الاختراق التركي القطري لمحور الثورة المضادة.. الحدود والملامح

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

تمهيد

أولا: الاختراق الصعب في المربع السعودي

أ.مسار العلاقات التركية السعودية

ب. مسار العلاقات السعودية القطرية

ثانيا: اختراق المربع المصري

أ. العلاقات التركية المصرية

ب. البوابة المصرية القطرية

خاتمة


تمهيد

تشهد علاقات المحورين الإقليميين، المحور التركي - القطري بامتداداته، ومحور الثورة المضادة (السعودية ـ مصر ـ الإمارات)، تقاطعات تنم عن اختراقات، لكنها تتفاوت في حجم تأثيرها بالسلب على محور الثورة المضادة. فهل يمكن الحديث عن نموذجين للتأثير يختلفان في المسار السعودي عن المسار المصري؟

وهل يمكن القول بأن المسار السعودي المرتبط بازدواجية القيادة وتعدد الرؤى بين العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، أقل إفادة من هذا الاختراق من النموذج المصري الذي يشهد حضورا أقوى للمؤسسات حتى وإن كانت القيادة تعمل ضد المؤسسات بضغط من الرعاة الخليجيين والأوروبيين؟

وهل يرتبط النموذج المصري بمسارين يحاول أحدهما بناء علاقة مصالح مشتركة مع محور تركيا - قطر، فيما يحاول المسار الآخر ترميم صورة سياسته الخارجية عبر تصوير الود التركي الإستراتيجي باعتباره خوفا من قوة مصرية؟

وكيف يكون المكسب المصري في محاولات الاختراق أكبر من المكسب السعودي؟ وهل ثمة علاقة للتحولات في القيادة العالمية، وبخاصة الأمريكية بهذين المسارين؟. الورقة التي بين أيدينا تجتهد في تقديم قراءة في هذه النماذج.


أولا: الاختراق الصعب في المربع السعودي

لم تشهد السعودية حالة الاضطراب في سياستها الخارجية كما تشهده اليوم. ويبدو أن التفاهم على تقسيم الأدوار السيادية الرئيسية بين الملك سلمان بن عبد العزيز وولي عهده، بحيث يتولى العاهل السعودي الإطار الدبلوماسي، في حين يتولى ولي العهد الملف الدفاعي، هذا التقسيم السيادي ينتج صورة الانقسام التي تشهدها السياسة الخارجية للمملكة. 

وفي هذا الإطار، يبدو الملف اليمني أهم بادرات هذا الاضطراب في اللحظة الراهنة. وفي هذا الإطار كذلك، تبدو العلاقات التركية السعودية محل تأرجح بسبب التقسيم ذاته، فيما تبدو العلاقات الدبلوماسية السعودية التركية هادئة المسير.

أ.مسار العلاقات التركية السعودية: شهدت العلاقات التركية السعودية موجة من الاضطرابات، وتأثرت العلاقات بين البلدين سلبا بتأثير عدة ملفات إقليمية مثل سوريا وليبيا واغتيال الإعلامي السعودي جمال خاشقجي على الأراضي التركية بصورة وحشية، ورفض أنقرة الانسياق وراء مساعي ولي العهد السعودي لإجراء ترتيبات لاحتواء قضية الاغتيال، والتي لمح إليها ولي العهد السعودي في مؤتمر "دافوس الصحراء"، الذي عقد بالعاصمة السعودية في أكتوبر / تشرين أول 2018 .

الخلاف في التعاطي مع القوة التركية بين العاهل السعودي وابنه تجلى في قضية العلاقة مع تركيا، والتي كانت قد اتجهت للتحسن مع قمة العشرين في الرياض في نوفمبر / تشرين الثاني 2020، حيث جرى اتصال هاتفي بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان والعاهل السعودي، اتفقا فيه على تحسين العلاقات بين البلدين، ورغم هذا ما زالت العلاقات بين البلدين تشهد اضطرابا قويا بلغ حد ممارسة ولي العهد نفوذه - بدون قرار رسمي - بدفع رجال الأعمال والتجار السعوديين لمقاطعة البضائع التركية، وتعطيل إجراءات دخول الشحنات التي وصلت بالفعل للمنافذ الحدودية السعودية حتى تلفت البضائع ذات الطبيعة الغذائية، قبل أن تشهد العلاقات الاقتصادية انفراجة نسبية، خفتت على إثرها المقاطعة، قبل أن يشاع عودتها مجددا.

واتجهت العلاقات بين البلدين إلى التحسن مجددا - كما يرى مراقبون - على خلفية ملف "حرب اليمن الثانية"، ما تبدى إثر إعلان المتحدث العسكري باسم الحوثيين "يحيى سريع" على منصة "تويتر" عن إسقاطهم طائرة "تجسسية" تركية الصنع في الأجواء اليمنية، وهو الأمر الذي حمل ملامح تنفيذ الاتفاق التركي - السعودي على تحسين العلاقات في "قمة العشرين" بالرياض. وتزامن مع هذا المنحى اتفاق شركات سعودية على استيراد طائرات "كاريال"، وتوطين صناعتها في تركيا

اعتبر المراقبون أن البيان التركي حيال الهجوم الحوثي على منشآت نفطية قرب مدينة الدمام السعودية في 7 مارس/آذار 2021، كان "أكثر دفئاً" من غيره من البيانات التي طالما استنكرت بها تركيا الهجوم على المنشآت السعودية من قبل، إذ عبرت وزارة الخارجية التركية عن "قلق بالغ إزاء الهجمات التي استهدفت أراضي المملكة العربية السعودية"، وأضاف: "نعبر عن تمنياتنا بالسلامة للمملكة العربية السعودية الشقيقة حكومة وشعباً". 

ورغم نفي خبراء أتراك ما تردد عن مشاركة مسيرة "بيرقدار" التركية في حرب اليمن، إلا أن ما عزز شعورا بالتفاؤل حيال العلاقات التركية السعودية تمثل في خطاب القيادات السيادية التركية التي شاع بينها خلال الفترة الأخيرة عبارات من قبيل "صفحة جديدة"، و"من يمشي لنا خطوة نمشي له خطوتين".

وفي تصريحات لوكالة الأناضول الرسمية والتلفزيون التركي "تي آر تي" قال وزير الخارجية التركي "مولود تشاووش أوغلو": "بالنسبة لنا لا يوجد أي سبب يمنع تحسين العلاقات مع المملكة العربية السعودية.. في حال أقدمت السعودية على خطوات إيجابية فسنقابلها بالمثل والأمر ذاته ينطبق على الإمارات"، وبلغ الأمر حد تصريح تشاووش أوغلو بأن بلاده لم تتهم القيادة السعودية بالوقوف خلف هذه الجريمة (اغتيال خاشقجي) من قبل

وكان السفير التركي لدى الدوحة، محمد مصطفى كوكصو، قد صرح بقناة "الجزيرة مباشر" بأن بلاده "تريد علاقات جيدة مع السعودية باعتبارهما دولتين مهمتين في المنطقة والعالم".

التصريحات التركية سبقتها عدة مؤشرات، كان أبرزها ما جرى مطلع نوفمبر / تشرين الثاني 2020 بتقديم العاهل السعودي التعزية بضحايا زلزال ولاية إزمير التركية، إضافة للإعلان عن مساعدات للمنكوبين في الزلزال، بتوجيهات منه، هذا بالإضافة للقاء ودي جمع وزيري خارجية السعودية وتركيا والتي أعرب فيها تشاووش أوغلو لـ"فرحان" عن "الشراكة القوية بين تركيا والسعودية ليست لصالح البلدين فحسب، بل للمنطقة بأكملها".

غير أن التوافق الذي يلوح بين البلدين لم يلبث أن هدده عاملان، أولهما تدفق إعلامي يؤكد استمرار مقاطعة السعودية البضائع التركية، حيث لفتت وسائل الإعلام في هذا الإطار إلى أن الواردات التركية للسعودية قد انخفضت بنسبة 95 بالمئة .

ورغم أن نتائج المقاطعة قد تكون مرتهنة بإحصاءات ترجع للربع الأخير من العام الماضي، إلا أن حدثا آخر يشير لاستمرار التوتر، حيث أرسلت المملكة 5 طائرات من طراز "إف 15" الأميركية المملوكة لها للمشاركة في مناورات باليونان، وهو ما يأتي في توقيت تتصاعد فيه حدة المواجهة التركية اليونانية، ويتزايد تعبير الولايات المتحدة عن تأييدها لليونان، وتباين قوي في رؤيتها لمستقبل المنطقة بما يتصادم مع مقتضيات الأمن القومي التركي، وهو ما أثار قلق تركيا التي ردت بتجهيز منظومة "إس 400" للاستخدام، فيما ألمح مراقبون إلى أن "إف 15" السعودية مهمتها التجسس على تركيا والمشاركة في جهود احتوائها.

الخلاف بين سياسة ولي العهد السعودي عن سياسة والده ربما تعكس انشقاقا وصل البعض بتأويله إلى حد الانقلاب على سلطة الملك سلمان بن عبد العزيز، وهو ما يمكن الاستدلال عليه من حضور السفير السعودي للمناورات، وتسمية ملحق عسكري سعودي في "أثينا" لأول مرة

غير أن التطور السعودي الأخير يمكن تأويله في اتجاهات مختلفة، أهمها ضغط ولي العهد السعودي على تركيا لبيع مسيرات "تي بي 2" المعروفة باسم "بيرقدار" لسلاح الجو السعودي عوضا عن مسيرات "كاريال" متوسطة الارتفاع ومحدودة القدرات مقارنة بنظيرتها "بيرقدار"، وهو ما تتحفظ تركيا حياله، علاوة على إمكانية تأويل هذا التوجه بضغوط الإمارات على ولي العهد السعودي، علاوة على أثر إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن والتي يبدو أنها غير منفتحة على تركيا بشكل مناسب، وهو ما يلائم رؤية ولي العهد السعودي، الذي ما زال يرسل الرسائل المبدية للانصياع وإن كانت عبر اللجوء لبعض أعضاء الناتو الذين لجأت إليهم المملكة اليوم مثل فرنسا والمملكة المتحدة. 

ما يعزز هذا التأويل الأخير وجود قوات أميركية في "كريت" و"سودا"، ما يعني تكريس التعاون على صعيد المؤسسة العسكرية بفصل مسارها عن المؤسستين الدبلوماسية والرئاسية الأميركيتين، لعدم قطع العلاقات كليا مع المؤسسة الأمنية الأميركية.

جدير في هذا الإطار أن نشير لوجود بروتوكول تعاون عسكري سعودي - يوناني، تدعم المملكة بمقتضاه الوجود اليوناني في جزيرة "كريت". وفي المقابل، فإن الحدود اليمنية السعودية اليوم تشهد حضور 150 جنديا يونانيا مصحوبين ببطاريات صواريخ "باتريوت" المضادة للطائرات، وهي خطوة اتخذها ولي العهد السعودي في مقابل اتصالات العاهل السعودي بتركيا. كما يفيد مراقبون كذلك بأن العاهل السعودي رفض مقترحا للتزود بصواريخ ستينجر التي تنتجها إسرائيل.

وعليه، فإن المراقبين الذين يبنون تحليلاتهم على اختلاف مساري التعاطي مع تركيا بين ولي العهد ووالده يذهبون باتجاه توقع تدهور العلاقات حال تغييب الملك سلمان مغدورا أو غير مغدور. 

وفيما يبدو من دعوة الملك سلمان لتركيا من توجه غربي الخلفية يرغب في تعقيد العلاقات التركية الإيرانية، يبدو دافع ولي العهد السعودي أكثر انفعالية وأقل إحاطة بالمتغيرات الإستراتيجية.

ب. مسار العلاقات السعودية القطرية: ذكرنا سلفا أن العلاقات السعودية القطرية تسير بوتيرة هادئة، وإن كانت حال غياب المؤسسية تحت نفوذ ولي العهد السعودي تجعل من الصعب التنبؤ بحال هذه العلاقات في المستقبل في حال تغييب العاهل السعودي.

وبالنظر لتقاسم المهام السيادية بين قصري العاهل وولي العهد، ومن خلال تأكيد مراقبين على تولي القصر الملكي مهام إدارة الملف الدبلوماسي، قام وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان آل سعود، الذي زار الدوحة في الأسبوع الأول من هذا الشهر (8 مارس / آذار 2001)، حاملا "رسالة شفوية" من العاهل السعودي، وهو ما يشير لوجود ترتيبات دبلوماسية تتعلق بقضايا المنطقة، ومن بينها ملفات العلاقات الثنائية وليبيا والسودان والعلاقات التركية السعودية.

ما يشي بوجود ترتيبات، هو تلك السرية التي دلت عليها تعبيرات "الرسالة الشفوية"، فضلا عن إصرار الإعلام الرسمي للبلدين على الإشارة لملفات محددة قيد البحث بين البلدين، هذا فضلا عن أن قطر تعد إحدى ركائز محور إقليمي يضم تركيا، ويتحفظ حيال خطوات تثوير المنطقة

غير أن البعد الأكثر أهمية يتمثل في وضع قطر كوسيط لتهدئة الأوضاع في المنطقة من أجل تأمين السلم الإقليمي، وهو ما بدا جليا في استضافة قطر لاجتماع روسيا - تركيا - قطر، لخفض التوتر بين روسيا وتركيا في شمال سوريا لتجنب توريط المنطقة في صراع موسع في حالة دخول الصواريخ متوسطة المدى إلى الشمال السوري، ما قد يؤدي لتورط الولايات المتحدة في مواجهة مع تركيا أو روسيا، ما قد يؤدي لدومينو صراعي قد يتطور باتجاه حرب عالمية ثالثة يتخوف الجميع من تداعياتها.


ثانيا: اختراق المربع المصري

كما تعاني السياسة الخارجية السعودية من معضلة الاتساق بين رؤية العاهل السعودي وولي عهده، فإن مصر تعاني كذلك من اتساق الرؤية السياسية الخاضعة لضغوط خليجية مع الرؤية المؤسساتية المصرية، والتي تمثلها منظورات وزارات الخارجية والدفاع والمخابرات العامة المصرية، والتي أوقفت بعضها صدامات تركية مصرية في شرق المتوسط

هذا علاوة على مواقف عدة من وزارات مصرية قدمت نموذجا في تهدئة العلاقات والمعاملة بالمثل بأجهزة الدولة التركية، وكان آخرها ما أعلنته وزارة البترول المصرية عن جولة استكشاف جديدة للنفط والغاز في شرق المتوسط، والذي أخذت فيه بعين الاعتبار إحداثيات الجرف القاري الذي أعلنته أنقرة وفقا لاتفاقية 2019 المتعلقة بترسيم الحدود البحرية بين تركيا وليبيا، والمسجلة من قبل الأمم المتحدة في أكتوبر / تشرين أول 2020 .

أ. العلاقات التركية المصرية: توجه سلطة 3 يوليو (الانقلابية) يحفل بالتعارض مع رؤى المؤسسات المصرية للمصلحة القومية، ما حدا ببعض المؤسسات الأخرى، ومنها مستشارو وزارة الري لتأكيد نصحها الرئيس بعدم التوقيع على اتفاق إعلان مبادئ الخرطوم  في 23 مارس/آذار 2015،، كونه تهديدا مباشرا لمصالح مصر المائية. 

ويمكن القول بأن جهود المؤسسات المصرية هي التي قادت لرفع احتمالات الوصول لمصالحة مصرية - تركية، برغم أزمة هجرة الإسلاميين لتركيا وقطر. وفي المقابل، تتحرك سلطة 3 يوليو - تحت ضغط إماراتي ذي طبيعة مالية - لإسباغ صفة العدائية على هذه العلاقة، في محاولة للإمساك بالعصا من المنتصف بين إرضاء الرعاة الإقليميين من جهة، وعدم استعداء أجهزة الدولة من جهة أخرى، ما حدا بها لتمرير صورة إعلامية تصور سلطة 3 يوليو وكأنها تمانع معاودة الاتصالات الثنائية، وبرغم وجود تريث من مصر كشفت عنه تصريحات وزير الخارجية سامح شكري المتحفظة التي طالبت تركيا بالأفعال لا الأقوال، والتي يتبين من قراءتها بعمق أنها تمثل رد نفس الرسائل التي قالها المتحدث باسم الرئاسة التركية الذي أعرب عن استعداد بلاده للتقارب مع مصر "حال تبنت أجندة إقليمية إيجابية"، واصفا مصر بأنها "دولة من الدول الهامة في المنطقة والعالم العربي"، وهي تقريبا نفس التعبيرات التي استخدمها "شكري". 

إلا أن قطاعا من الأجهزة السيادية حرص على تكريس الصورة التي من مفادها أن مصر حددت 10 شروط للتقارب مع تركيا، في مشهد يكاد يتطابق مع مشهد الشروط الثلاثة عشر الصورية، والتي تجاهلها الجميع لاحقا، لمعاودة رباعي الحصار الخليجي - المصري تطبيع العلاقات مع قطر.

صورة المشهد الخاص بالعلاقات المصرية التركية كان شديد التضارب. فبرغم ما أبدته وزارة البترول المصرية من حساسية وتقدير شديدين لاتفاق ترسيم الحدود التركية - الليبية، وامتناع القوات المسلحة المصرية عن المشاركة في "مناورات عين الصقر 1"، والتي جمعت القوات السعودية واليونانية، وبرغم تأكيد أنقرة استئناف التواصلات الدبلوماسية مع مصر، بعد تواصل دام لفترة طويلة عبر الأجهزة السيادية الأمنية، سارعت اليونان للإعراب عن قلقها من سلوك وزارة البترول المصرية، ثم صدرت حملة عن وسائل الإعلام المصرية انطوت على إنكار لاستئناف المفاوضات، ما دفع دبلوماسيين "يونانين" لتأكيد عدم وجود تقارب مصري - تركي، وهو ما تلاه رد من الخارجية المصرية أكد على وجود شروط للتقارب، لكنه انطوى على اعتراف بوجود مفاوضات بالفعل، وهو ما أشارت إليه تصريحات المسؤولين الأتراك بكل دقة.

الإشارات المتناقضة التي صدرت عن الجانبين المصري والتركي لا تعدو أن تكون صورية. فمن جهة، فإن تركيا التي تعمد لمواجهة أي استكبار يصدر عن قوى غربية أو كبرى، على نحو ما فعلته في مواجهة رفض الولايات المتحدة صفقة "إس 400" الروسية، وعلى نحو صدامها الوشيك مع فرنسا في شرق المتوسط، وعلى نحو مواجهاتها مع روسيا في كل من أذربيجان وأوكرانيا، لم يصدر عنها أي تهديد لمصالح مصر، أو أمنها، وكان أقصى توتر للعلاقات بين البلدين يتعلق بسلطة 3 يوليو، حيث اعتبر الرئيس التركي نظيره المصري "انقلابي"، ورفض التساهل معه حيال المعارضة المصرية المنفية قسرا إلى تركيا، لكنها تجنبت المواجهة مع مصر، برغم مواجهاتها العسكرية مع كل من روسيا وفرنسا، وآثرت احترام المصالح المصرية في شرق المتوسط، وهو اتجاه تركي عام بعدم استنزاف قوى إقليمية مسلمة. 

وفي مقابل هذا التوجه المستدام في السياسة الخارجية التركية، فإن رد الفعل المؤسساتي المصري قام على المعاملة بالمثل تماما طيلة الفترة الماضية. ومع وفرة المؤشرات الإيجابية من مؤسسات الدولة المصرية، حرصت تركيا على توفير إطار إيجابي لهذه المؤشرات، تجنبا لإحراج هذه المؤسسات أمام الرأي العام المصري، أو على الأقل أمام ذلك القطاع من الرأي العام المصري الموالي لسلطة 3 يوليو ورأسها، وهو ما أدى لوفرة الرسائل الإيجابية التركية، وأبرزها:

  • في 3 مارس / آذار، شكر وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو احترام القاهرة للحدود البحرية لبلاده، وركز على المصالح المشتركة بين البلدين وأشار إلى استعداد تركيا للتفاوض والتوقيع على اتفاقية بحرية مع مصر.

  • وبعد ذلك بنحو 3 أيام، شارك وزير الدفاع التركي خلوصي أكار في الحملة الدبلوماسية تجاه مصر عندما أكد - خلال التمارين التكتيكية "الوطن الأزرق 2021" - بأن البلدين يتشاركان القيم التاريخية والثقافية، ملمحا لإمكانية حدوث تطورات جديدة بينهما.

  • ومن جهة ثالثة، أقر المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالين هذه التصريحات عندما أخبر وكالة "بلومبرغ" بأنه "يمكن فتح صفحة جديدة في علاقتنا مع مصر".

وشفعت تركيا هذه الرسائل بنمط سلوك تعاوني دولي خلال فترة ما قبل جائحة كورونا، فزادت من حجم التجارة الثنائية والاستثمارات وواردات الغاز، وهي الجهود التي عززت الشراكة التجارية بين البلدين برغم المانعات القيادية، وفي هذا الإطار، ارتفعت العلاقات التجارية بين البلدين لتعبر عتبة 5 مليارات دولار للمرة الأولى في عام 2018.

ومن جهة مصر، فإن الوضع يختلف نسبيا بحسب موقع القيادة السياسية والمؤسسات. فالقيادة السياسية لديها رعاة ماليون، خليجيون وأوروبيون، استثمروا في سلطة 3 يوليو عشرات المليارات من الدولارات، ويرغبون في الإفادة من حصاد استثماراتهم، وهو ما يدفع سلطة 3 يوليو لمحاولة الموازنة ما بين المصالح المصرية وبين مطالب الرعاة الإقليميين والأوروبيين. 

في هذا الإطار، فإن خبرة رأس سلطة 3 يوليو المعلوماتية جراء رئاسته لجهاز المخابرات الحربية، وترأس ابنه (فعليا) لجهاز المخابرات العامة، قد اتجه للتسليم لأجهزة الدولة برؤيتها من جهة، ومن جهة أخرى، حرص على بناء صورة مختلة للعلاقات التركية المصرية، تقوم على تصوير تركيا وكأنها الطرف الراغب في المصالحة والتقارب، وتصوير سلطة 3 يوليو باعتبارهم الطرف الخاضع لضغوط السلام، وهو ما لا يهم تركيا كثيرا في إطار رؤيتها الإستراتيجية لمستقبل الإقليم وتحوطاتها حياله.

هذا التصور يقودنا لمكاسب الطرفين من التوافق. وهو ما يمكن إيجازه فيما يلي:

من جهة مصر، تفضل المؤسسات المصرية: وزارة الخارجية ووزارة الدفاع ووزارة البترول، وحتى جهاز المخابرات العامة في مصر صفقة بحرية مع تركيا بدلا من اليونان، والمبرر الأساسي لهذا التفضيل يتمثل في أن مثل هذه الصفقة ستؤمن لمصر منطقة بحرية أكبر بكثير من تلك التي تؤمنها لها عملية الترسيم مع اليونان.

ومن ناحية ثانية، فإن المؤسسة العسكرية المصرية لا ترغب في أن تخوض امتحانا صعبا لقدراتها أمام القوات المسلحة التركية التي دخلت مربع الدول المنتجة للسلاح وللتقنية العسكرية المتميزة، في حين تعتمد مصر في هذا الإطار على مشتريات سلاح قد تترك قواتها بدون غطاء كاف في حال تمكنت تركيا من إطالة أمد أية مواجهة عسكرية إقليمية قد تحدث.

ومن ناحية ثالثة، ترغب مصر في عدم تطوير إدارة الرئيس "بايدن" تصورا لحصارها باستخدام تركيا، وبخاصة بعد أن قررت سلطة 3 يوليو الحفاظ على كرسيها من خلال المناورة مع الروس ضد نهج إدارة "بايدن"، وهي اللعبة التي تمثل صفقة "سو 35" بعدها الأول، فيما تمثل استضافة الغواصة النووية الروسية "دونسكوي" بعدها الثاني.

ومن ناحية رابعة، فإن مصر قد تكون أكبر المستفيدين من تعظيم تجارة الترانزيت مع تركيا إذا تطورت العلاقات إيجابيا بين البلدين، خاصة وأن مصر أكثر أهمية لتركيا على هذا الصعيد من كل من ليبيا ذات عدد السكان الواهن، أو الجزائر صاحبة الحسابات المعقدة. هذا فضلا عن قوة السوق المصري الذاتية، وهو ما من شأنه تعويض رأس المال التجاري التركي عن المناورات التجارية السعودية.

ومن ناحية خامسة، فإن تجاوز السعودية للمصالح المصرية في مناوراتها مع اليونان، حيث تجاهلت المصالح المصرية شرق "خط طول 28 درجة شرق"، وطفرات العلاقة الإماراتية بإسرائيل، وتداعياتها الإستراتيجية في جنوب البحر الأحمر، مما يجعل خطوات دول الخليج غير مضمونة العواقب، ما حدا بالمؤسسات المصرية لمد جسور التواصل مع دول ذات سياسة خارجية عريقة وأكثر نضجا.

لدى تركيا مصلحة حيوية في إبعاد مصر عن كونها رهينة لدول أخرى ترغب في استخدامها كدرع في معاركها مع تركيا، مثلما قد تفعل الإمارات واليونان. فالمهم هو تأمين قوة البلدين المسلمين، وعدم توريط مصر في مواجهة عبر المتوسط مع تركيا، وعدم تكبيد تركيا عبء إضافة مصر إلى قائمة المواجهة التي ينذر مراقبون كثر بأن احتمال اندلاعها أقرب من احتمال تجاوزها.

ب. البوابة المصرية القطرية: اختراق القطاع المصري لم يكن من خلال غزل المصالح بين تركيا ومصر فقط، بل تعداه إلى مفاوضات سرية جرت بين قطر والقاهرة حول الملف الليبي، بدأت تفاصيلها في اجتماع الجامعة العربية على مستوى وزراء الخارجية، والذي عقد في القاهرة مطلع مارس / آذار 2021، وجرى الاجتماع التمهيدي المصري - القطري على هامش هذا الاجتماع، ونتيجة للتكتم، أو حتى البرود الإعلامي في التعاطي مع محتوى هذا الاجتماع، وإصرار الجانب المصري على الاكتفاء ببيان وزارة الخارجية في هذا الصدد، رجح مراقبون أن يكون اجتماعا روتينيا غير مرتب له، وخلو من جدول الأعمال، وأنه قد اقتصر على تحديد مسارات العلاقات المصرية القطرية بعد توقيع مصر، ممثلة في وزير خارجيتها على "بيان العلا" الذي فتح الباب لمعاودة تطبيع العلاقات الخليجية - القطرية، وانسحبت قرارات القمة على العلاقات المصرية - القطرية التي بدت فيها مصر وكأنها مجبرة على عودة هذه العلاقات، وتضمن اللقاء بحسب مراقبين تحديد موعد عودة سفيري البلدين بحلول منتصف أبريل / نيسان 2021 ، وسبل تطوير العلاقات بين البلدين.

وفي نفس إطار التكتم أيضا، جاءت زيارة مدير إدارة الشؤون القانونية بوزارة الخارجية القطرية، محمد بن حمد بن سعود آل ثان، في بادرة يبدو أنها تحمل هدف الإطار القانوني لاستئناف العلاقات بين البلدين، وهو ما يصعب تقبله جزئيا بالنظر لكون البلدين تجمعهما صيغة تمثيل دبلوماسي سابقة. 

غير أن مبعوث وزير الخارجية القطري، سعود الهاجري، وصل إلى القاهرة قبل هذه الزيارة بيومين، وصرحت وسائل إعلام قطرية بأن الزيارة تهدف لاستئناف المفاوضات التي افتتحها وزيرا خارجية البلدين في الاجتماع الذي دار على هامش اجتماع وزراء الخارجية العرب

وفي هذا الصدد، يبدو أن مفتاح التفاوض المصري القطري يتعلق بترتيبات تتعلق بعلاقات خليجية - خليجية يكون لمصر دور فيها.

وتحدث مراقبون آخرون، بأن لقاء "القاهرة" الأول، على هامش اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب، تضمن مدخلا لمفاوضات سرية، وأنه حمل عنوان المصالح المشتركة كذلك، حيث يتبادل الطرفان تقييم المصالح المتبادلة، بحيث تنسحب قطر جزئيا من الغرب الليبي، وتدعم عزل القوات التي كانت تدافع عن طرابلس عن بنية الدولة الليبية، وذلك في مقابل الانسحاب الإماراتي من الشرق الليبي، مع منح الأولوية لحضور المصالح المصرية في الغرب الليبي بدعم قطري من جهة، ولصالح حضور مصري يدعم الحد الأدنى من المصالح القطرية التي قد تتآكل بسبب الدعم الدولي، ولصالح وجود تركي عسكري في "مصراتة" و"الوطية" لا يرقى لدرجة الحضور الإستراتيجي، ونفس التفاهم كذلك قد يسمح بإعادة تقييم المصالح القطرية في شرق ليبيا كذلك.

توالي الزيارات لم يشهد تطورا في المعالجة الإعلامية، ولم تكشف المستجدات على الساحة الليبية أيضا تمظهر هذا التوجه على الأرض، ربما باستثناء الرفض الأمريكي - الفرنسي لقضية تطوير البرنامج الفضائي التركي على الأراضي الليبية، غير أن مفاتيح تطور ميزان القوى في ليبيا يسمح بأن يكون مدخل فهم هذه المفاوضات متمثلا في إتاحة الفرصة للهدوء داخل ليبيا، ومنح الحضور المصري تمددا أكبر في الغرب الليبي، خاصة وأنها تباشر ضغوطا قوية في بحر إيجة وشرق المتوسط في الوقت الذي ترسل فيه إشارات إيجابية لتركيا، ما يعني أنها تضغط من أجل تنازل تركي ما، وهو ما يحتمل أن يكون تنازلا على المسرح الليبي. 

هذا التقدير يجعل المسرح الليبي موضوعا - وأساسا في آن - لتطوير العلاقات المصرية التركية ينطلق من الأرضية الأمنية، ويتسع باتجاهات متفاوتة.


خاتمة

تشهد علاقات المحورين الإقليميين، المحور التركي - القطري بامتداداته، ومحور الثورة المضادة، تقاطعات تنم عن اختراقات، لكنها تتفاوت في حجم تأثيرها بالسلب على محور الثورة المضادة. وفي هذا الإطار يمكن إيجاز ملامح هذه الورقة في مجموعة من النقاط الأساسي، تتمثل فيما يلي:

فمن جهة، نجح محور تركيا - قطر في إنتاج اختراق واسع النطاق على محور الثورة المضادة، بحيث يشهد هذا المحور انفصالا في مسارات التطور في كل من الإمارات والبحرين عن المسار المصري - السعودي. غير أن ثمة نموذجين للتأثير يختلف فيهما تأثر المسار السعودي عن المسار المصري.

فالمسار السعودي يشهد اضطرابا في الرؤى ناجما عن وجود تصور عقلاني أميركي الوجهة ينفذه الملك سلمان بن عبد العزيز، يرتبط بمحاولة استدراج تركيا لمواجهة مع إيران عبر الملف اليمني، سعيا وراء عدم انضمام إيران للمحور التركي - الباكستاني، فيما يتبع ولي العهد السعودي مسارا انفعاليا راغبا في التقرب من الخط الغربي الأميركي من خلال العمل على مخطط احتواء تركيا. وفيما يبدو المساران متكاملان، إلا أنهما يتعارضان لسبب وحيد مفاده أن المسارين يمثلان معضلة لدولة واحدة عليها أن تختار بين أي من المسارين.

وعلى مسار آخر، أو نموذج آخر، تبدو مؤسسات الدولة المصرية أكثر وعيا بالمصالح القومية، وأكثر تصميما على عدم ترك الرعاة يقودون مصر لمصير مشابه لمصير ملف سد النهضة، وهو ما دفع المؤسسات المصرية لترك مسافة بينها وبين سلطة 3 يوليو، سواء عبر مقاومة الضغوط، أو عبر التسريبات، وغيرها من آليات الضغط على رأس سلطة 3 يوليو من أجل الحفاظ على رؤيتها للمصلحة القومية.

وفي هذا الإطار، تسعى النخبة المحيطة برأس سلطة 3 يوليو لإعادة رسم صورتها وشرعيتها على أساس اختراق مضاد للمحور التركي - القطري، وهو ما قد تنجح فيه بصورة كبيرة، وذلك نتيجة وقوع أحد تصوراتها الإقليمية ضمن حدود التصور الخاص بإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن لمستقبل الوضع في منطقة الشرق الأوسط، وهو الملف المتعلق بليبيا بصورة أساسية. غير أن ملامح هذا المسار لم تتضح بصورة كاملة حتى الآن، وسيكون ضحيتها التيار الإسلامي في ليبيا، بتأثير من مصر عبر وزير الداخلية في حكومة الوفاق الليبية فتحي باشاغا.

النجاح الذي حققه المحور التركي - القطري في هذا الإطار ارتبط بدور مزدوج لعبته كل من تركيا وقطر. وفيما تتجه تركيا لإثبات قوتها ووزنها الإقليمي بعيدا عن اللاعب المركزي الأميركي، فإن قطر تعمل من داخل الرؤية الأميركية، مستغلة دبلوماسيتها الفعالة، وهو ما بدا واضحا من خلال اختيار إدارة "بايدن" لها لاستضافة مؤتمر الدوحة بين الدولتين، ولرعاية خفض التوتر التركي - الروسي، لتجنب إشعال حرب إقليمية قد تتورط فيها الولايات المتحدة، بما يعزز احتمالات تحولها لحرب عالمية قد لا تستطيع الولايات المتحدة السيطرة على مسارها ونتائجها.