أزمة اقتصادية مستمرة في لبنان.. ما تأثيرها على المؤسسة العسكرية؟

مصطفى العويك | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

شكلت الأزمة الاقتصادية التي يمر بها لبنان منذ سنتين، وما رافقها من تراجع في قيمة الرواتب مقابل الدولار، والحملات التي تشن على الجيش، دافعا رئيسا لقائده العماد جوزيف عون لرفع الصوت عاليا أمام السلطة السياسية.

وقال عون، إن "الوضع السياسي المأزوم انعكس على جميع الصعد، بالأخص اقتصاديا، ما أدى إلى ارتفاع معدلات الفقر والجوع، كما أن أموال المودعين محجوزة في المصارف، وفقدت الرواتب قيمتها الشرائية، وبالتالي فإن راتب العسكري فقد قيمته".

وأضاف قائد الجيش، في كلمة له نشرت في 8 مارس/آذار 2021: "العسكريون يعانون ويجوعون مثل الشعب"، وتوجه إلى المسؤولين بالقول: "إلى أين نحن ذاهبون، ماذا تنوون أن تفعلوا؟".

وسأل: "أتريدون جيشا أم لا؟ أتريدون مؤسسة قوية صامدة أم لا؟"، كاشفا أنه "تحدث مع المعنيين لأن الأمر يؤثر على معنويات العسكريين، ولكننا لم نصل إلى نتيجة للأسف"، وقال: "لا يهمهم الجيش أو معاناة عسكرييه".

هذه التصريحات جاءت في سياق تصعيد سياسي وشعبي يشهده لبنان بين رئيس الجمهورية ميشال عون (المتحالف مع حزب الله الإيراني) وبين القوى المناهضة له، المكونة من قوى وأحزاب سياسية (تيار المستقبل- القوات اللبنانية- الحزب الإشتراكي) ومن المجموعات الثورية التي انتفضت في 17 أكتوبر/تشرين الأول من العام 2019 في الشارع مطالبة بتغيير كل الطبقة الحاكمة.

ويحوي خطاب قائد الجيش "العالي اللهجة" رسائل بالجملة الى القوى السياسية المختلفة، كما أنه بمثابة جرس إنذار للدلالة على خطورة الوضع في لبنان، ومدى تأثير الأزمة السياسية والمالية على الجيش بما يمثله من هيبة ومؤسسة جامعة لكل اللبنانيين.

فما هي خلفيات تصريحات قائد الجيش؟ وإلى أي مدى يمكن أن يؤثر تراجع سعر صرف الليرة اللبنانية على العسكريين؟ وهل نشهد "هروبا وفرارا" من المؤسسة العسكرية يؤدي إلى تفككها؟

انهيار العملة

في العام 2020 بلغت نسبة التضخم في لبنان 84,9 في المائة، وفقا للتقرير السنوي لإدارة الإحصاء المركزي التابعة للحكومة اللبنانية، المنشور مطلع العام 2021، بعد أن سجل معدل التضخم سنة 2019، 2,90 في المائة.

ترافق هذا التضخم مع انخفاض سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار إلى حدود غير مسبوقة، حيث تجاوز الدولار الواحد عتبة 11000 ليرة لبنانية، بعد أن كان يساوي في أكتوبر/تشرين الأول 2019، 1500 ليرة لبنانية.

واحتل لبنان نتيجة ذلك المرتبة الثانية عالميا في معدل التضخم المالي بنسبة 365 في المائة بعد فنزويلا وقبل زيمبابوي، وفقا للدراسة التي أعدتها "الدولية للمعلومات"، ونشرتها على موقعها الإلكتروني.

يرى الباحث الاقتصادي الدكتور سامر حجار أن "انهيار سعر صرف الليرة اللبنانية، أدى إلى تراجع القدرة الشرائية عند اللبناني، ولم يعد قادرا على تأمين لوازم العيش الأساسية، خاصة العسكري لأن معاشه متدني في الأصل، وبات اليوم لا يساوي الـ100 دولار أميركي".

ويتابع حجار لـ"الاستقلال": "إن أكثر من يعاني من هذه الأزمة الاقتصادية هو العسكري لأنه وفقا للقانون لا يمكنه أن يعمل خارج خدمته، ولا يستطيع فتح مؤسسة تجارية، أو القيام بأي مهنة حرة، وبالتالي فإن مدخوله محدود على عكس باقي الموظفين الذين يمكنهم القيام بعمل آخر غير وظيفتهم، يؤمن لهم مدخولا إضافيا".

ويشير العميد المتقاعد عامر عرب، إلى أن "صرخة قائد الجيش في مكانها، فبالإضافة إلى تراجع القيمة الشرائية لرواتب الضباط والعناصر، فإن هناك تكاليف باهظة تتكبدها المؤسسة على آلياتها مرتبطة بالصيانة وما شابه ذلك، وهذه كلها تدفع بالدولار الأميركي، فمن أين سيأتي الجيش بالدولار؟".

ويضيف عرب لـ"الاستقلال": "موازنة الجيش باتت مادة سجالية للأسف بين القوى السياسية اللبنانية، وبدلا من أن يصار الى رفعها نظرا للمهام العديدة الملقاة على عاتقه، عمدت هذه القوى الى خفضها، وترافق ذلك مع الأزمة المالية والنقدية التي عصفت بلبنان، مما زاد الأمور صعوبة".

وكان قائد الجيش، قد أشار في كلمته إلى أن "موازنة الجيش تخفض كل سنة، والمؤسسة العسكرية بادرت إلى اعتماد سياسة تقشف كبيرة من تلقاء نفسها تماشيا مع الوضع الاقتصادي".

ولفت الى أن "المطلوب من الجيش مهمات كثيرة وهو جاهز دائما، لكن ذلك لا يمكن أن يقابل بخفض مستمر ومتكرر للموازنة وبنقاشات حول حقوق العسكريين".

وكشف العماد عون أنه "لولا المساعدات التي نتلقاها من الدول الخارجية وفقا للأصول لكان الوضع أسوأ بكثير ومهما كان حجمها فالجيش يقبلها للحفاظ على الجهوزية العملانية".

وأسف رئيس لجنة الدفاع والداخلية في البرلمان اللبناني النائب سمير الجسر أن تتصدى بعض القوى السياسية لملف مساعدات الجيش.

وأضاف الجسر لـ"الاستقلال": "النفقات الكبرى في موازنة الجيش هي للرواتب التي فقدت قيمتها الشرائية، وبالتالي يجب تأمين مساعدات غذائية وخدمات طبية للجيش لا عرقلة وصولها أو الاعتراض عليها".

فرار العسكر

تحدث الصحفي اللبناني رضوان مرتضى في تقرير نشرته جريدة الأخبار اللبنانية في 8 مارس/آذار 2021، عن حالات فرار متكررة من صفوف الجيش والقوى الأمنية، كنتيجة حتمية لتداعي الأوضاع الاقتصادية.

وذكر مرتضى أن وجهة هؤلاء بأغلبهم تكون الدول الأوروبية حيث يتقاضون أجورهم بالدولار، بعد أن يتقدموا كضباط بطلب مأذونية سفر للخارج، وهناك يقومون بإجراءات التقدم للحصول على الإقامة والجنسية، كي لا يعودوا إلى لبنان، مع علمهم أن ذلك يخالف القانون اللبناني.

وكشف مصدر عسكري لـ"الاستقلال" أن "أغلبية من فر من المؤسسات العسكرية والأمنية هم أهل اختصاص، كالأطباء والمهندسين وممن يمتلكون شهادات عليا، وكذلك الممرضين الذين وجدوا في بلجيكا ضالتهم"، (بسبب جائحة كورونا تطلب الدول الأوروبية عددا كبيرا من الممرضين والممرضات للعمل لديها).

ويضيف المصدر العسكري، الذي طلب عدم ذكر اسمه:" هؤلاء لم يفروا لأنهم لا يؤمنوا بالجيش، إنما كتعبير عن رفضهم لما آلت إليه الأوضاع في لبنان، ولإدراكهم أن السلطة السياسية عاجزة عن تقديم الحلول الناجعة للأزمة المعاشة".

فعملهم في الدول الأوروبية أو تركيا يؤمن لهم مدخولا بالعملة الصعبة أي الدولار، يستطيعون عبره دعم أهاليهم الذين بقوا في لبنان، هؤلاء باتوا على يقين أن الدولة في لبنان صارت في خبر كان وأن مستقبلهم خارجها، كما يقول المصدر.

ويقول مصدر عسكري في الخدمة الفعلية، طلب عدم ذكر اسمه، لـ"الاستقلال": "لم يعد لرواتبنا أي قيمة، حليب أطفالي لا يمكنني تأمينه، وأنا أخدم في منطقة بعيدة عن مكان سكني، وأحمل دمي على كفي، فمن يقدر ذلك؟".

ويتابع: "يطلبون منا أن ننزل إلى الشارع لحماية المتظاهرين، ومنعهم بالوقت عينه من الاعتداء على الأملاك العامة والخاصة، لكن نحن من يؤمن الحماية الاجتماعية لنا؟ من يطعم أطفالنا؟".

أما الدكتور سامر حجار، فيرى أن "أغلب العساكر في لبنان يدفعون نصف رواتبهم قروض سكنية، فماذا يتبقى لديهم؟ وكلفة التنقل من منازلهم إلى مراكزهم العسكرية على نفقتهم الخاصة، وكل شيء ارتفع في لبنان بينما بقيت الرواتب على حالها".

وعن مدى تأثير فرار العشرات من الضباط والعناصر على معنويات الجيش يقول العميد المتقاعد عامر عرب: "هيبة الجيش تتأثر، لكنه مؤسسة ذات خصوصية، والمحافظة على وحدته وتماسكه حفاظ على لبنان ووحدة أراضيه".

وهو ما كان قد أشار إليه قائد الجيش بقوله: "للبعض غايات وأهداف مخفية في انتقاد الجيش وشن الحملات عليه، وهم يدركون أن فرط الجيش يعني نهاية الكيان اللبناني". 

استهداف الجيش

سياسيا لدى قيادة الجيش قناعة أن المؤسسة العسكرية تتعرض لحملة إعلامية وسياسية تهدف إلى تطويعها، يقودها حزب الله والتيار الوطني الحر المتحالف معه، كل لأهدافه وغاياته.

فحزب الله يعتبر أن الجيش غير قادر على حماية لبنان، وكرر نائب الأمين العام للحزب الشيخ نعيم قاسم هذا الكلام في إطلالته بداية مارس/آذار 2021 ضمن برنامج "لعبة الأمم" على قناة الميادين.

تصريح قاسم يتماهى مع انتقادات توجه دائما للجيش، خاصة بعد انطلاق شرارة ثورة 17 أكتوبر/تشرين الأول، التي أراد الحزب ومعه رئيس الجمهورية ميشال عون، أن يقمعها الجيش بالقوة وهو ما لم يستجب له قائده جوزيف عون.

لذا أطلقت تجاهه حملة إعلامية وسياسية تتهمه بالتقصير، وأنه يحرك الشارع اللبناني المنتفض، ولا يقوم بدوره بحماية المؤسسات العامة والأملاك الخاصة، ولا يفتح الطرقات بالقوة.

وكان لافتا أنه وبعد كلام قائد الجيش عون توجه مباشرة إلى اجتماع في القصر الرئاسي في بعبدا، خصص لمتابعة تطورات الأوضاع الداخلية في لبنان، وخلص إلى الطلب من الجيش قمع المتظاهرين.

لكن المكتب الإعلامي لقيادة الجيش لم يعر ذلك أهمية وعمل على نشر تصريحات قائد الجيش بعد الانتهاء من اجتماع بعبدا وتلاوة مقرراته، وهو الكلام الذي تضمن رسائل بالجملة وكان أقرب إلى الناس والشعب أكثر منه إلى السلطة.

يرى النائب الجسر أن تصريحات قائد الجيش جيدة جدا، فهو وازن بين حق الناس في التظاهر، وبين حماية الأملاك العامة والمؤسسات، وهو بذلك صوب حراك المتظاهرين في الشارع وأعاده إلى لحظة انطلاق الثورة عام 2019.

ويسجل الجسر لقيادة الجيش حرصها على عدم السماح بالتدخل في عملها ومحاربتها للفساد الداخلي فيها، خاصة إنهاء ملف الكلية الحربية حيث كان الضابط يدخل إلى الكلية ليس انطلاقا من مبدأ الكفاءة إنما من باب الرشوة التي يدفعها.

من جهة ثانية رأت مصادر إعلامية أن قائد الجيش ينقلب على حزب الله وعلى الرئيس عون، مشيرة إلى أن ما فعله مؤخرا هو تمرد واضح، وأنه يقدم أوراق اعتماده لمن يعنيهم الأمر بأنه مرشح لرئاسة الجمهورية.

وفي هذا السياق كتب الصحفي اللبناني سامي كليب في موقع 180 بوست: "ربما واجه القائد عون في المرحلة الأخيرة أسئلة اتهامية حول دور الجيش في تأجيج أو تحريك تظاهرات، وهذا قيل في بعض الكواليس".

ويعتقد بالتالي أنه "المقصود وأن الحملة عليه شخصيا قد تكبر، فاختار الهجوم بدلا من الدفاع، أو أنه منذ الآن يضع نفسه في مصاف القادة الواجب النظر إليهم مع كل تفكير برئيس جمهورية لأن الجيش هو المؤسسة الأخيرة الجاذبة للثقة في الوطن"، وفق قوله.

هذا الكلام دفع بكثير من المتابعين الى القول أن قائد الجيش اللبناني جوزيف عون إضافة الى تصعيده غير المسبوق تجاه السلطة السياسية، أعلن عن فتح معركة رئاسة الجمهورية عام 2022 منذ الآن.

وويرى كثيرون أن الرجل أصبح المرشح الطبيعي والأكثر قربا من الناس، وبكلامه هذا يقطع الطريق على النائب جبران باسيل صهر رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، الذي يعد العدة ليخلفه في بعبدا.