تحولات السياسة الخارجية الإماراتية.. الضغوط الدافعة واتجاهات التغيير

قسم البحوث | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

المقدمة

أولا: تحولات السياسة الخارجية الإماراتية.. دوافع وإكراهات

أ.التهديد الإقليمي

ب. التأثير الأميركي

ج. الضغوط الاقتصادية- المالية

د. عوامل أخرى/ثانوية

1. تحولات الحلفاء الإقليميين

2. تردي الصورة النمطية الإماراتية

3. انتهاء الربيع العربي

ثانيا: التغيرات في العلاقات الإقليمية

أ. اتجاهات التغير في السياسة الخارجية الإماراتية

1. العلاقات مع روسيا والصين

2. العلاقة مع مصر

3. تركيا

4. إيران

5. مجلس التعاون الخليجي

ب. حدود التغير في السياسة الخارجية الإماراتية

خاتمة


المقدمة

شهدت السياسة الخارجية الإماراتية تغيرا واضحا وصفه وزير الدولة السابق للشؤون الخارجية “أنور قرقاش” بأنه "إعادة فحص" لهذه التطورات، فيما فضل مراقبون وصفه باتجاه "تصفير المشاكل"؛ مستلهمين تسمية رئيس الوزراء التركي الأسبق أحمد داود أوغلو لنهجه في إنهاء المواجهات بين تركيا ومحيطها الإقليمي عند توليه رئاسة الوزارة.

تسمية "تصفير المشكلات" لا يمكنها تفسير التطورات التي لحقت بسلوك أبوظبي في مواجهات مع دول مثل مصر، ثم اليمن، وحتى مع إيران، الأمر الذي أفضى إلى القصف الحوثي لكل من العاصمتين السياسية والاقتصادية للإمارات؛ فسياسة الدولة الخليجية مع البلدان المذكورة لم تؤد إلى كبح المواجهة.

كما أن هذه التسمية لا تملك قدرة تفسيرية حيال المشكلات التي تطرأ على العلاقات الأميركية- الإماراتية بسبب علاقات الإمارات بكل من الصين وروسيا. لنبدو أمام محض توجه لكبح جماح العدوانية في أدوات السياسة الخارجية الإماراتية.

ما الأسباب التي دفعت الإمارات لاتجاه كبح عدوانية أدوات سياستها الخارجية، وما مظاهر هذا الكبح؟ الدراسة بين أيدينا تقدم اجتهادا للإجابة على هذه الأسئلة.

وتتجه الدراسة في هذا الإطار أيضا، لمناقشة فرضية تتعلق بمدى التغير في السياسة الخارجية، وما إذا كان التغير إستراتيجيا أو أنه تغير بالأدوات فقط لتخفيف الأزمات على الصعيدين الإقليمي والعالمي.


أولا: تحولات السياسة الخارجية الإماراتية.. دوافع وإكراهات

هذا المحور من محاور الدراسة يحاول أن يلقي الضوء على العوامل الأساسية والثانوية التي دفعت الإمارات باتجاه كبح عدوانية أدوات سياستها الخارجية. فما ملامح خريطة العوامل التي أنتجت هذا التغير؟

أ.التهديد الإقليمي: يمكن القول إن المخاوف من التهديدات الإقليمية المتصاعدة مثلت أحد أهم دوافع الإمارات لإجراء ما أسماه أنور قرقاش مستشار ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد بعملية "إعادة فحص" أدوات السياسة الخارجية.

الهجمات التي تعرضت لها العاصمتان السياسية والاقتصادية لدولة الإمارات، حتى تاريخ كتابة هذه الدراسة، في 17 و24 يناير/كانون ثان[1] كانت تمظهرا فعليا للمخاوف التي دفعت ابن زايد لاتخاذ قرار تغيير أدوات سياسته الخارجية.

تشير تقديرات موقف إلى أن البداية الأساسية لهذا التغير تمثلت فيما حدث خلال سبتمبر /أيلول 2019، حين استهدفت هجمات إيرانية، أو مدعومة من إيران، يرجح أنها بطائرات بدون طيار، منشآت معالجة النفط السعودية في "بقيق" و"خريص”.

في هذا الإطار، أدركت النخبة السياسية الإماراتية أن الانخراط في نزاعات المنطقة قد يقود التهديدات إلى التراب الإماراتي.

وبحسب مستشار السياسة الخارجية الإماراتي أنور قرقاش، فإن الهجوم أقنع قادة الإمارات بأن زيادة التوتر في المنطقة ونهج التصعيد أو المواجهة من شأنه أن يورط البلاد في صراعات طويلة الأمد.

هذا التصور المستقبلي أدى بالنخبة السياسية للجوء إلى مراجعة شاملة، نتج عنها تبني نهج جديد قائم على الاتجاه لكبح عدوانية قطاع من أدوات السياسة الخارجية الإماراتية.

كانت أبوظبي، ودبي كذلك، قد تمكنتا خلال العقدين الماضيين من إبعاد التراب الإماراتي عن تداعيات الهجمات الإرهابية التي ضربت المنطقة[2]، بدءا من تهديدات "تنظيم القاعدة" وحتى تداعيات صعود "تنظيم الدولة"، بالرغم من أن الإمارات كانت منخرطة في ترتيبات مواجهة مع هذين التنظيمين، الأمر الذي كان يفترض به أن يجعل التراب الإماراتي أكثر عرضة للتهديدات الإرهابية.

هذه النجاة ربما أتت عبر ترتيبات غير معلنة، قد يكون من بينها توفير "تمويل وقائي" لهذه التنظيمات، أو حتى "ابتزاز استخباراتي"[3].

عملية تحريك محكمة أميركية لدعوى قضائية ضد بنك إماراتي بتهمة تقديم خدمات مالية لتنظيم القاعدة عن سابق قصد وعلم، كشفت عن مخاوف غربية مما يمكن أن توفره آلية "غسيل الأموال" التي ميزت إمارة دبي بصورة خاصة، والإمارات بشكل عام، من غطاء لتمويل وقائي.

وهو ما جعل الإمارات مهددة بالإدراج ضمن القائمة الرمادية التي تعدها مجموعة "العمل المالي" الدولية حول البلدان التي تخضع لمزيد من الرقابة بسبب أوجه القصور في مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب[4].

هجمات مليشيا الحوثيين على الإمارات كانت أقسى تجلٍّ للسياسة الخارجية، لكنها لم تكن الوحيدة، حيث باتت أبوظبي مسرحا لعمليات إستخباراتية مفتوحة، يتفاوت لاعبوها بين الدول الكبرى علاوة على لاعبين إقليميين مثل الاستخبارات التركية والإيرانية وحتى الكيان الصهيوني.

وهو ما دفع الإمارات لمراجعة نسبية في علاقتها بالكيان الصهيوني وإيران، ومراجعة جذرية في التعاطي مع تركيا.

والأهم من هذه الاعتبارات جميعها أن تكلفة مهاجمة التراب الإماراتي باتت قليلة. فالواقع الجديد الذي تفرضه "الطائرات المسيرة" إستراتيجيا على الأمن القومي للدول أن تكلفة التهديد لا تقارن بغاياته.

فالضغط على دولة ما باستخدام المسيرات لم يعد يكلف ملايين الدولارات كما كان الأمر مع استخدام المقاتلات وقاذفات القنابل وحتى الصواريخ الباليستية أو الذكية[5]. ويمكن للإمارات أن ترد على الهجمات التي تتعرض لها عبر هجمات مضادة، لكن هذا لا يعني أنها "آمنة".

وتدرك أبوظبي أنه لا توجد قوات دفاع جوي في العالم بأسره تستطيع العمل على مدار الساعة لمدة طويلة[6]، كما لا توجد حالة أمن كامل في مواجهة أجهزة استخبارات قوية.

وبالتالي كان احتمال اختراق الحوثيين خط الإمارات الأحمر يعد مصدر قلق عميقا، بقدر ما كان النشاط الاستخباراتي الأجنبي مصدر قلق أعمق. وهو ما دفعها للتعديل الأداتي في سياستها الخارجية.

تهدئة التوترات باتت مدخلا مهما بتحقيق الأمن. فهذا التحول يخلق هدوءًا مهما في بيئة المنطقة المشحونة، ويوفر مساحة كافية للتنافس بوسائل بديلة.

ب. التأثير الأميركي: لا يمكن فصل التوجه الإماراتي الجديد عن التحولات المرتبطة بالحضور الأميركي في الشرق الأوسط. وتربط دراسات متعددة بين ما يجرى من تبدل أولويات السياسة الخارجية الأميركية وردود فعل عدد من دول المنطقة.

وقد أشار تقرير لشبكة "سي إن إن" الأميركية إلى أن مسؤولين خليجيين تحدثوا أمام نظرائهم الأميركيين عن التخوفات المرتبطة بذلك. فعندما تقرر الولايات المتحدة الرحيل، فإنها لا تلتفت إلى الوراء[7].

وفي واحد من أحدث تقاريرها، تلفت الشبكة إلى أن اللاعبين الإقليميين قرروا أنه لم يعد بإمكانهم الاستعانة بمصادر خارجية لتحقيق أمنهم، مشيرة لمخاوف ارتبطت بنهج الولايات المتحدة حيال أمن دول الخليج.

فالولايات المتحدة التي قفزت ذات مرة للدفاع عنهم أثناء غزو العراق للكويت في عام 1991، لم تفعل شيئا يذكر حيال الهجوم الذي نال مصافي النفط السعودية في عام 2019، والذي أدى إلى خفض إنتاج المملكة من النفط إلى النصف[8].

التغير في السياسة الخارجية الإماراتية يرجع إلى القلق الخليجي من تقدير مفاده أن الولايات المتحدة لم تعد تجد نفسها ملتزمة تجاه المنطقة، ما يعني أن عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم من أجل تحقيق أمنهم.

ورغم التطمينات الأميركية المتعددة حيال التزامها بأمن المنطقة، ووجود القوات الأميركية فيها، يبدو أن هذه التطمينات لا تؤدي لطمانة حقيقية لدى دول الخليج التي كانت طيلة فترة حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تتطلع إلى انخراط عسكري أميركي مباشر يتعدى عمليات الدعم اللوجستي، ليضع حدا للهجمات التي تتوالى على دول الخليج.

النهج الإماراتي الجديد، في هذا الصدد، ينطلق من قناعة بأن أمنها لا يمكن أن يعتمد فقط على الدعم الأميركي وإن كان لا يستبعد هذا الدعم.

تحقيق الأمن الإماراتي أضحى يتطلب من أبوظبي أن تصبح أكثر واقعية في تكوين الشبكات والعلاقات في التعاطي مع المعطيات التي تحفل بها المنطقة، والتي ساهمت بنفسها في صنع بعضها.

وهو ما يتطلب تغييرات تتجاوز التطبيع مع الكيان الصهيوني باتجاه إعادة تقويم العلاقة مع الخصوم الإقليميين مثل تركيا وقطر، والجيران الأقوياء مثل إيران. هذا النهج يقتضي واقعية أوفر في تكوين الشبكات والعلاقات في جميع أنحاء المنطقة[9].

ويرتبط بهذا الاعتبار كذلك تلك التطورات التي تطرأ على موقف الولايات المتحدة من إيران. فمع وصول الرئيس الأميركي جو بايدن إلى البيت الأبيض في 20 يناير/كانون ثان 2021، كثفت دول الخليج جهودها الدبلوماسية لتجريد طهران من مفتاح نفوذها العسكري من خلال ضم برنامج الصواريخ الباليستية إلى أي اتفاق تتوصل له إدارة بايدن بالتنسيق مع أوروبا[10]. لكن هذا على الصعيد الدبلوماسي.

 أما القناعة السائدة خليجيا؛ فهي أن الولايات المتحدة لا تميل لمواجهة إيران. وبلغ الأمر حد نشر المؤسسات الإعلامية الخليجية تقارير ومواد رأي تهاجم التقاعس الأميركي عن الرد على هجمات الجمهورية الإسلامية ووكلائها في المنطقة، والتي أشارت لكون الردين الانتقاميين الأميركيين في يناير/كانون الثاني 2021 لم يؤديا لنتيجة من حيث ردع طهران.

ج. الضغوط الاقتصادية- المالية: يعد العامل الاقتصادي أحد أهم العوامل خلف تغير السياسة الخارجية للإمارات، وبلغ الأمر حد أنه أصبح المحدد لعلاقات التحالف التي تعنى بها أبوظبي. وهو ما يتبلور في سياقات عدة، منها:

أن الأخيرة اختلفت مع المملكة بسبب البعد الاقتصادي لسياسات ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، والذي يوطد دعائم اقتصاد سعودي منافس للاقتصاد الإماراتي، سواء على صعيد ما هو آني من منصة الأعمال وصناعة "الترفيه"، وحتى ما هو مستقبلي؛ وعلى رأسه الاستثمار في مجالات عدة تستهدفها الإمارات، وعلى رأسها الطاقة الهيدروجينية بمساريها الأخضر والأزرق[11].

ولم تتردد الإمارات في نفس السياق بالتضحية بتحالفها المربح مع سلطة عبدالفتاح السيسي في مصر من أجل حماية استثماراتها الضخمة في إثيوبيا، خاصة بمجال الزراعة[12].

كما لم تتوان عن إصلاح العلاقة مع تركيا في إطار نواياها لتأمين استخراج الغاز من الحقول التي يملكها الكيان الصهيوني في شرق المتوسط. واستبدلت العلاقة العدائية مع تركيا بمحفظة استثمارات ضخمة تبلغ 10 مليارات دولار[13].

وبالعودة مجددا لهجمات الحوثيين، فإن التحليلات المكثفة المرتبطة بها، سواء كانت غربية أم روسية– صينية، تفيد بأن المردود السلبي الأكبر لهذه الهجمات مردود ذو طابع اقتصادي. 

وقالت وكالة الأنباء الفرنسية إن الهجوم الذي شنته المليشيا على أبوظبي،  في منتصف يناير/كانون ثان، قد "فتح صفحة جديدة في حرب اليمن"، مع استهداف الدولة الخليجية الثرية المصنفة "ملاذا آمنا" في المنطقة.

وضمن المعالجة، لفتت إلى تحليل قدمته مديرة "منتدى الخليج الدولي" (مركز تفكير إماراتي)، دانيا ظافر، رجحت فيه أن "الحوثيين يعرفون أن سمعة أبوظبي في صميم أهدافها الإستراتيجية"، وأنهم "يأملون في تحقيق ضربة موجعة اقتصاديا للإمارات مع تكلفة متدنية بالنسبة لهم"[14].

وبعد الهجمة الحوثية الثانية، أصدرت وزارة الخارجية الأميركية بيانا، وصفته وكالات الأنباء بأنه "نادر"، حذرت فيه مواطنيها من السفر إلى الإمارات بسبب وجود تهديدات لأمنهم ومصالحهم، وحثهم على "إعادة النظر في السفر بسبب التهديد بهجمات بالصواريخ أو الطائرات دون طيار"[15].

تداعيات الحرب في اليمن يمكن أن تسمى "معضلة" بالنسبة للإمارات. إذ قدمت أبوظبي استثمارات ضخمة هناك خاصة البنى التحتية السياسية والعسكرية في الجنوب، وهو ما يجعل التراجع عن الاستفادة منها أمرا مستبعدا.

غير أن السعي لجني عائدات هذه الاستثمارات يهدد التراب الإماراتي المفتقر للعمق كشأن الدول كبيرة المساحة. وهذا هو سر المعضلة الراهنة للتحول في السياسة الخارجية.

وتكشف التداعيات أن البعد الاقتصادي كان قد تجاوز، في أحد مساراته، كونه محددا لنمط التحالفات التي تؤثرها الإمارات؛ باتجاه دفع صانعي القرار الإماراتي باتجاه تقييم أدوات سياستهم الخارجية.

تهديد التراب الوطني الإماراتي يعني خسارة اقتصادية أضخم من أن تتحملها الإمارات عامة، وإمارتا دبي وأبوظبي خاصة.

لكن "مسار إعادة فحص أدوات السياسة الخارجية الإماراتية" لم يكن المسار الوحيد لتأثير العامل الاقتصادي، فهناك أيضا "مسار الموارد"[16].

وفي تقرير أعدته "وكالة موديز للتصنيف الائتماني"، في نهاية أبريل/نيسان 2020، فإن تأثير تفشي جائحة كورونا غير المباشر على النمو العالمي والتجارة الدولية، يشكلان صدمة كبيرة للنمو الاقتصادي في الإمارات، التي تصنف عند مستوى (Aa2).

رجحت الوكالة أن يكون النمو السلبي أكثر حدة في دبي، بسبب اعتمادها على قطاعي السياحة والنقل، علاوة على الديون الحكومية الأكثر عرضة للمخاطر الكلية بسبب حيازتها في قطاعات العقارات والنقل والسياحة[17]. يذكر في هذا الإطار أن إمارة دبي قد اتخذت قرارها بتقليص الإنفاق العام في 2021 بسبب الجائحة[18].

لم تخل إمارة أبوظبي من تأثيرات الجائحة، وذلك لتركز استثماراتها- بشكل أساسي- في قطاعات الهيدروكربونات، التي تواجه تحديات من انخفاض أسعار النفط. غير أن المراكز المالية القوية خفضت حدة الأزمة في أبوظبي.

ومع ذروة الجائحة، في 2020، تراجع صافي الاحتياطي النقدي الأجنبي للمصرف المركزي الإماراتي إلى 96.2 مليار دولار خلال أغسطس/آب 2020، بعد أن كان قد بلغ مستوى قياسيا بلغ 130 مليار دولار في أكتوبر/تشرين الأول من عام 2019[19]. ويعزى هذا الانخفاض إلى حزمة الأموال المقدمة لتوفير السيولة المصرفية، علاوة على الحزمة التحفيزية التي قدمتها الإمارات لشركاتها بقيمة 100 مليار درهم (27 مليار دولار)[20].

ومن نافلة القول في هذا الصدد أن حرب اليمن كانت أحد الملفات الأساسية التي اختلف فيها رئيس الوزراء وحاكم دبي محمد بن راشد آل مكتوم، مع ولي عهد أبوظبي لكنه لا يملك أن يوقفها؛ إذ يعد الجيش من القضايا الاتحادية؛ لا من القضايا المحلية التي تخص كل إمارة على حدة، مثل الشرطة[21].

هذه الاعتبارات مجتمعة كانت ضمن حزمة الدوافع التي قادت الإمارات باتجاه تقييم أدوات سياستها الخارجية.

د. عوامل أخرى / ثانوية: بخلاف هذه العوامل الثلاثة الأساسية، ثمة عوامل كثيرة أخرى، لكنها أقل أهمية، أسهمت في تعزيز بيئة اتخاذ القرار بالحد من عنف أدوات السياسة الخارجية الإماراتية. يمكن أن نشير لبعض هذه العوامل فيما يلي:

1. تحولات الحلفاء الإقليميين: يمكن القول إن حدة وجرأة أدوات السياسة الخارجية أدت لتنفير حلفاء الإمارات من التعاطي الإيجابي معها.

كانت أبرز الانسحابات من قائمة التحالفات ما شهدته علاقات الإمارات والسعودية من تدهور في أعقاب تجاوز المملكة أطروحة حصار قطر ودعوتها كلا من الإمارات والبحرين لحضور "قمة العلا" التي شهدت إعلان المصالحة بين قطر والسعودية.

ويرجع مراقبون هذه الخطوة السعودية كرد فعل على خطوات عدة اتخذتها الإمارات، أضرت بهذا التحالف، ومنها تمويلها الحوثيين بمبلغ تجاوز المليار دولار قبل بدء الحرب[22]، وتمويلهم بعد بدء الحرب وإمدادهم بالسلاح الأميركي.

وهو ما وثقته تحقيقات استقصائية لقنوات عالمية مثل “سي إن إن” [23]، هذا علاوة على تبنيها أجندة مختلفة عن الأجندة السعودية، قادت للإضرار بصورة المملكة وقواتها، وكان من بينها تفاهمات ظرفية جمعت بين الإمارات والحوثيين وحلفائهم في اليمن، ودعم التقسيم الفعلي لليمن، ثم الانسحاب من طرف واحد من قوات التحالف[24].

ويضاف لقائمة التحالفات المتصدعة أيضا فتور العلاقة مع مصر، وذلك في أعقاب توقيع الأخيرة صفقة تسييل الغاز مع الكيان الصهيوني[25]، وهي الخطوة التي أدت لتعويض مصر– نسبيا– عن تباطؤ الإمارات في تقديم الدعم المالي لها؛ لمواجهة مستحقات المديونية الضخمة التي تورطت فيها مصر بعد انقلاب الثالث من يوليو، علاوة على حالة الإحباط التي عمت أجهزة الدولة المصرية بعد توفر معلومات حول "خط إيلات– عسقلان” المنافس لقناة السويس[26].

2. تردي الصورة النمطية الإماراتية: من العوامل الوسيطة التي أدت إلى تزيين قرار معالجة مستوى العدوانية في أدوات السياسة الخارجية الإماراتية ما أصاب الصورة النمطية الإماراتية من تشوه.

أشارت الدراسة من قبل إلى ترجيح خبراء استغلال الحوثيين الصورة النمطية التي تروجها الإمارات عن نفسها باعتبارها واحة آمنة في منطقة مضطربة، وأنها الملاذ الإقليمي لكل الفاعلين غير الحكوميين– باستثناء الإسلاميين والحقوقيين.

وهو ما أغرى الحوثيين بضرب الإمارات، في محاولة لإجبارها على مراجعة دورها "غير العسكري" في اليمن، خاصة ما يتعلق بدعم وكلاء لها في البلد الذي تضربه كل من الحرب الأهلية وقوات التحالف منذ ما يناهز سبع سنوات.

غير أن الصورة التي نتحدث عنها هنا لا ترتبط بالإمارات داخليا، أو بالصورة التسويقية لها كمنصة وملاذ آمن للأعمال.

الصورة التي نتعاطى معها تتعلق بالإمارات كنموذج استعماري إقليمي (إسبرطة الصغيرة)[27]، والذي بات موضع انتقادات عربية شعبية واسعة.

باتت الصورة السلبية شعبية أكثر منها موضوعا للتداول في وسائل الإعلام المحسوبة على المحاور التي انقسم إليها الإقليم في أعقاب الربيع العربي.

وأضحت الصورة السلبية شديدة الوضوح في كل الفعاليات التي تشهد تجمعات للشعوب، سواء أكانت مباريات لكرة القدم، أم وسائل الإعلام غير الرسمية، أو عبر منصات التواصل الاجتماعي أو حتى في التظاهرات الشعبية[28]، وباتت وصمة "شيطان العرب" دلالة على ولي عهد أبوظبي وسياسات الإمارات في محيطها العربي والإسلامي[29].

3. انتهاء الربيع العربي: من جهة ثالثة، سقطت الخبرة الديمقراطية بتونس في شرك محور الثورة المضادة، بعد أن زار الرئيس التونسي قيس سعيد مصر، ثم الاتصالات المتتالية التي جمعته بولي عهد أبوظبي وزيارة وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد.

ومن ذلك أيضا أن الإمارات كانت ثاني دولة بعد الجزائر يتصل بها وزير الخارجية التونسي عثمان الجرندي بعد إجراءات الرئيس في 25 يوليو/تموز 2021[30].

تدرك الإمارات في هذا الإطار أن الإلحاح الإعلامي يؤدي دورا مهما في التلاعب بعقول الشعوب العربية، خاصة وأنها تملك سلاح المال الذي يمكنها من شراء أفواه وأقلام الإعلاميين عبر العالم.

وربما تلعب التحالفات الإماراتية الجديدة دورا في تلميع صورتها خاصة التحالف مع تركيا؛ والتي تحمل صورتها أدوات إعلامية رسمية وغير رسمية واضحة.


ثانيا: التغيرات في العلاقات الإقليمية

التغيرات التي شهدها السلوك الإماراتي في التعاطي مع المحيطين الإقليمي والعالمي كانت واضحة للعيان خلال الفترة الماضية. وفي هذا المحور من محاور الدراسة؛ نتناول طبيعة التغير في المواقف الإماراتية حيال المحيطين الإقليمي والعالمين وآفاق هذا التغير وسقفه.

أ. اتجاهات التغير في السياسة الخارجية الإماراتية

في إطار ما تقدم من عوامل ضاغطة على السياسة الخارجية الإماراتية، ذهب بعض الخبراء إلى تسمية النهج الإماراتي الجديد بأنه نزوع باتجاه "تصفير المشاكل".

لكن تقاطعات السياسة العالمية والإقليمية لا يمكنها أن تنتج حالة تصفير مطلقة للمشكلات. هذه الخلاصة نرصد تجلياتها فيما يلي:

1. العلاقات مع روسيا والصين: لا يمكن تسمية تطور العلاقات مع روسيا والصين بأنها تأتي من باب الرغبة في "تصفير المشكلات"، ذلك أن التطور الذي لحق بهذا المسار قد يترتب عليه تراكم المشكلات على صعيد العلاقات الأميركية- الإماراتية.

ما زال الخبراء الإماراتيون بخاصة، يرون أن العلاقات الإماراتية بالولايات المتحدة هي العلاقات الإستراتيجية الأساس، وأن تطور العلاقات مع الصين وروسيا هما تحركات من باب التوازن، لا من باب تغيير المحاور وإعادة هيكلة العلاقات الإستراتيجية للإمارات.

وتسبق العلاقات بين الإمارات وكل من روسيا والصين اتجاهها لتغيير سياساتها الخارجية في محيطها الإقليمي. وتثير هذه العلاقات مخاوف أميركية.

 وكانت الولايات المتحدة قد بذلت جهدا لإثناء الإمارات عن منح صفقة تطوير الجيل الخامس للاتصالات باتجاه شركة "هواوي" الصينية، ما بلغ حد تخيير أبوظبي بين طائرة “إف 35” وبين منح صفقة الجيل الخامس للشركة الصينية[31].

 وهو ما واجهته الإمارات بصفقة شراء 80 طائرة فرنسية من طراز "رافال"[32]، ما يعتبره خبراء محاولة للضغط على الولايات المتحدة لفض الرابط بين صفقة "إف 35” وصفقة الجيل الخامس للاتصالات.

غير أن الضغوط الأميركية جوبهت بخطوة إماراتية- صينية أكثر تقدما تتمثل في تعاقد لبناء الصين قاعدة عسكرية في "ميناء خليفة" في أبوظبي[33]، والتي يشير مراقبون إلى أنها خطوة جرى تعليقها "على الأقل مؤقتا"[34].

وعلى صعيد مواز، تتجه أبوظبي نحو تعزيز علاقتها بموسكو. وخلال الأيام الأخيرة من عام 2021، عقدت فعاليات "الدورة العاشرة من اللجنة الحكومية المشتركة للتعاون الاقتصادي والتجاري والفني بين الإمارات وروسيا"، والتي وضع الجانبان خلالها إطارا جديدا للتعاون الاقتصادي يشمل 12 قطاعا ومجالا تعاونيا بين البلدين خلال المرحلة المقبلة.

وهو ما تضمن مجالات التجارة والاستثمارات، والطاقة، والصناعة والابتكار، والخدمات المالية والمصرفية والجمارك، والأمن الغذائي والزراعة، والتعليم والنقل، وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات والإعلام والثقافة والسياحة والرياضة، وحماية البيئة وإدارة الموارد الطبيعة، والاقتصاد الدائري، والثورة الصناعية الرابعة، والفضاء[35].

غير أن التوجه نحو توسيع نطاق التعاون، والذي يبدو جهودا للضغط على الولايات المتحدة، يقترن باستثمارات إماراتية قوية في مجال السلاح الروسي، وهو الأمر الذي يمثل امتدادا لنهج إماراتي مستقر فيما يتعلق بالاستثمار في مجال صناعة السلاح[36].

وتتركز الاستثمارات الإماراتية في روسيا في مجال تطوير الطائرة المقاتلة "سو 57”، وهي الخطوة التي يزعم خبراء أنها ترتبط باحتمالات شراء الطائرة كبديل لطائرة "إف 35”[37].

2. العلاقة مع مصر: قبيل زيارة رأس سلطة 3 يوليو للإمارات في 26 يناير/كانون ثان 2022، كانت العلاقات بين البلدين في أكبر تدهور لها منذ الانقلاب الذي شهدته مصر في 2013.

وأدرج اسم السفير الإماراتي حمد سعيد الشامسي، رسميا في قضية اتجار بالآثار[38]؛ كما ألقي القبض على أبرز رجلي أعمال يتعاملون مع الإمارات، وهما حسن راتب[39] ثم محمد الأمين[40]؛ لتتهم الأخير بالاتجار بالبشر.

أتى الموقف المصري ردا على تطور نظيره الإماراتي المتجاهل للمصلحة المصرية في قضيتي "خط إيلات– عسقلان"[41]، الذي ألغي عقب تفجيرات فلسطينية له[42]، وقضية الجسر الجوي الإماراتي الداعم عسكريا لحكومة رئيس الوزراء الإثيوبي "آبي أحمد" في مواجهاته مع "جبهة تحرير تيغراي"[43]، وهي المواجهة التي لم يستبعد خبراء أن يكون للنظام المصري علاقة بها[44].

وتتبنى الإمارات نهجا إستراتيجيا يرتبط بمصالحها الذاتية دون مصالح حلفائها، وهو نهج بدا في العلاقة مع كل من فرنسا والسعودية ومصر والسودان.

وينظر لزيارة السيسي الأخيرة إلى أبوظبي في إطارين، أولهما: سعي رأس سلطة 3 يوليو في مصر لاستعادة العلاقات مع الإمارات أملا في تحقيق الاستقرار الداخلي، والذي بدا مهددا من جانبين الخارجي والداخلي.

هذا فضلا عن طلب بتمويل الإمارات لصفقة شراء طائرات نقل "سي 130” من الولايات المتحدة، وهي خطوة يرغب رئيس النظام المصري عبدالفتاح السيسي في إنجازها لتبديد الغضب داخل القوات البحرية المصرية بعد إقالة غير لائقة لقائد سلاح البحرية المصرية.

ومن جهة ثانية، تفاعلت الإمارات بإيجابية مع هذه الزيارة لرغبتها في تأمين مصالحها في مصر، والمرتبطة بتحصيل عوائد استثمارها في الانقلاب العسكري الذي شهدته مصر في 2013.

 هذا فضلا عن رغبتها في ضم مصر– ولو اسميا– لقائمة المشاكل المصفرة، بالإضافة إلى رغبتها في حشد إجماع عربي فيما يتعلق بقضية قصفها من جانب الحوثيين.

3. تركيا: تعد عملية تصفير المشاكل مع تركيا أحد أبرز الملامح ضمن خط التحول المرتبط بأدوات السياسة الخارجية للإمارات.

فبعد التورط الإماراتي في انقلاب يوليو/تموز 2016 في تركيا، وحرب العملة بين البلدين، وتمويلات الحملات الإعلامية لأحزاب المعارضة التركية، وعقب اتجاه نطاق المواجهة للاتساع بتحركات استخباراتية تركية في الأراضي الإماراتية، ارتبطت لدى بعض المراقبين برجل العصابات التركي "سادات باكير"، بدأت الإمارات تفكر في احتواء الغضب التركي المتصاعد.

بقدر ما كان التحدي مع تركيا أمنيا، ويتعلق بمخاوف مرتبطة بالتراب الإماراتي، إلا أن وسائل الإعلام العالمية ركزت على الدافع الاقتصادي المرتبط برغبة الإمارات في تجنيب استثماراتها في غاز شرق المتوسط المملوك للكيان الصهيوني أي ضرر، سواء أكان هذا الضرر مرتبطا بتحركات تركيا نفسها، أم بالقوى الفلسطينية التي أخرجت للعلن غواصات مسيرة صغيرة الحجم، رصدتها إسرائيل بالقرب من حقول الغاز المملوكة لها[45].

كسر الجدار الحديدي بين البلدين أتى بعد زيارة من مستشار الأمن القومي الإماراتي، طحنون بن زايد في 18 أغسطس/آب 2021[46]، وتبعتها زيارة من ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد في 24 نوفمبر/تشرين ثان من ذات العام[47]، وهي الزيارة التي انتهت لإعداد محفظة استثمارات إماراتية قوية في تركيا، تضمنت شراكات في إنتاج أسلحة تركية.

ولم تمانع تركيا في منح رأس المال الإماراتي هذه الفرصة؛ في توقيت تسعى فيه لتحفيز التدفق الاستثماري إليها، ضمن رؤيتها لإعادة ضبط سوق المال الداخلي وفق قواعد جديدة.

4. إيران: في نفس الإطار من السعي نحو "تصفير المشاكل"، والتعامل الأكثر واقعية في تكوين الشبكات والعلاقات في جميع أنحاء المنطقة، زار طحنون بن زايد العاصمة الإيرانية طهران، في 5 ديسمبر/كانون الأول 2021.

 وهي الزيارة التي وصفتها وسائل الإعلام العالمية بأنها "نادرة"، التقى خلالها الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ليسلمه دعوة من محمد بن زايد لزيارة أبوظبي.

كما تضمنت الزيارة لقاء بين "طحنون" ونظيره علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني.

وبقدر ما تبحث الإمارات عن أمنها في إطار تقديرها للانسحاب الأميركي، فإن إيران كانت تطمع كذلك في استغلال هذه الزيارة لتخفيف الضغوط الدولية عليها، وهي رغبة تزامنت مع توفر معلومات عن نية الولايات المتحدة تشديد العقوبات على طهران لدفعها نحو تقديم تنازلات في ملف السلاح النووي والصواريخ الباليستية.

هذه المخاوف الإيرانية تصاعدت مع زيارة وكيلة وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية فيكتوريا نولاند، للإمارات في 10 ديسمبر/كانون الأول أي بعد زيارة "طحنون" لإيران بأربعة أيام.

 ليصرح بعدها المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركي نيد برايس، عن زيارة وفد رفيع من وزارة الخزانة إلى الإمارات بعد أسبوع.

وهي خطوة لتشديد العقوبات على إيران، من خلال فحص الشراكات مع القطاع الخاص والمؤسسات المالية التي تسهل عدم الامتثال للضوابط الأميركية بخصوص التجارة مع الجانب الإيراني، والتي تمر عبر الإمارات العربية المتحدة أو تمسها بطريقة ما[48].

وتعد الإمارات المصدر الأول لواردات إيران بقيمة 10.1 مليار دولار من البضائع، وفقا للأرقام الرسمية الإيرانية. كما تعتبر كذلك رابع أكبر وجهة للصادرات الإيرانية غير النفطية بقيمة 2.9 مليار دولار[49].

وفي هذا الإطار، يمكن فهم أحد أبعاد القصف الحوثي للإمارات. فالأخيرة، والتي لا ترغب في أن تخسر تقاربا مع الكيان الصهيوني يمكن أن يمثل لها مفتاحا لاختراق في صفوف إدارة بايدن، لا تستطيع أن تضع حدا واضحا للضغوط الأميركية حيال العقوبات على إيران.

وهو ما يفسر ضغوط إيران عبر الوكيل الحوثي، والذي تجاوز في ضربته الثانية حدود المؤسسات الإماراتية باتجاه قصف "قاعدة الظفرة" التي تضم قوات أميركية.

5. مجلس التعاون الخليجي: بالرغم من أن مجلس التعاون الخليجي هو الحاضنة الإقليمية في منطقة الخليج العربي، فإن رأب الصدع الخليجي بين الإمارات وقطر لم يتأت إلا بعد تطوير العلاقات الإماراتية– التركية.

حضور الإمارات إلى "قمة العلا" لم يكن على مستوى ولي العهد، بل على مستوى رئيس الوزراء الإماراتي محمد بن راشد آل مكتوم. وظل سقف العلاقة منخفضا حتى زيارة مستشار الأمن القومي طحنون بن زايد للعاصمة القطرية الدوحة في 26 أغسطس/آب 2021، بعد أيام من زيارته العاصمة التركية أنقرة.

وتدخل قطر ضمن شبكة العلاقات التي ترغب الإمارات في تصفير المشكلات معها، خاصة بعد فشل سياسة الحصار في الإضرار باقتصادها وبمكانتها الدولية.

فمسار تطوير العلاقات بين الرياض ومسقط يقلق الإمارات خاصة دبي، التي تعد المتضرر الرئيس من أية استثمارات سعودية في عمان، لاسيما تلك الموجهة للموانئ العمانية.

ب. حدود التغير في السياسة الخارجية الإماراتية:

مع كل ملامح التغير الذي رصدته الدراسة، نجد وضعية مركزية للمصالح الاقتصادية والأمنية الإماراتية. هذه المحورية جعلت بعض المسالك الإماراتية تتجه إلى تصفير المشكلات، في حين شكل بعضها الآخر تحولا في الموقف؛ كان من شأنه تعميق المعضلات وزيادة رقعتها، على نحو ما رأينا مع مصر وإيران وحتى مع الولايات المتحدة.

هذه المركزية الواضحة للمصالح دفعت خبراء لتقدير مفاده أن عملية كبح التوظيف العدواني لأدوات السياسة الخارجية الإماراتية تمثل مسارا يمكن اعتباره أكثر من كونه مجرد إجراء تكتيكي، لكنه ما زال أقل من كونه تحولا إستراتيجيا.

هذه السمة تعني أن اللجوء لكبح العدوانية في استخدام أدوات السياسة الخارجية الإماراتية هو مسار قائم على تقدير المصلحة القومية، يرتبط استمراره بمدى نجاعته في الحفاظ على نسق مصالح أبوظبي، أمنية كانت أو اقتصادية أو خلافه[50].


خاتمة

تضافرت عوامل مختلفة دفعت الإمارات باتجاه "ضبط مستوى العدوانية"، وهي التسمية التي تعبر بقوة عن التوجه الإماراتي الجديد مقارنة بتسمية "تصفير المشاكل"، والتي لا تعبر عن حقيقة التحول في السياسة الخارجية الإماراتية.

العوامل التي دفعت الإمارات في هذه الوجهة تتمثل في التخوف من مستوى التهديدات التي يمكنها أن تنال ترابها الإقليمي، وهو تقدير بدأ مبكرا قبل سنوات من هجوم الحوثي في 17 و24 يناير/كانون ثان 2022.

وكان المحفز الرئيس للقلق الإماراتي حيال ملفات الأمن هو الانسحاب الأميركي من الإقليم، والذي يقلق الإمارات بالرغم من تأكيد الولايات المتحدة أكثر من مرة أنها ما زالت ملتزمة بأمن دول الخليج، وهو التعهد الذي لا يتمتع بمصداقية في الذهن الخليجي القلق من احتمالات المستقبل، سواء مع إيران نووية، أو أخرى متمتعة بسيولة مالية عالية.

التوجه الإماراتي الجديد تمثل في تطوير علاقات إيجابية مع كل من الصين وروسيا، سواء في المجال العسكري أو الاقتصادي، كما أثر على علاقة الإمارات بدول مجلس التعاون الخليجي، ومصر وإيران وتركيا.

تغيرات سلوك الإمارات الخارجي حيال هذه الدول لم يتسم بوحدة الاتجاه. فالتطورات حيال تركيا كانت إيجابية خالصة، في حين كانت حيال مصر سلبية خالصة.

وكان التوجه حيال إيران إيجابيا خالصا؛ نجحت الولايات المتحدة في تشويهه؛ وتجريده من إمكانية التطوير، وصولا للقصف الذي تعرضت له الإمارات في يناير/كانون ثان 2022.

الولايات المتحدة لم تكتف بمحاولات إماعة العلاقة الإماراتية– الإيرانية، بل اتجهت لمباشرة نفس التوجه حيال علاقة الإمارات بكل من الصين وروسيا كما إيران.

وأدت الضغوط الأميركية إلى عرقلة التعاون العسكري بين الإمارات وكل من الصين وروسيا، لكنها لم تنجح في إيقاف التعاون ذي الطبيعة الاقتصادية.

وتبدو أبوظبي في هذا الإطار ميالة للحفاظ على علاقاتها الإستراتيجية مع الولايات المتحدة، وهو ما يبدو نهجا يسير باتجاه تشويه مسار العلاقة بين الدولة الخليجية وكل من موسكو وبكين بقدر ما أدى بإيران لتحريض وكلائها في اليمن لقصف الإمارات.


المصادر:
[1]      المحرر، "الحوثي" تقصف الإمارات والسعودية مجددا بعد دعوة عربية لتصنيفها "إرهابية" (محصلة)، وكالة أنباء الأناضول، 24 يناير 2022. https://bit.ly/3KSu78j
[2]      ماري زعرور حنا + المحرر، الحوثيون يعلنون استهداف الإمارات والسعودية بصواريخ بالستية في "عملية عسكرية واسعة، موقع "قناة فرانس 24" بالعربية، 24 يناير 2022. https://bit.ly/3o6li0M
[3] مراسلون، كيف واصلت الإمارات تورطها في دعم القاعدة و"داعش"؟، موقع "الخليج أونلاين"، 19 سبتمبر 2019. https://bit.ly/3rFicmN
[4] مترجمون، تقرير: الإمارات تواجه خطر الإدراج في "القائمة الرمادية" لغسيل الأموال، موقع "قناة الحرة" الأمريكية بالعربية، 5 يناير 2022. https://arbne.ws/3sAcCRY
[5]      المحرر، طائرات "الحوثيين" المسيرة تهديد منخفض التكلفة للإمارات، موقع "قناة دويتشه فيله" بالعربية، 27 يناير 2022. https://bit.ly/3AFMfgZ
[6]      المحرر، بعد استهداف الحوثيين للعمق الإماراتي.. أبوظبي أمام اختبار صعب!، موقع "قناة دويتشه فيله" بالعربية، 19 يناير 2022. https://bit.ly/3HcOb32
[7]      AARON MAGID - OHAMMAD BARHOUMA, New Political and Security Challenges for Jordan and Gulf States After U.S. Withdrawal from Afghanistan, Carnegie Endowment for International Peace, September 17, 2021. https://bit.ly/3KOU48N
[8]      Brian Katulis - Peter Juul, Strategic Reengagement in the Middle East, The Center for American Progress Action Fund (CAP), DEC 16, 2021. https://ampr.gs/3udgISi
[9]      إدارة التحرير، من الصراعات الصفرية إلى تصفير المشاكل: الإمارات تتبنى نهجا إقليميا جديدا، دورية "مآلات الإمارات"، أكتوبر 2021. https://bit.ly/35BYuQf
[10]    عيسى نهاري، ما هي حسابات دول الخليج في مواجهة "إيران النووية"؟، موقع "إندبندنت عربية"، 26 فبراير 2021. https://bit.ly/3g6WZLF
[11]    قسم البحوث، الخلاف السعودي الإماراتي.. تنافس اقتصادي ومواجهات إستراتيجية،  موقع "صحيفة الاستقلال" اللندنية، 23 سبتمبر 2021. https://bit.ly/3ucdDlB
[12]    أحمد عابدين، مصر والإمارات وتركيا: صراع الماء والمال في إثيوبيا، موقع "إضاءات"، 26 نوفمبر 2021. https://bit.ly/3u81KwV
[13]    وكالات، الإمارات تؤسس صندوقا بقيمة 10 مليارات دولار للاستثمار في تركيا، موقع "وكالة سبوتنيك الإخبارية" الروسية بالعربية، 24 نوفمبر 2021. https://bit.ly/3AGEZl3
[14]    وكالات، تقرير: هل يهدد هجوم الحوثيين على أبو ظبي "الملاذ الآمن" الذي تقدمه الإمارات؟، موقع "قناة روسيا اليوم" بالعربية، 19 يناير 2022. https://bit.ly/3ISXhT1
[15]    محمد المنشاوي، بعد البيان الأميركي.. كيف تؤثر هجمات الحوثيين على صورة الإمارات؟، الجزيرة نت، 30 يناير 2022. https://bit.ly/3KV4ofd
[16]    Yoel Guzansky, Changes in United Arab Emirates Foreign Policy: Significance for Israel and the Region, The Institute of National Security Studies (INSS), June 1, 2021. https://bit.ly/32HxWvF
[17]    محمد إبراهيم، موديز: "كورونا" صدمة كبيرة لاقتصاد الإمارات، وكالة أنباء الأناضول، 28 أبريل 2020. https://bit.ly/3KXEd7W
[18]    وكالات، إمارة دبي تقرر تقليص إنفاقها في 2021 بعد انكماش اقتصادها بسبب فيروس كورونا، موقع "قناة فرانس 24" بالعربية، 27 ديسمبر 2020. https://bit.ly/3GfhzEp
[19]    جيسي طراد، كورونا ينهك احتياطيات النقد الأجنبي للدول العربية، موقع "إندبندنت عربية"، 7 ديسمبر 2020. https://bit.ly/3s912Ns
[20]    موقع الحكومة الإماراتية، الدعم الاقتصادي للحد من آثار فيروس كورونا: https://bit.ly/3AMDwJN
[21]    سيف دويدار، الحرب الصامتة: أبوظبي ودبي وقصة البحث عن التوازن، موقع "إضاءات"، 22 مارس 2019. https://bit.ly/3AKAyFH
[22]    المحرر، «عشقي»: الإمارات مولت «الحوثيين» لضرب «الإصلاح»، موقع "الخليج الجديد"، 16 أغسطس 2016. https://bit.ly/3Hd7Srp
[23]    المحرر، تحقيق لـCNN.. كيف وصلت الأسلحة الأمريكية إلى الحوثيين والقاعدة باليمن؟، موقع "قناة سي إن إن" بالعربية، 5 فبراير 2019. https://cnn.it/2tQj7lj
[24]    المحرر، انسحاب الإمارات من اليمن تحرك "تكتيكي" أم "هروب" من الهزيمة؟، موقع "قناة بي بي سي" بالعربية، 10 يوليو 2019. https://bbc.in/3rbnUfK
[25]    المحرر، مصر ستنقل الغاز الإسرائيلي لمحطات الإسالة وستطور حقلا قبالة غزة، موقع  "قناة دويتشه فيله" الألمانية بالعربية، 21 فبراير 2021. https://bit.ly/3KRNOwW
[26]    المحرر، خط عسقلان – إيلات.. قصة خزان الوقود الذي استهدفته المقاومة، وكيف يصبّ ذلك في مصلحة مصر؟، موقع "عربي بوست"، 12 مايو 2021. https://bit.ly/3AJ74rH
[27]المحرر، وجهة نظر: الإمارات.. من دولة رائدة إلى بؤرة مشاكل، موقع "قناة دويتشه فييله" الألمانية بالعربية، 5 أغسطس 2019. https://bit.ly/3gAyEye
[28]    المحرر، جدل في الجزائر بسبب العلاقات مع الإمارات المناهضة للحراك السلمي، موقع "إمارات ليكس"، 9 فبراير 2020. https://bit.ly/3IOAJm9
[29]    صادق الطائي، محمد بن زايد في لوحة ايطالية، موقع "صحيفة القدس العربي" اللندنية، 25 يوليو 2021. https://bit.ly/3KVAzvm
[30]    قسم البحوث، الموقف الدولي من انقلاب تونس.. خريطة معقدة وتأثيرات مستمرة، موقع "صحيفة الاستقلال" اللندنية، 29 يناير 2022. https://bit.ly/3ITkHHT
[31]    وكالات، ما سبب تأخير بيع مقاتلات "إف 35" للإمارات وما علاقة الصين بالأمر؟.. واشنطن تجيب، موقع "وكالة سبوتنيك" الروسية بالعربية، 18 نوفمبر 2021. https://bit.ly/3GdimWk
[32]    أليس برودارير، الإمارات: صفقة "رافال" الفرنسية ليست بديلا عن الـ "إف 35" الأمريكية، موقع "وكالة سبوتنيك" الروسية بالعربية، 5 ديسمبر 2021. https://bit.ly/3us8ypt
[33]    وكالات - مراسلون، ما حقيقة رصد واشنطن قاعدة عسكرية صينية في الإمارات؟، موقع "قناة روسيا اليوم" بالعربية، 19 نوفمبر 2021. https://bit.ly/3KUcyVo
[34]    المحرر، مصدران لـCNN: تعليق إنشاء "مشروع سري" صيني داخل ميناء إماراتي بضغط أمريكي، موقع "قناة "سي إن إن" الأمريكية بالعربية، 20 نوفمبر 2021. https://cnn.it/3GcOjOK
[35]    المحرر، إطار جديد للتعاون بين الإمارات وروسيا يشمل 12 قطاعاً، موقع "صحيفة البيان" الإماراتية، 17 نوفمبر 2021. https://bit.ly/3ALgsLJ
[36]    قسم البحوث، الإمارات وشركات السلاح.. سياقات العلاقة وأسباب التوجه، موقع "صحيفة الاستقلال" اللندنية، 29 يناير 2021. https://bit.ly/3gmTpuA
[37]    المحرر، خبير إسرائيلي: الإمارات قد تشتري Su-57 الروسية عوضا عن F-35 الأمريكية، موقع "قناة روسيا اليوم" بالعربية، 6 ديسمبر 2020. https://bit.ly/3HekdvB
[38]    مراسلون، محكمة مصرية تتنحى عن قضية "الاتجار بالآثار".. اسم السفير الإماراتي وقيادات عسكرية مدرجة رسمياً في التحقيق، موقع "صحيفة العربي الجديد" اللندنية، 21 ديسمبر 2021. https://bit.ly/34jShb5
[39]    حمدي دبش، تفاصيل القبض على رجل الأعمال حسن راتب .. التحقيقات تكشف تورطه في أكبر قضية آثار، موقع "صحيفة المصري اليوم"، 29 يونيو 2021. https://bit.ly/36F7UaY
[40]    وكالات، القصة الكاملة حول القبض على رجل الأعمال المصري محمد الأمين والاتهامات الموجهة له، موقع "صحيفة البيان" الإماراتية، 9 يناير 2022. https://bit.ly/3IOG1y1
[41] سمير عمر، تأثير خط أنابيب إيلات عسقلان.. قناة السويس تكشف الحقيقة، موقع "قناة سكاي نيوز عربية"، 3 فبراير 2021. https://bit.ly/3uxE854
[42] المحرر، ماذا يعني إلغاء “الكيان” لمشروع خط أنابيب إيلات عسقلان مع الحليف الإماراتي الجديد؟ ولماذا نجزم بأن السبب ليس بيئيًّا وإنّما أمنيًّا؟ وكيف ستكون مِصر الرّابح الأكبر؟، موقع "صحيفة رأي اليوم"، 6 نوفمبر 2021. https://bit.ly/3BdXRbo
[43] المحرر، الجزيرة تحصل على صور فضائية وبيانات ملاحية تظهر دعما إماراتيا مكثفا لقواعد جوية إثيوبية، الجزيرة نت، 25 نوفمبر 2021. https://bit.ly/3GxVEbG
[44] مصطفى هاشم، أقلية تهدد دولة.. كيف صمدت "جبهة تيغراي" أكثر من عام؟، موقع "قناة الحرة" الأمريكية بالعربية، 14 ديسمبر 2021. https://arbne.ws/3JhHGMM
[45]    قسم البحوث، عودة التواصل بين تركيا والإمارات.. الضغوط الدافعة وملفات المباحثات، موقع "صحيفة الاستقلال" اللندنية، 30 أكتوبر 2021. https://bit.ly/3AJeyLq
[46] وكالات، أردوغان يستقبل وفدا إماراتيا برئاسة طحنون بن زايد، موقع "قناة سكاي نيوز عربية"، 18 أغسطس 2021. https://bit.ly/3nb8sgr
[47] مراسلون، محمد بن زايد يصل تركيا في أول زيارة منذ سنوات.. وأردوغان في مقدمة مستقبليه، موقع "قناة سي إن إن" بالعربية، 24 نوفمبر 2021. https://cnn.it/3JdYSCW
[48]    المحرر، مسؤولون أمريكيون في الإمارات لضمان عدم انتهاك العقوبات الإيرانية، موقع "قناة سي إن إن" بالعربية، 10 ديسمبر 2021. https://cnn.it/3HeDMUx
[49]    محمد برهومة، إعادة التموضع الإماراتي والجغرافيا السياسية الجديدة، صدى "كارنيجي"، 4 يناير 2022. https://bit.ly/3gbbRZG
[50]    إدارة التحرير، من الصراعات الصفرية إلى تصفير المشاكل: الإمارات تتبنى نهجا إقليميا جديدا، دورية "مآلات الإمارات"، أكتوبر 2021. https://bit.ly/35BYuQf

الكلمات المفتاحية