آل سعود وشيعة المنطقة الشرقية.. توتر مكتوم وسنوات من الكر والفر

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

حروب وإرهاب وأزمات داخلية وخارجية تخوضها الأسرة المالكة في السعودية حتى قبل تأسيسها الحديث على يد الملك عبد العزيز آل سعود. لكن بقيت مسألة السعوديين معتنقي المذهب الشيعي المتمركزين في المنطقة الشرقية الغنية بالنفط تؤرق حكام المملكة، وتسبب لهم صداعا لا يفارق رؤوسهم، رغم المعالجة الأمنية شديدة البأس التي يعتمدونها في المواجهة، والتي جلبت لهم انتقادات حقوقية عدة.

وبين الاتهامات المتبادلة بالتهميش والارتباط بإيران، لم تفلح تلك المقاربة الأمنية واستمرت الهجمات التي يشنها مسلحون شيعة ضد الأمن السعودي في تلك المنطقة، والتي كان آخرها ما أحبطته رئاسة أمن الدولة قبل أيام وقتلت اثنين واعتقلت آخرَين.

ويبدو أن تسوية بلدة "العوامية" في القطيف بالأرض واستبدال منازلها المتهالكة بأخرى على أحدث طراز مؤخرا، لم يكن على هوى فئة عزمت على الاستمرار في المواجهات المسلحة ضد الدولة.

الأحساء والقطيف

يعود أصل الشيعة في السعودية إلى وجودهم في شرق الجزيرة العربية في أواخر القرن الثالث الهجري، حيث سيطر على المنطقة "القرامطة"، المنتسبون للفرقة الإسماعيلية (أحد فرق المذهب الشيعي)، وكانت المنطقة تعرف قديما بالبحرين، وهي منطقة تغطي اليوم مملكة البحرين والقطيف والأحساء.

وتقدر نسبة الشيعة في السعودية اليوم بحوالي 15 % من العدد الإجمالي للسكان (الذي بلغ في عام 2015 نحو 31 مليون نسمة، يشكل المواطنون منهم أكثر من 20 مليونا)، ويتركزون في مناطق أخرى في المدينة المنورة، وفي الجنوب، في عسير وجيزان ونجران، وفي الغرب، في جدة وينبع، وتتنوع انتماءاتهم المذهبية ما بين الإمامية (الجعفرية)، وهو مذهب الغالبية، والإسماعيلية، والزيدية.

احتل آل سعود الهفوف (حاضرة الأحساء) في 12 أبريل/نيسان 1913 بسهولة بعد مقاومة ضعيفة أبدتها الحامية التركية، وقد لعب موقف المجتهد الشيعي الأكبر في الأحساء الشيخ "موسى بو خمسين" وعدد من الوجهاء بعدم المقاومة دورا حاسما في إحراز النصر السريع لعبد العزيز آل سعود الذي عقد اتفاقا مع زعماء الشيعة ينص على "ضمان حرية الأهالي الدينية" وضمان "إعادة الأمن ونشر العدل" مقابل الولاء والانضمام إلى الكيان والحكم الجديد.

وعقب احتلال الهفوف أرسل عبد العزيز آل سعود مفرزة صغيرة (عشرة أشخاص) بزعامة بن سويلم إلى القطيف للتفاوض على دخولها سلما، وقد انقسمت المرجعية الدينية والزعامة السياسية في القطيف بين المقاومة والدعوة إلى التسليم حقنا للدماء.

وحسمت المسألة نتيجة موقف الشيخ علي أبو عبد الكريم الخنيزي الذي فضل عدم رفض المقاومة، وهكذا فتح الأمير عبد الرحمن بن سويلم مبعوث بن سعود القطيف سلما في 15 مايو/آيار 1913.

وأصبحت واحتا الأحساء والقطيف اللتان تتسمان بالاتساع الجغرافي والثروات الكبيرة (قبل اكتشاف النفط) تشكلان قاعدة الدولة الجديدة التي كانت في طور التأسيس، واضطرت الحاميتان التركيتان فيهما إلى المغادرة عن طريق البحر.

وعمل بن سعود على التصالح والتعايش وكسب ود أهل المنطقة عن طريق اتفاقيات بعدم المساس بمعتقداتهم وتوفير الحماية والأمن لهم، بل إنه أقدم في فترة لاحقة على تعيين الشيخ الخنيزي قاضيا أكبر في المنطقة يتقاضى أمامه جميع السكان الشيعة والسنة على حد سواء، رغم اختلاف ذلك مع النهج السلفي الوهابي الرسمي في البلاد.

فتنة النفط

في مايو/آيار 1933 وبعد ظهور البترول فى السعودية صدر المرسوم الملكي بمنح شركة "ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا" الأمريكية امتياز التنقيب عن النفط في المنطقة الشرقية، وهو ما مثل بداية التحولات الجذرية في الخارطة السياسية حيث بدأ النفوذ الاقتصادي والسياسي للولايات المتحدة في الهيمنة على مقدرات الأوضاع هناك.

وكان من نتائج ذلك على الصعيد الداخلي حدوث تغيرات اقتصادية واجتماعية هامة في المنطقة الشرقية، حيث جذبت صناعة البترول الوليدة أعدادا متزايدة من السكان المحليين ومن المناطق المختلفة في المملكة، وكان من نتائجه بدايات تشكيل اجتماعي طبقي حديث مرتبط بأهم مصادر الطاقة (البترول) في العالم.

ودشن ذلك بدايات لتشكيلات عمالية سياسية حديثة لا تستند إلى الولاءات والانتماءات التقليدية القبائلية القديمة، بل تتوجه نحو العلاقات الاجتماعية الحديثة القائمة على المصالح المشتركة بغض النظر عن الخلفيات الجهوية والقبلية والطائفية.

كان أول إضراب عمالي في المنطقة الشرقية عام 1944 حيث قدم العمال مطالب عمالية نقابية وجرى تشكيل أول لجنة عمالية في عام 1952 سعت إلى الاعتراف بها كممثل للعاملين في شركة ستاندرد أويل.

وفي أكتوبر/تشرين الأول 1953 بدأ العمال الإضراب عن العمل الذي شارك فيه 20 ألف عامل سعودي وعربي واضطرت الحكومة لإطلاق سراح أعضاء اللجنة العمالية ووعدت شركة النفط بتحسين ظروف العمل وزيادة الأجور.

مظاهرات واعتقالات

وفي مايو/آيار 1956 اندلعت مظاهرات عمالية ضد قاعدة الظهران للقوات الأمريكية، وساهم الشيعة بفعالية إلى جانب العمال السعوديين الآخرين وكانوا ضمن قيادات وفعاليات العمل النقابي السياسي حينئذ.

وعقب اجتماع حاشد عقد في منتصف يونيو/حزيران 1956 في أحد مزارع القطيف حيث ألقيت الخطب والقصائد الشعبية الحماسية جرت اعتقالات واسعة في صفوف المشاركين من العمال والمثقفين وكانوا من الشيعة والسنة على حد سواء، ثم توالت التحركات العمالية المطلبية والتي بلغت ذروتها في 23 سبتمبر/أيلول 1956 أثناء زيارة الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر للسعودية.

وفي عام 1963 جرت اعتقالات واسعة وأذيع بيان رسمي عن اكتشاف تنظيم شيوعي يستهدف إشاعة المبادئ الهدامة والعمل على تعريض أمن الدولة للخطر، وتم إصدار أحكام قاسية بحقهم تراوحت بين 10 و15 سنة.

مثل الشيعة أغلبية عدد المحكومين منهم وقد انخرط الشيعة بفعالية منذ البداية في التنظيمات والحركات السياسية السرية التي شهدتها المملكة والتي كانت معروفة وموجودة على الصعيد العربي مثل القوميين والبعثيين والشيوعيين والناصريين.

وفي عام 1979 قامت الثورة الإيرانية التي أثارت مخاوف لدى الدولة السعودية، فكانت أحداث نوفمبر/تشرين الثاني 1979 حين وقعت صدامات عنيفة بين مواطنين شيعة وقوات الأمن أسفرت عن مقتل العشرات، واعتقال مئات، وملاحقة السياسيين الشيعة.

محاولات احتواء

رغم أن محاولات احتواء الشيعة في السعودية بدأت في وقت مبكر قبل التأسيس الرسمي للمملكة على يد الملك عبد العزيز آل سعود، إلا أنها اتخذت شكلا أكثر نضجا في ثمانينيات القرن الماضي، حينما تمثل النشاط الشيعي في محاولات التصالح والمشاركة في الانتخابات والعمل في المجتمع المدني، والحوار مع الإصلاحيين، دون مصادمات مع السلطة الحاكمة.

وفي عام 1993 وعقب لقاء الملك الراحل فهد بن عبد العزيز بأربعة من قيادات الشيعة في المملكة تم إبرام صفقة مقابل وقف المعارضة الشيعية نشاطها في الخارج، والسماح بعودة المئات من المنفى، وإطلاق المعتقلين السياسيين الشيعة.

وفي 2003، رفع الشيعة عريضة بعنوان "شركاء في الوطن" تدعو إلى ضرورة تحقيق المواطنة الكاملة، والاعتراف بحقوق الشيعة، والمساواة مع أبناء الوطن الواحد، وإنهاء التحريض الطائفي وأشكال العنف والكراهية ضدهم.

وفي 2005، وبعد تولي الملك عبدالله السلطة، تبنى مبادرات تعمل على تهدئة الانقسامات الطائفية، وظهرت حالة من الانفتاح على الشيعة، فأنشأ جلسات الحوار الوطني التي اتخذت مبادرة الاعتراف بالتنوع الطائفي في المملكة، وشارك الشيعة في الانتخابات البلدية، لكن هذه المبادرات جاءت مخيبة للآمال ولم تؤت ثمارها.

حركة خلاص

وتحولت حالة الإحباط واليأس لدى الشيعة من الإصلاح تدريجيا إلى حالة من الغضب، ففي عام 2009 شهدت المدينة المنورة أعمال شغب حيث اندلعت اشتباكات بين حجاج شيعة وأفراد من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التابعة للنظام، بعدها دخلت قوات الأمن إلى الأحياء الشيعية في المدينة، واعتقلت كثيرين.

وبعد ذلك كان الموقف الرسمي الذي أكد أن السعودية تتبع مذهب أهل السنة، وعلى الشيعة في المنطقة الشرقية أن يحترموا ذلك، وهو ما أثار غضبهم، وانطلقت التظاهرات في القطيف والعوامية والصفوة، وأعلن حمزة الحسن، أحد منظري منظمة الثورة الإسلامية، تشكيل "حركة خلاص في الجزيرة العربية".

ومع استمرار الاشتباكات زادت شعبية رجل الدين نمر باقر النمر، وهو معروف بآرائه الرافضة للنهج التشاركي للإصلاحيين، وانتهى الأمر باعتقال النمر وعدد من أنصاره، وفرض حظر التجول في العوامية، وأدت تلك المواجهات إلى زيادة الغضب الطائفي، وبدأ الاقتناع بالحل الإصلاحي يتلاشى خاصة في أوساط الشباب.

ثورة حنين

لم تسلم المنطقة الشرقية المشتعلة في السعودية من رياح الربيع العربي التي ضربت العديد من الدول العربية، ففي عام 2011 اندلعت الاحتجاجات الشيعية في السعودية أشعل فتيلها الشباب، ووصفوها بأنها "ثورة حنين".

وفي هذه الأثناء اندمجت مجموعات شبابية متباينة تحت مظلة عابرة للطوائف أطلق عليها "ائتلاف الشباب الأحرار"، الذي أصدر مجموعة من المطالب تتألف من 24 مطلبا، منها المطالبة بحكم قائم على مشاركة حقيقية، والإفراج عن السجناء السياسيين، وصياغة دستور للبلاد، وعدة مطالب أخرى.

ساهم في تأجيج هذه الاحتجاجات التدخل العسكري السعودي ضد الانتفاضة الشيعية في البحرين، وهو ما أثار الاحتجاجات في السعودية ضد هذا التدخل، مطالبة بسحب قواتها العسكرية.

تعامل النظام مع هذه الاحتجاجات بالعنف تارة، ومحاولة احتوائها تارة أخرى، فقام بتوزيع الإعانات الاقتصادية، ودفع رجال الدين الشيعة إلى كبح الاحتجاجات، وتنفيذ حملة من الاعتقالات ضد النشطاء.

وفي 2012 توصّل النظام السعودي إلى عدة نتائج منها الإفراج عن جميع السجناء السياسيين، ووضع حد لعمليات الاعتقال التعسفي، والاعتراف بالقوانين الشرعية للشيعة الجعفرية، ومنح الشيعة تمثيلا في هيئة كبار العلماء، وغيرها من النتائج التي استطاع بها النظام السعودي احتواء الأزمة، واستطاعت بالفعل إفشال الاحتجاجات إلا أنها لم تحد من أزمة الشيعة في السعودية.

بعد فشل الاحتجاجات الشيعية، بدأ الشباب في تكوين شبكات تعمل على المطالبة بتحقيق أهدافهم، وأهداف الإصلاحيين من قبل، ومنها "ائتلاف الشباب الأحرار"، و"شباب الحراك الرسالي"، و"مجموعة التضامن الإسلامي"، و"أحرار سيهات"، و"أحرار تاروت"، و"قطيفيون"، والمجموعة النسائية "زينبيات قطيفيات، والمجموعة صاحبة الشعبية الأكبر "ثورة المنطقة الشرقية".

أيقونة المواجهة

في مطلع يناير/كانون الثاني 2016 أعدمت السلطات السعودية رجل الدين الشيعي المعارض البارز، نمر باقر النمر، ورغم أن الاعدام نُفذ بحق 47 شخصا مدانين بتهم "الإرهاب"، ومعظمهم من المشتبه في انتمائهم لتنظيم القاعدة، غير أن إعدام النمر أثار موجة من الاعتراضات الخارجية والاحتجاجات الداخلية الكبيرة التي أسفرت عن مواجهات مسلحة بين بعض الشيعة وأجهزة الأمن.

"النمر" يعتبر أحد قادة حركة الاحتجاجات المعارضة للحكومة السعودية التي اندلعت في المنطقة الشرقية عام 2011 ، والتي رفعت شعارات تطالب "بإنهاء واقع التهميش الذي يعيشون فيه"، وعُرف بخطبه اللاذعة التي ينتقد فيها النظام السعودي ومطالبته المستمرة بمنح الأقلية الشيعية حقوقا أكثر.

استدعت الشرطة النمر أكثر من مرة وتعرض لسلسلة من الاعتقالات والتحقيقات بسبب نشاطه السياسي، ووجهت له تهم مثل "إثارة الفتن"، و"الدعوة للتدخل الخارجي"، واعتقل في يوليو/تموز 2012 عقب تأييده احتجاجات حاشدة اندلعت في فبراير/شباط 2011 بمحافظة القطيف، وأُصيب بجروح في الفخذ إثر إطلاق النار عليه أثناء عملية الاعتقال وقالت وزارة الداخلية إنه حاول "الهرب ومقاومة رجال الأمن".

"نمر باقر النمر" من مواليد 1959 في بلدة العوامية بمحافظة القطيف، شرقي السعودية، التي بها أغلبية شيعية، سافر بعد إنهائه الدراسة الثانوية في بلدته، عام 1980 إلى إيران للدراسة في الحوزات الدينية، وبقى هناك 10 أعوام، ثم توجه إلى سوريا ليواصل الدراسة، ثم التدريس.

هدد النمر عام 2009 بانفصال القطيف عن السعودية وتشكيل دولة شيعية مع البحرين المجاورة، إذا لم تلب مطالب السكان، وانتقد عام 2012 تعيين الأمير سلمان بن عبد العزيز وقتها وليا للعهد، بعد وفاة الأمير نايف.

اعتقل في 8 يوليو/تموز 2012 وحُكم عليه بالإعدام يوم 15 أكتوبر/تشرين الأول 2014، لينفذ الحكم بحقه في يناير/كانون الثاني 2016، ليخلف إعدامه موجة من الاحتجاجات الداخلية، وأحداث خارجية أخرى كان أبرزها إحراق سفارة السعودية في العاصمة الإيرانية طهران وقنصليتها بمدينة مشهد، الأمر الذي ترتب عليه قطع العلاقات بين البلدين والمستمر حتى اليوم، ووصل إلى مرحلة غير مسبوقة من العداء والاستنفار.

تخوين وتهميش

على مدار العهود المختلفة لأبناء الملك المؤسس عبد العزيز آل سعود، دأبت السلطات الحاكمة في السعودية على الإشارة إلى أطراف خارجية تعمل على إشعال فتيل الأزمة في البلاد، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول طبيعة العلاقات الخارجية لشيعة السعودية مع الدول التي ترتبط بها مذهبيا قبل أي رابط أو صلة سياسية، ومدى تدخل هذه الدول في الشئون السياسية والاجتماعية لشيعة السعودية، لا سيما إيران والتي تحظى بالجانب الأكبر من الشكوك، والاتهامات بالتدخل في الشأن السعودي، ومحاولات بسط نفوذها من خلال الشيعة هناك.

يرتبط شيعة السعودية، خاصة في المنطقة الشرقية بمناطق الوجود الشيعي الكثيف في المنطقة، مثل إيران والعراق وسوريا ولبنان والكويت والبحرين وغيرها، لكن مع هذا التواصل لا يمكن الجزم بحقيقة الولاء السياسي لدولة بعينها، كما لا يمكن الجزم بعدم استغلال إحدى هذه الدول علاقتها مع الشيعة في السعودية لتحقيق أهدافهم الإستراتيجية مع النظام السعودي.

تعد إيران من أهم هذه الدول، نظرا للإرث التاريخي للعلاقات المتوترة مع السعودية، ونظرا لأن كلتا الدولتين تمثلان القطبين السني والشيعي في الصراع الإقليمي اليوم، وتتجنب الأغلبية الساحقة من الشيعة السعوديين إقامة علاقات سياسية رسمية مع إيران، وترفض نظام الحكم الديني هناك لصالح رؤية علي السيستاني المرجع الشيعي الأعلى في العراق، مع الأخذ في الاعتبار المسألة العروبية.

محاولات التدخل الإيراني في شؤون السعودية من باب الأقلية الشيعية لم تكن مجرد اتهامات مرسلة، بل واقع فرضته الثورة الإيرانية، ففي عام 1981 أنشأ فيلق الحرس الثوري الإيراني مكتب حركات التحرر، الذي يهدف إلى دعم "الجماعات الثورية" في منطقة الخليج.

حزب الله الحجاز

وتواصلت  شخصيات شيعية دينية سعودية من أتباع محمد شيرازي مع هذا المكتب وأقاموا علاقات وثيقة معه، وقيل فيما بعد أن هؤلاء الأشخاص كان لهم دور فعال في دعم المنظمة المعارضة الثورة الإسلامية في شبه الجزيرة العربية، ثم جاءت جماعة "حزب الله الحجاز"، الذراع العسكري لمنظمة الثورة الإسلامية، والتي تم تأسيسها بدعم من إيران وسوريا وحزب الله اللبناني.

في المقابل يؤكد شيعة السعودية بشكل دائم أنه لا وجود لديهم لأي انتماءات خارج الحدود، وكون المرجع الديني خارجه لا يعني هذا أن يرتبطوا به سياسيا ويكونوا مزدوجي الولاء.

علاوة على ذلك يرون أن الدولة السعودية تعاملهم كمواطنين "درجة ثانية"، مشيرين إلى ما يسمونه التمييز الطائفي ضدهم، وعدم مساواتهم ببقية المواطنين، أو تمثيلهم في المناصب العليا للبلاد، كمجلس الوزراء، حيث لم يتول أي شيعي حقيبة وزارية في تاريخ المملكة، ووكلاء الوزارات، والأجهزة العسكرية والأمنية، ونسبة مشاركتهم في مجلس الشورى 4 من أصل 150 عضوا.

ورغم أن الشيعة لا توجد لهم منظمات أو تجمعات سياسية قانونية، توجد لهم العديد من الشبكات غير رسمية، كجماعة حزب الله الحجاز، والمعروفة باسم أنصار خط الإمام (الخميني)، والمتهمة بأنها تقف وراء التفجير الذي استهدف مقر سكن الجنود الأمريكيين في مدينة الخُبر السعودية عام 1996.

حالة إحباط

أما عن الحياة الاقتصادية، فرغم أن المنطقة الشرقية من أكثر المناطق الغنية بالنفط، يشتكي الشيعة من التوزيع غير المتكافئ للموارد، وهناك حالة من الإحباط تسود الوسط الشيعي إزاء عدم وجود مدخلات لأبناء المنطقة الشرقية في ميزانيات البلديات وإدارة المحافظات، كما ارتفعت معدلات البطالة والفقر المدقع في مناطق معينة في الشرق، بحسب تقارير إعلامية.

الحياة الدينية لا تختلف كثيرا عن الحياة السياسية والاقتصادية، فبموجب النظام الأساسي للحكم الذي أقر عام 1992، صار الإسلام السني هو مصدر سلطة الدولة، وهو ما أدى إلى زيادة الشعور بالتهميش والإقصاء الديني لدى الشيعة.

ورغم أن الحكومة تسمح بالتجمعات الدينية، لا زال الشيعة يواجهون عقبات في الحصول على التراخيص العامة والاعتراف بالمساجد وبيوت العزاء التي يطلق عليها اسم اللطميات أو الحسينيات.

عهد بن سلمان

"ستجدون شيعيا في مجلس الوزراء، وستجدون شيعة في الحكومة، كما أن أهم جامعة في السعودية يرأسها شيعي، لذلك نحن نعتقد أن لدينا مزيجا من المدارس والطوائف الإسلامية"، بهذه الكلمات تحدث ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن الشيعة في بلاده.

وأكد في مقابلة مع مجلة "ذي أتلانتيك" الأمريكية ذائعة الصيت في أبريل/نيسان 2018، أن الشيعة في السعودية يتمتعون بحياة طبيعية وليس هناك مشاكل مع المذهب الشيعي، مشيرا إلى أن مشكلة السعودية هي مع أيديولوجية النظام الإيراني (ولاية الفقيه)، قائلا: "مشكلتنا هي أننا لا نعتقد أن لديهم الحق في التدخل بشؤوننا، ولن نسمح لهم بذلك في أي حال".

ربما يعبر هذا التصريح عن توجه السعودية الجديدة بقيادة بن سلمان نحو احتواء الشيعة والتقرب إليهم، وهو ما ذهبت إليه "الإيكونوميست" البريطانية، مشيرة إلى أن إعادة بناء العوامية (بلدة تابعة لمحافظة القطيف) أخطر بؤرة شيعية في المنطقة الشرقية بالمملكة على طراز معماري جديد وبكافة الخدمات المتطورة بعد أن كانت عبارة عن مبان عشوائية متهالكة، دليل كافي على توجه الأمير الشاب في التعامل مع تلك الأزمة.

الصفقة التي يرغب بن سلمان في إتمامها من إعادة بناء العوامية، وفق الصحيفة البريطانية، تتمثل في الولاء المطلق له من قبل الشيعة، مقابل أن تتم معاملتهم كمواطنين عاديين، مشيرة إلى أن كبحه جماح هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تصب في الاتجاه ذاته، فضلا عن تعيينه وزير دولة شيعي في الحكومة "محمد أبو ساق"، كما يضم مجلس "نيوم"، المدينة الذكية المخطط لها، والتي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار، عضوا شيعيا وهو المهندس نظمي النصر الرئيس التنفيذي للمشروع، ويعد الشيعي أمين الناصر أحد قيادات عملاق شركة النفط "أرامكو".

سياسة الاستيعاب

في أبريل/نيسان 2018، تم تسليط الأضواء على حفل رسمي أقامه الملك سلمان لاستقبال مجموعة من الوجهاء المحليين، حيث نشرت الصحف السعودية -وتداولت غرف الدردشة الشيعية ومجموعات الواتس آب- صورا للملك سلمان وهو يبتسم ويصافح عددا من رجال الدين الشيعة ورجال الأعمال البارزين، من بينهم رجل الدين الشيعي المعارض حسن الصفار، وكان هذا هو الاجتماع العلني الأول للرجلين منذ تجميد العلاقات مع حركة "الإصلاح الإسلامية" الشيعية خلال ذروة الاحتجاجات في الربيع العربي.

(الملك سلمان يصافح رجل الدين الشيعي البارز حسن الصفار)

في الوقت نفسه، نفذت القيادة السعودية حملة قمع ضد الإسلاميين السنة، ووسعت من تواصلها مع أصحاب الرأي الشيعة، وقادة المجتمع، ورجال الدين، وبينما يستمر التصعيد مع إيران دون هوادة، فإن السياسة الخارجية الجديدة للدولة قد فتحت مجالا للتواصل مع الحكومة العراقية التي يقودها الشيعة.

وحضر حفل افتتاح خطط إعادة إعمار منطقة العوامية أمير المنطقة الشرقية، سعود بن نايف، وهي زيارة نادرا ما يقوم بها مثل هذا المسؤول الكبير، وفي غضون ذلك، تم تعيين نبيه الإبراهيم وهو عضو سابق في المجلس البلدي بالقطيف من العوامية، في مجلس الشورى، كما تم تعيين شيعية أخرى من المنطقة الشرقية، كوثر الأربش التي قتل ابنها وهو يوقف مفجرا انتحاريا في مسجد شيعي بالدمام، في مجلس الشورى.

الآن يتحدث الكثير من السعوديين عن تزايد ظهور الشخصيات الشيعية في التلفزيون ومزيد من المقالات والافتتاحيات حول استيعاب الشيعة في الصحف، ففي إحدى مقالات الرأي الأخيرة، أشاد المحلل "حسن المصطفى" بعمل الحكومة ضد "الخطاب الأصولي المتطرف" الذي يزيل "عبئا ثقيلا عن كاهلهم (المواطنين الشيعة)"، وافتتح مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني برنامج "نسيج" وهو برنامج تحت إشراف محافظ المنطقة الشرقية لتعزيز التعايش المجتمعي والتماسك الوطني.

مسجد شيعي بالرياض

وفي فبراير/شباط الماضي، أسقطت السلطات السعودية حكم الإعدام عن الناشطة الشيعية في حقوق الإنسان "إسراء الغمغام"، التي كانت أول ناشطة سعودية يصدر بحقها حكم مماثل، ورجحت جمعيات حقوقية أن تلك الخطوة جاءت بعد الضغوط الدولية الشديدة التي مورست على الرياض بهذا الشأن.

ووجه بن سلمان بإزالة النقد اللاذع ضد الشيعة من الكتب المدرسية وشبكات التلفزيون، ويقول رجل أعمال شيعي على صلة بالتطورات: "سنصبح جزءا لا يتجزأ من المملكة كمواطنين كاملين للمرة الأولى"، ويتوقع أن يبنى في الرياض، العاصمة، أول مسجد شيعي في غضون 3 أعوام.

ولا يفوت هنا استضافة ولي العهد السعودي لرجال دين شيعة من العراق مثل مقتدى الصدر عمار الحكيم، مناشدا اللعب على وتر القومية العربية باعتباره مدخلا لكسب ولاء الشيعة في بلاده، في حين تلعب إيران على المشاعر الدينية، ونقلت عن أمير سعودي لم تذكر اسمه قوله: "لقد اعتدنا على استخدام الإسلام لمقاومة القومية، والآن نفعل العكس".

تخليص العوامية من الأحياء الفقيرة الموبوءة بالمجرمين المدججين بالسلاح وتجار المخدرات، والشيعة الشيرازيين (المدرسة التي ينتمي إليها نمر النمر)، أثار إعجاب الأهالي خاصة الأثرياء منهم، رغم أن دخول العوامية الآن كدخول المدن الفلسطينية في الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل، وفق تعبير الصحيفة، ويجب على السكان والزوار المرور عبر نقاط تفتيش متعددة تقطع الأسوار التي تحاصر المنطقة، بينما تقوم السيارات المدرعة بدوريات في المدينة.