محمد عابد الجابري.. مفكر مغربي هاجمه الإسلاميون وغضب عليه اليسار

سام أبو المجد | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

قبل 11 عاما، وتحديدا في 3 مايو/أيار 2010، ترجل عن عالمنا صاحب أشهر تناولات نقدية للعقل العربي في العصر الحديث، الفيلسوف والمفكر المغربي محمد عابد الجابري، تاركا وراءه نحو 30 كتابا، ومشروعا فكريا هو الأكثر ثراء وإثارة للجدل.

بدأ الجابري حياته العلمية كأقرانه في "كتاب القرية"، فأتقن القراءة والكتابة وحفظ أجزاء من القرآن، وأظهر نبوغا مبكرا، وبرع في الحساب ثم في اللغة الفرنسية.

ومع أن الجابري عاش طفولة صعبة في ظل أبوين منفصلين، وترعرع في أحياء فقيرة، وبيئة صحراوية قاسية، استطاع أن يتجاوزها ويكون حصيلة معرفية ساعدته في إنتاج فكر غذى كثيرا من العقول وأثر في جيل بكامله.

قضى الجابري 45 عاما من عمره مدرسا ثم ناظر ثانوية، وبعدها مراقبا وموجها تربويا لأساتذة الفلسفة في التعليم الثانوي، ثم أستاذا للفلسفة في الجامعة.

وشارك في النضال ضد الاستعمار الفرنسي للمغرب، وانخرط في صفوف المقاومة خلال خمسينيات القرن الماضي، وبعد استقلال المغرب عام 1956، تم اعتقاله في 1963 مع عدد من قيادات حزب "الاتحاد الوطني للقوات الشعبية"، ثم اعتقل مرة ثانية عام 1965 مع مجموعة من رجال التعليم.

كان الجابري قياديا في "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية"، قبل أن يقدم استقالته من الحزب مطلع الثمانينيات، ويعتزل العمل السياسي، ويتفرغ للإنتاج الفكري.

في ستينيات القرن الماضي، عمل الجابري في مجال الإعلام، واشتغل في جريدتي "العلم"، و"المحرر"، وساهم في إصدار مجلتي "أقلام"، و"فلسطين" الأسبوعية التي صدرت عام 1968.

منهجية صارمة

بدأ الجابري حياته كباحث عام 1958، عندما سافر إلى العاصمة السورية دمشق للحصول على الإجازة في الفلسفة، لكنه لم يكمل دراسته الجامعية فعاد إلى المغرب لينتسب إلى "الجامعة المغربية الفتية"، وفيها أكمل مشواره الأكاديمي وحصل على الإجازة في الفلسفة عام 1964.

بعدها واصل دراسته وحصل على الماجستير عام 1967 بعد إعداده رسالة بعنوان "منهجية الكتابات التاريخية المغربية" التي جعلته يتعرف على ابن خلدون كعالم اجتماع.

كان ابن خلدون قد شغل اهتمام الجابري، فقرر بعدها أن تكون دراساته في الدكتوراه عنه، فكتب رسالته بعنوان "العصبية والدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ العربي الإسلامي"، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من كلية الآداب بالرباط عام 1971.

رسالة الدكتوراه عن ابن خلدون حفزته لإعادة تناول الفكر العربي، وتأثر بنظرية المعرفة الوراثية للسويسري "جان بياجيه" الذي تناول فيها كيفية تشكل "روح فكر اللاهوت" والفقه والفلسفة والأدب.

أما حياته الأكاديمية والفكرية، فقد بدأها كأستاذ للفلسفة والفلسفة العربية والفكر الإسلامي في جامعة محمد الخامس بالرباط منذ أواخر ستينيات القرن الماضي، حيث قام بتدريس نظرية المعرفة والفلسفة حينها، وتخصص بتدريس "الإبستمولوجيا" والنظم المعرفية، وهي النظم التي اشتهر بها في كتاباته.

ورأى الجابري العقل العربي "متخلفا ومقلدا للغرب"، ورأى أن هناك "خللا جوهريا" في تكوينه الثقافي والحضاري على مر التاريخ.

لهذا ركز في كتاباته على الإجابة عن سؤال: لماذا تخلفنا وتقدم الغرب؟، وحاول الإجابة عن هذا السؤال في 30 كتابا مثلت مشاريع فكرية تنوعت بين الهوية والتراث والديمقراطية والنقد.

وقد كانت كتاباته عن "العقل العربي" باكورة أعماله وجوهر كتاباته، فألف، تكوين العقل العربي، وبنية العقل العربي، العقل الأخلاقي العربي، والعقل السياسي العربي.

واعتمد الجابري في هذه الكتب على تشريح "العقل العربي" منذ عصر التدوين وحتى الوقت الحاضر، وحاول من خلال تلك الكتابات تحليل ودراسة المجتمعات المكونة والمؤثرات الثقافية واللغوية والاجتماعية في العقل العربي.

ويقصد الجابري بنقد العقل العربي، الحديث عن الأزمة في الفكر، وفي مشروعه النقدي والفلسفي، عرف الجابري بمنهجية صارمة، وهو مشروع أتى بعد تجربة فكرية ومجتمعية وسياسية متعددة المشارب في المغرب.

وفي ذلك الإطار، دعا الجابري لتجديد الفكر العربي المعاصر، ورأى أن اتجاهاته تتموضع في 3 فئات، هي "السلفية الدينية"، و"القراءة الاستشراقية"، و"القراءة اليسارية".

وقد رأى  الجابري أن تلك القراءات "كلها سلفية وإن اختلفت منطلقاتها"، إذ إن الفرق بينها هو نوع السلف الذي يتمترس خلفه كل تيار، فالقراءة الاستشراقية سلفها مفكرو أوروبا، والقراءة اليسارية سلفها الماركسية، في حين أن السلفية الدينية تتمترس خلف "جيل السلف الصالح".

نقد الإسلاميين

تعرض الجابري لنقد المدرسة الإسلامية التقليدية، وذلك لما سمتها "انحرافات" الجابري، ورأوا في عدد من النقاط منها ما سموه "موقفه المعادي للموروث الإسلامي"، وكذلك دعوته لتجديد قواعد الأصول وإعادة بناء منهجية التفكير في الشريعة.

ورأى الإسلاميون أن دعوة الجابري لتجديد قواعد الأصول أو تغييرها بشكل يواكب العصر ويساير التطور "يترتب عليها عدد من التجاوزات الشرعية"، كإلغاء الحدود الشرعية، مثل قطع يد السارق وجلد شارب الخمر، وتحويل العقيدة الإسلامية إلى فكر خاضع للرأي والاجتهاد.

وكان الجابري قد رأى، في إطار دعوته لتجديد القواعد الفقهية والأصولية، أن الحدود ليست غاية في ذاتها، بل وسيلة لردع وزجر النوازع الفردية التي تمس مصلحة الجماعة والأمة، وبناء على ذلك رأى أن السجن يفي بالغرض، وهو العقوبة التي لم تكن شائعة أو معمولا بها لدى المجتمع الإسلامي في بداياته.

كما رأى الجابري أن السلفية التي يراد بها الرجوع إلى السلف الصالح لا تناسب الأمة الإسلامية في العصر الحاضر، للحفاظ على وجودها واستمراريتها.

واعتبر أن النموذج الذي يجب استلهامه من أجل إعادة بناء الذات، تجربتان: أولاهما "جماع التجربة التاريخية للأمة العربية" بغض النظر عمن صدرت عنهم هذه التجربة وعن موافقتها للحق والصواب، والثانية: التجربة التاريخية لمختلف الأمم الأخرى.

كما تعرض الجابري لهجوم حاد إثر تصريح بأن "القرآن قد تعرض للتحريف"، وكان قد كتب مقالا في صحيفة "الاتحاد" الإماراتية عام 2006، قال فيه إن "القرآن تعرض للتحريف فسقطت آيات منه".

نقد اليسار

وإلى جانب النقد الذي تعرض له الجابري من قبل المؤسسة الإسلامية التقليدية، فإنه تعرض للنقد من قبل مفكرين يساريين، كان أشهرهم المفكر السوري جورج طرابيشي الذي أمضى نحو 25 عاما ينتج أعمالا نقدية لمشروع الجابري في تكوين ونقد العقل العربي.

وجه الطرابيشي للجابري نقدا لاذعا وألف كتابه "نقد نقد العقل العربي"، وكان الطرابيشي قد أثنى على الجابري لكنه عدل عن ذلك الثناء، ووجه انتقاداته للجابري قائلا: إنه اكتشف في سياق دراسته وأبحاثه، أن الجابري اعتمد في بعض كتبه على شواهد "مغلوطة ومقطوعة من سياقها ومفسرة من غير سياقها"، حد قوله.


وفي مقابل نظرية النظم المعرفية (الإبستمولوجيا) التي اشتهر بها الجابري في نقد العقل العربي وجموده، يلخص الطرابيشي نظريته المضادة قائلا إن "الآليات التي أدت إلى استقالة العقل وغروبه في الحضارة هي آليات داخلية نابعة من انكفاء ذاتي ومن انكماش لهذا العقل على نفسه وليس من غزوة خارجية"، محملا العقل "مسؤولية النهوض من جديد".

ومن النقد الذي تعرض له الجابري من قبل اليسار، ومن الطرابيشي على وجه الخصوص، أنه طالب باستبعاد العلمانية من قاموس الفكر العربي، وتعويضه بشعار الديمقراطية والعقلانية، وهو الأمر الذي شكل خيبة أمل لدى بعض اليساريين، على اعتبار أن الجابري "كان يعول عليه كرائد ثورة معرفية، لا ثورة أيديولوجية".

وكان الجابري قد كتب: "في رأيي من الواجب استبعاد العلمانية من قاموس الفكر العربي وتعويضه بشعاري الديمقراطية والعقلانية، فهما اللذان يعتبران تعريبا مطابقا عن حاجات المجتمع العربي". 

وحصل الجابري على عدة جوائز، بينها جائزة بغداد للثقافة العربية عام 1988، و"المغاربية" للثقافة في 1999، و"الدراسات الفكرية في العالم العربي" عام 2005، والرواد التابعة لـ"مؤسسة الفكر العربي" في 2005، وميدالية "ابن سيناء" من منظمة "اليونسكو"، بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة  عام 2006، وأخيرا جائزة "بن راشد للفكر الحر" عام 2008.