأخص مصر وإسرائيل، باعتبارهما محل البحث في هذه الورقة. 

الموقف الإسرائيلي من سد النهضة الإثيوبي:

من أهم التحديات التي تواجه الدولة المصرية بمؤسساتها خلال الوقت الراهن هو التحدي المتعلق بسد النهضة الإثيوبي، حيث من الممكن وصف التأثيرات السلبية الناتجة عن إكمال بناء السد وتشغيله وفقاً لوجهة النظر الإثيوبية بأنها تأثيرات ”وجودية أو مصيرية“ بالنسبة لمصر.

فمصر -التي تعتمد بنسبة قدرها 95 بالمئة من احتياجاتها المائية على نهر النيل، وتبلغ حصتها السنوية 55.5 مليار متر مكعب من مياه النيل منذ الاتفاقية التي وقعتها مصر والسودان عام 1959- لم تزد حصتها من المياه منذ ذلك الحين رغم الفارق الشاسع بين احتياجات القاهرة المائية في ذلك الحين وبين الفترة الراهنة. 

وتتعدد الآثار السلبية التي ستلحق بمصر إذا ما نفذت إثيوبيا وجهة نظرها كاملة في استكمال بناء وتشغيل السد، حيث ستنخفض الأراضي الزراعية في صعيد مصر بنسبة تُقدر بـ 29.47 بالمئة، وكذلك بنسبة قدرها 23.3 بالمئة في الدلتا، وهو ما يعني أنها ستفقد نحو ثُلث رقعتها الزراعية. 

 كما ستنخفض حصة مصر من مياه النيل سنوياً إلى 37.26 مليار متر مكعب إذا ما ملأت إثيوبيا سدها خلال 6 سنوات، ولـ 13.29 مليار متر مكعب إذا كان الملء خلال سنتين، فضلاً عن العديد من الآثار السلبية الأخرى.

ومن المهم هنا الالتفات إلى أن آثار سد النهضة السلبية قد تنسحب على رأس النظام، والسيسي شخصياً، حيث إن التوقيع على اتفاقية المبادئ عام 2015 كان يغلب عليه التصرف الفردي من رئيس النظام -على غير رغبة الأجهزة البيروقراطية للدولة- حيث إن ذلك التوقيع مع إثيوبيا أعطي شرعية الموافقة الرسمية لمصر على السد.

ورغم ذلك، فقد أصر السيسي على التوقيع، واثقاً أنه سيتمكن من إقناع الإثيوبيين بعدم الإضرار بالمصالح المصرية. 

وبالتالي، فإن إخفاق السيسي في هذا الملف سيؤثر بلا شك على مشروعيته أمام الشعب، والأهم أنه سيطال كذلك مشروعيته أمام أجهزة الدولة المختلفة التي تجاهل نصائحها للتعاطي مع ملف سد النهضة.

 فضلا عن أن التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية  السلبية الواسعة للسد- في حال استكماله- ستزيد بلا شك من التحديات أمام نظام السيسي فيما يتعلق بإحكام السيطرة على التقلبات الاجتماعية  المتوقعة، أو مواجهة الضغوط والإشكالات الاقتصادية التي سيكون لها تأثيرات اجتماعية مباشرة.

 ما نريده من هذا الاستعراض هو التأكيد على مركزية وجوهرية ملف ”سد النهضة“ بالنسبة لمصر كدولة، وللنظام كذلك. وبالتالي، فإن تواطؤ دولة ما أو تعاونها مع إثيوبيا في هذا الملف قد يعد سبباً كافيا لتوتر العلاقات معها. 

وبالنظر إلى موقفها من سد النهضة، فيتضح أن هناك مؤشرات عديدة إلى أن لإسرائيل دوراً بارزاً في تشجيع إثيوبيا على بناء السد، بغية التحكم في الموارد المائية المصرية، وتحزيم الدولة المصرية وتهديدها إستراتيجيا.

وقد تَبدَّى الدور الإسرائيلي في سد النهضة من خلال الشواهد الآتية:

في مبنى وزارة المياه والكهرباء الإثيوبية، يوجد طابق كامل مخصص للأطقم الفنية الإسرائيلية، ودورهم تقديم الخبرات الفنية والتفاوضية للسلطات الإثيوبية، وقد جاء تأكيد ذلك في تصريحات لوزير الري والمياه السابق، محمد نصر علام. وكرر التأكيد عليها مسؤولون سودانيون ذوو صلة بملف السد. 

كما أكد ذلك تصريحات رئيس الأركان المصري السابق، محمد علي بلال، في مايو/ أيار 2013، بأن عدداً كبيراً من الإسرائيليين يعملون في السد.

تنشط الشركات التابعة للكيان الإسرائيلي في إثيوبيا، لا سيما تلك الشركات التي لها علاقة باحتياجات بناء سد النهضة الإثيوبي، ففي أثناء النزاع بين إثيوبيا ومصر، وعلى سبيل المثال، أعلنت شركة Giga-watt Global  الإسرائيلية عن اهتمامها باستثمار حوالي 500 مليون دولار في إثيوبيا في مجال الطاقة المتجددة.

علق حينها النائب البرلماني أحمد العوضي، بأن إسرائيل من الدول الداعمة لسد النهضة، وعبر عن مخاوفه من أن تستخدم تل أبيب هذه التأثيرات لاحقاً للتأثير على المصالح المصرية.

في 2016، عبر بنيامين نتنياهو عن سعادته لكونه أول رئيس حكومة إسرائيلي يزور إثيوبيا وشدد على استعداد بلاده للدعم التكنولوجي للإثيوبيين لاستكمال مشاريعهم، وخص بالذكر الزراعة والمياه.

 وبشكل واضح، قال نتنياهو حرفياً: “هذه هي رؤيتي لتعاوننا: أن يتمتع المزارعون الإثيوبيون بفوائد المعرفة الإسرائيلية، ويعملون معنا لتوجيه المياه إلى كل اتجاه يريدونه”.

وهناك شواهد أخرى تاريخية وواقعية متعددة تشير إلى الدور الإسرائيلي الداعم لبناء سد النهضة الإثيوبي، وليس هنا مجال ذكرها جميعاً. وعليه، نخلص مما سبق بتقرير حقيقة سلبية الموقف الإسرائيلي تجاه مصر في قضية سد النهضة. 

مشاريع تضر بالمصالح الإستراتيجية لمصر:

مشروعا ”إيلات-عسقلان“ و”East Med“

في يناير/ كانون الثاني 2020، وقعت كل من إسرائيل وقبرص واليونان على اتفاق لإنشاء خط أنابيب شرق المتوسط ”East Med“ لنقل الغاز الإسرائيلي والخليجي لأوروبا مباشرة. 

وفي أكتوبر/ تشرين الثاني 2020، وقعت الإمارات وإسرائيل اتفاقاً لبناء ممر ”إيلات-عسقلان“ لنقل الغاز يربط بينهما مروراً بالسعودية.

 وحسب الاتفاق، من المقرر نقل النفط والغاز الطبيعي من دول الخليج عبر الأنابيب وصولاً إلى مدينة إيلات جنوبي فلسطين، ثم إلى مدينة عسقلان في الجنوب الغربي، ومنها إلى دول البلقان وأوروبا وأمريكا الشمالية عبر خط ”East Med“.

وجراء هذين المشروعين الإسرائيليين الإماراتيين، ستُمنى مصر بخسائر اقتصادية فادحة، والأهم هي الخسائر الجيوسياسية والجيوستراتيجية الكبيرة التي ستلحق بالقاهرة.

 فبالنسبة للخسائر الاقتصادية، يعد المشروع ضربة لقناة السويس المصرية التي تسيطر على حركة نقل هذا الغاز بشكل شبه كامل، حيث من المرجح أن حركة التجارة في قناة السويس ستتناقص بأكثر من 17 بالمئة مع تشغيل أنبوب ”إيلات-عسقلان“ بموجب الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي.

أما بالنسبة للشق الجيوسياسي، فمن المعلوم أن دولة الاحتلال منذ قيامها عام 1948 وهي تحاول إيجاد بدائل لضرب قناة السويس، التي تشكل أحد أهم الممرات في العالم لنقل النفط والغاز الطبيعي، والتجارة الدولية بشكل عام. 

فالكيان الإسرائيلي طالما كان منزعجا من المكانة الإستراتيجية والسياسية التي تحظى بها مصر بسبب قناة السويس وأهميتها بالنسبة للتجارة الدولية، وليس أدل على تلك الحقيقة من التصريحات الواضحة لوزير الطاقة الإسرائيلي، يوفال شطاينتس للقناة الثانية العبرية عقب توقيع الاتفاق مع قبرص واليونان وإيطاليا، حيث قال: ”على مدى عقود، كنا بإسرائيل نشكو من تغلغل وهيمنة النفوذ العربي في أوروبا، خاصة في مجال الطاقة، وعليه فإن تصدير الغاز من إسرائيل سيقوض التأثير العربي بأوروبا، وستكون إسرائيل قوة موازية للنفوذ العربي“. 

وبجانب الأضرار الاقتصادية الجيوسياسية التي ستلحق بقناة السويس، فإن هذه المشاريع تستهدف بشكل واضح الطموحات المصرية لأن تصبح مركز توزيع إقليمي للغاز، حيث تمتلك مصر محطتي إسالة للغاز الطبيعي.

وخلال السنوات الماضية، سعت مصر لإعداد البنية التحتية اللازمة لتكون مركزاً إقليمياً لتجميع الغاز وإسالته وإعادة بيعه. لكن خط ”East Med“ الإسرائيلي المدعوم إماراتياً يعرقل هذا الطموح المصري، وبالتالي، يقوض من الأهمية الجيوسياسية للقاهرة في شرق المتوسط.

وقد خَطَى الاحتلال -بالتعاون مع الإمارات- عبر هذه المشاريع خطوات فعلية لتقوية نفوذه وتقويض الأهمية الجيوستراتيجية لمصر، حتى أن مجلة ”فورين بوليسي“ الأميركية في تعقيبها على الخطوة الإماراتية الإسرائيلية، قالت إن ”إسرائيل على وشك أن تلعب دوراً أكبر بكثير في تجارة الطاقة وسياسة البترول بالمنطقة، بعد أن عزز اتفاق الإمارات معها خط أنابيب تم بناؤه سراً بين تل أبيب وإيران في ستينيات القرن الماضي“.

ويبدو أن المقاومة الفلسطينية كانت واعيةً لهذه الأبعاد بشكل أو آخر في العلاقة بين النظام المصري والاحتلال، حيث استهدفت -في ثاني أيام التصعيد العسكري- خط إيلات-عسقلان، المذكور تفاصيله، بنحو 20 صاروخاً، فضلاً عن استهداف منصات الغاز الطبيعي الإسرائيلية في شرق المتوسط. 

ومن الممكن تفسير هذه الاستهدافات الدقيقة من قبل الفصائل المقاومة في قطاع غزة بأنها أرادت توجيه رسائل عدة، لم تكن موجهة لدولة الاحتلال فقط، لكن أيضاً إلى النظام المصري، المتضرر الأكبر من المشاريع الإسرائيلية في مجال الطاقة.

 لا سيما مع الإصرار الإسرائيلي على استبعاد مصر مرتين مفاوضاتها مع قبرص واليونان لتصدير الغاز إلى أوروبا، كذلك دخول الإمارات في ساحة شرق المتوسط بالتعاون مع الاحتلال، بشكل يهدد المصالح المصرية الراسخة.

مشروع ”Blue Raman“

في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، تناقلت وكالات الأنباء أخباراً تفيد التخطيط الإسرائيلي لتأسيس كابل بحري لنقل الانترنت بين أوروبا والهند، يمر عبر إسرائيل والسعودية والأردن وعمان. 

وقد قيل إن المشروع لا يقتصر على كونه تقنياً أو تكنولوجياً فقط، بل ”إنه يربط التقنية بالجغرافيا السياسية“. 

يعد خط ”Blue Raman“ البحري لنقل الإنترنت ضربة كبيرة لمصر من الناحيتين الاقتصادية والجيوسياسية، حيث إن للقاهرة دوراً هاماً في ملف نقل كابلات الإنترنت، حيث تعتبر أحد أهم مراكز مرور الكابلات البحرية التي تنقل الإنترنت عبر العالم.

ويمر من مصر نحو 17 بالمئة من إجمالي الكابلات البحرية عبر العالم، ما يعني أنها في المركز الثاني بعد الولايات المتحدة من حيث عدد الكابلات البحرية الناقلة للإنترنت التي تمر عبر نطاقها الجغرافي، كما أن نحو ثُلث سكان العالم يعتمدون على القاهرة للوصول إلى الإنترنت.

في أبريل/ نيسان 2021، نشرت صحيفة هآرتس العبرية تقريراً تقول فيه إن أحد أهداف إنشاء هذا الخط هو تخطي مصر وتجاوزها. 

وبحسب مركز الإمارات للسياسات، فإن القاهرة معرضةٌ لأن ”تفقد ميزتها التنافسية كمعبر لكوابل الإنترنت الدولية بعد دخول إسرائيل منافساً لها، عبر تقديم نفسها معبراً بديلاً أقل سعراً وأقصر طريقاً منها، كما أنها معبر غير مزدحم مثل مصر التي يتم الترويج لكونها نقطة اختناق للكابلات البحرية العالمية يُفضَّل تفاديها مستقبلاً“.

آثار التطبيع الإماراتي مع إسرائيل:

كما ذكرنا، فإن "اتفاق السلام" الموقع بين مصر ودولة الاحتلال، مكَّن القاهرة من لعب دور الوسيط الرئيس فيما يطلق عليه "الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني وعملية السلام". 

واستفادت مصر من لعب هذا الدور لمدة تزيد عن الأربعين عاماً، كانت فيها مركز الثقل في المنطقة، وطرفاً أساسياً في أي خطة تسوية فيها. 

لكن المتغير الأبرز الذي طرأ على هذه المزية هو موجة التطبيع الأخيرة التي بدأت في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، وقادتها الإمارات العربية المتحدة. 

فقد أصبحت الإمارات في 13 أغسطس/ آب 2020، ثالث دولة عربية، توقع اتفاقية سلام مع دولة الاحتلال، بعد مصر عام 1979 والأردن عام 1994. 

تبع ذلك توقيع البحرين اتفاقية مماثلة في 11 سبتمبر/ أيلول 2020، ثم السودان في 23 أكتوبر/ تشرين الأول من العام نفسه، وأخيراً المغرب في 10 ديسمبر/ كانون الأول.

اتفاقيات التطبيع الموقعة، والتي قد توقع في المستقبل، كلها تسحب من الميزة النسبية لمصر في المنطقة، لصالح دول أخرى، وعلى رأسها الإمارات، التي ذهبت بعيداً في تطبيعها مع الكيان.

فقد بدا أن ما جرى بين الإمارات وإسرائيل ليس مجرد "اتفاق سلام" إنما تخطى ذلك وصولا لحالة تحالف كامل، ومد لعلاقات ترغب فيها أبو ظبي أن تتجاوز المستوى السياسي إلى الشعبي كذلك.

وعلى هذا، فإن لدى النظام المصري تخوفاً حقيقياً من أن يتم تقزيم دوره في المنطقة، لأن هذا سيقلل من أهمية الدور الذي يلعبه النظام في الإقليم، وبالتالي قد يتراجع الاهتمام  الدولي به بمرور الوقت. 

عبر عن ذلك المحلل السياسي الإسرائيلي، تسفي بار إيل، بقوله إن "السلام بين الإمارات وإسرائيل من شأنه أن ينقل مركز الثقل من القاهرة إلى الخليج، وأن يساهم في تقليص نفوذ مصر وأهميتها، بخاصة في حال انضمام دول خليجية أخرى إلى قطار التطبيع".

في ذات السياق، وإبان موجة التطبيع، نشرت صحيفة معاريف الإسرائيلية مقالاً تحت عنوان "مصر قد تفقد أسبقيتها حال تهافت دول خليجية أخرى إلى السلام".

قالت فيه إنه "مع توقيع الإمارات اتفاق تطبيع مع إسرائيل، فإن مصر قد تفقد الأسبقية في قضايا مختلفة، وسيزيد ذلك في حال انضمت دول عربية أخرى إلى هذا التطبيع". 

ويؤكد ذلك ما قاله سفير دولة الاحتلال السابق لدى القاهرة، يستحاق ليفانون، في مقال نشرته صحيفة معاريف، من أن حراك الإمارات فيما يتعلق بتطبيع الدول العربية وتقاربها مع "إسرائيل"، من شأنه أن يؤدّي إلى ضعف مصر.

إذن، فإن النظام يحاول أن يستغل جولة التطورات الأخيرة لإثبات أن دوره لا يمكن تجاوزه، وأن أهميته الإستراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة على وجه الخصوص ما زالت باقية، وأن موجة التطبيع الحادثة في المنطقة- حتى وإن توسعت- فإنها لن تنجح في تقزيم أو تهميش الدور المصري.

إذ إن النظام في مصر أراد التأكيد على أن موقعها الجغرافي، بالإضافة إلى سعيه للاحتفاظ بعلاقات مع كل من الاحتلال الإسرائيلي، والسلطة الفلسطينية، وحركة حماس، يمكنه من تحقيق هذا الهدف، ويصعب الأمر على من يرغب في تجاوزه أو تخطي دوره.


الاستنتاج والخاتمة

بالرغم من منع نظام السيسي أي حراك شعبي في الشارع المصري للأسباب التي أسلفنا ذكرها، فإنه سمح بالخطابات الدينية والإعلامية حادة اللهجة ضد إسرائيل.

قد يكون ذلك لتحقيق هدفين، الأول هو التنفيس أو التجاوب السياسي مع غضب الشارع والمجتمع، والثاني هو إرسال رسالة مفادها أن التيار المعادي لإسرائيل مازال موجوداً بقوة في مصر، وأنه لولا وجود هذا النظام على رأس السلطة لتشكلت حالة شعبية وسياسية لن تكون في صالح تل أبيب.

بطبيعة الحال، فقد حدث تباطؤ واضح في فتح المعابر والحدود وجرى الاكتفاء بالضغط الدبلوماسي والبيانات السياسية التي أشرنا إليها، ومن الممكن تفسير ذلك بأنه يندرج تحت التوجهات الثابتة للنظام المصري والضاغطة بشكل واضح -لأسباب بنيوية وأيديولوجية- على حركات المقاومة الفلسطينية، وهو الموقف الذي لم يطرأ عليه تغيير يذكر.

كما برز في المبحث الأول، فقد ظهر تباين الموقف بين 2014 و2021 جليا في لغة البيانات الرسمية وحجم التحركات الدبلوماسية والسياسية وتوجهات التغطية الإعلامية. 

علاوة على ذلك فهناك اختلافات في الحالتين مرتبطة بطبيعة النظام المصري نفسه في كليهما، إذ كان في الأول نظاما وليدا يبحث عن دعم دولي، كان من وسائله الرئيسة لتحقيق ذلك حينها هو الدور الإسرائيلي، وقد كانت لديه في 2014 رغبة عارمة في تشويه مكثف لغريمه الداخلي الأبرز الذي يملك ارتباطاً أيديولوجياً واضحاً بحالة المقاومة في فلسطين، أما في الحالة الثانية فهو نظام أكثر استقرارا يمر بأزمات وجودية حقيقية، و يدافع عن دوره ومكانته. 

وقد تبين أن تغير موقف النظام المصري بين عامي 2014 و2021 يفيد بأن تعامل النظام ومواقفه تجاه القضية الفلسطينية محكوم بعدد من العوامل المصلحية أو البراغماتية التي يراها نظام السيسي، وأن موقفَه تجاهها غير نابعٍ من موقف مبدئي أو "مبادئي" داعم للقضية الفلسطينية أو للمقاومة. 

بل إن غالب تحركات النظام طيلة السنوات السبع الماضية كانت تشي بأن موقفَه المبدئي هو تشويه المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على وجه التحديد، ويبقى الموقف الأخير للنظام المصري في 2021 معرضاً للتغير والتحول في أي وقت طبقاً للمساومات وإمكانية تحقق المصالح التي يسعى إليها. 

ذلك بطبيعة الحال على عكس الموقف في عهد الرئيس محمد مرسي في 2012، حيث انطلق النظام حينها-كما أوضحنا- على أساس مبادئي ثابت، بينما تبدل وتغير موقف نظام السيسي من القضية استنادا على أساس تحقيق مكاسب سياسية مباشرة.

مما لا شك فيه أن تراجع دور النظام المصري في المنطقة بسبب السياقات التي سبقت هذا العدوان، والتي تم إيضاحها أعلاه، يضعف من أهمية رأس النظام لدى القوى الإقليمية والدولية،  وهو ما يعني سهولة تراجع دعمه بشكل ما أمام الأزمات المختلفة.

 وبالتالي، يخشى النظام من أن التراجع الكبير في أهمية مصر كدولة يتبعه تراجع كبير في أهميته كنظام يعتمد في استقراره وشرعيته إلى حد كبير على الدعم الخارجي المقدم له، بشقيه الإقليمي والدولي.

وعلاوة على ذلك، فإن علاقة النظام المصري أو الدولة المصرية لم تكن في أحسن حالاتها مع الكيان الإسرائيلي قبيل تلك الحرب.

لا شك أن النظام المصريَّ برغم ارتباطه مع الكيان الإسرائيلي بعلاقة تحالفية، وبالرغم من كون سلوكه مع حركات المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها حركة حماس، يمثل علاقة توتر وشد وجذب مستمر، إلا أن العدوان الأخير مثل فرصة للنظام المصري لاسترداد مكانته وأهميته الإقليمية.

 كما منحت غزة فرصة للضغط على إسرائيل خاصة بعد عدم مراعاتها في الفترات الأخيرة المصلحة المصرية في العديد من القضايا الإستراتيجية، وفضلا على ذلك فقد وظف النظام دوره في التوسط في تلك المواجهة في دفع القوى العظمى وبخاصة الإدارة الأميركية لإعادة دراسة موقفها من السيسي.

حمل الموضوع كاملاً بصيغة pdf

كلمات مفتاحية :

إسرائيل إيران الإمارات السعودية السلطة الفلسطينية المسجد الأقصى الولايات المتحدة جو بايدن حماس دونالد ترامب