عاصمة السومريين.. لماذا أصبحت الناصرية محرك الاحتجاجات بالعراق؟

يوسف العلي | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

تحولت مدينة الناصرية جنوب العراق إلى بوصلة للاحتجاجات الشعبية، وتولت في وقت عصيب إدارة دفة المظاهرات، بعدما كادت أن تنتهي جراء عمليات المطاردة والاختطاف والاغتيالات، وصولا إلى سيطرة التيار الصدري بالقوة على ساحة التحرير وسط العاصمة بغداد.

قيادة ساحة الحبوبي في الناصرية للاحتجاجات، جاءت مباشرة بعد أن اعتبر المتظاهرون "ساحة التحرير" مختطفة من قبل أصحاب "القبعات الزرق" التابعين للصدر بعد سيطرتهم على مبنى المطعم التركي المعروف بـ"جبل أحد" ومنصة إذاعة البيانات في الساحة وعدد كبير من خيامها.

ويشهد العراق احتجاجات غير مسبوقة، منذ مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2019، تخللتها أعمال عنف خلفت أكثر من 600 قتيل، وفق رئيس البلاد برهم صالح، ومنظمة العفو الدولية. ويُصر المتظاهرون على رحيل ومحاسبة كل النخبة السياسية المتهمة بالفساد وهدر أموال الدولة، والتي تحكم منذ إسقاط نظام صدام حسين، عام 2003. 

أطاحت بعبدالمهدي

اختلفت المدينة عن غيرها من مدن العراق المنتفضة منذ بدء الاحتجاجات، إذ شهدت حرق مقرات للأحزاب لأكثر من مرة، وسقوط قتلى وجرحى على نحو متزايد، في الوقت الذي لم تشهده أي محافظة أخرى، وازداد الأمر ضراوة بعد أيام قليلة من الهدوء.

في 28 نوفمبر/تشرين الثاني، ودون سابق إنذار، هاجمت قوات الأمن المتظاهرين على جسر الزيتون في وسط المدينة، مما أسفر عن مقتل 32 منهم وإصابة 225 آخرين.

المذبحة التي ارتكبتها القوات العراقية بقيادة اللواء جميل الشمري، القائد السابق لخلية الأزمة في الناصرية، بدم بارد وبدون مبررات واضحة، أثارت ردود فعل غاضبة على الصعيدين الدولي والمحلي.

هدد شيوخ عدد من قبائل ذي قار بحمل السلاح ضد السلطات المحلية ردا على مقتل أبنائهم. وفي محاولة لتهدئة الوضع، أقال رئيس الوزراء العراقي، عادل عبدالمهدي، اللواء الشمري.

لكن حوزة النجف التي يمثلها علي السيستاني أكثر رجال الدين نفوذا في العراق، وجهت في خطبة الجمعة التي أعقبت المذبحة، دعوات للبرلمان من أجل سحب الثقة من عبدالمهدي في اليوم التالي، وذلك لمنع العراق من "الانزلاق نحو العنف والفوضى". ورد الأخير بإعلان استقالته بعد ساعات.

وجاءت الناصرية (مركز محافظة ذي قار جنوبي العراق)، في المرتبة الثانية بعد العاصمة بغداد، من المناطق التي تعرضت الاحتجاجات فيها للعنف منذ انطلاقها.

وفي آخر إحصائية لضحايا المظاهرات في الناصرية، كشفت مفوضية حقوق الإنسان في العراق، ارتفاع حصيلة القتلى إلى 105، بينهم ما لا يقل عن 30 شخصا دون سن العشرين عاما، وإصابة 2768 آخرين.

يأتي ذلك مع تسجيل ثلاث عمليات اغتيال تعرض لها ناشطون وسط المحافظة ليرتفع عدد القتلى المسجلين لدى مكتب المفوضية بشكل رسمي إلى 108 متظاهرين، بحسب تصريح مدير المكتب في الناصرية عبد الحسين شناوة.

الحصيلة الكبيرة في أعداد القتلى بمدينة الناصرية، ارتفعت بعد الهجوم الذي شنه أصحاب "القبعات الزرق" التابعين للتيار الصدري بقيادة مقتدى الصدر، على ساحة الحبوبي مكان الاحتجاجات في المدينة، وحرق الخيام، ثم تكرر الهجوم في نهاية يناير/ كانون الثاني الماضي.

وعلى إثرها خرجت جموع غير مسبوقة بمظاهرات وصفت بأنها "مليونية الناصرية" ردا على محاولة فض الاحتجاجات في ساحة الحبوبي، قالوا إنها: "خالية من أذناب إيران"، في إشارة إلى المليشيات الشيعية ومن ضمنهم التيار الصدري الذي غير موقفه إلى تأييد إنهاء المظاهرات.

عاصمة السومريين

للناصرية تاريخ يمتد إلى 7 آلاف سنة، حيث المدينة الأثرية "أور" التي سميت ذي قار فيما بعد، لأن أرضها تحتوي على القار. ومعركة "ذي قار" أخذت اسمها منها وتميزت المعركة التي نشبت بين الفرس والعراقيين عام 609 ميلادي بأن حقق عرب العراق انتصارا تاريخيا باهرا على الفرس.

"أور" عاصمة الحضارة السومرية، عام 2100 قبل الميلاد. وكانت مدينة بيضاوية الشكل وتقع على مصب نهر الفرات في الخليج العربي قرب إريدو، إلا أنها حاليا تقع في منطقة نائية بعيدة عن النهر وذلك بسبب تغير مجرى نهر الفرات على مدى آلاف السنين الماضية. وتعتبر واحدة من أقدم الحضارات المعروفة في العالم، إذ أنها صاحبة أولى حروف الكتابة بالتاريخ.

وفي أكثر الروايات شيوعا، قيل إن نبي الله إبراهيم أبو الأنبياء ولد في مدينة أور عام 2000 قبل الميلاد، واشتهرت المدينة بمبنى الزقورة (معبد للآلهة إنّيانا آلهة القمر)، حسب ما ورد في الأساطير (الميثولوجيا) السومرية.

وكانت تحتوي على 16 مقبرة ملكية شيدت من الطوب واللبن. وكان بكل مقبرة بئر. وعند موت الملك يدفن معه جواريه بملابسهن وحليهن بعد قتلهن بالسم عند موته، وكان للمقبرة بنيان يعلوه قبة.

اكتسبت الناصرية اسمها من اسم الشيخ ناصر باشا، الذي كان مشرفا على هذه المنطقة والعشائر المحيطة بها، وشارك بتمويل بنائها إلى النهاية، ملازما للمهندس البلجيكي (جولس تيلي)، حيث تبرع بمبلغ كبير يقدر بـ(4250 ليرة ذهب) لغرض الاستمرار في البناء وعدم التوقف، وكذلك بمبلغ (1000 ليرة ذهب) لإنشاء جسر خشبي عائم لربط طرفي ضفتي النهر.

تعتبر الناصرية في تاريخ الدولة العراقية عام 1918 ميلادية، مدينة السياسة والفن والشعر، ومن أبرز المفارقات أنها مدينة رئيس الوزراء عبدالمحسن السعدون في عام 1923، ورئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي من مجلس الوزراء في 2 أكتوبر/تشرين الأول 2018 وحتى 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2019.

وتشتهر المحافظة بطبيعتها المتمردة، وكانت حاضنة للعديد من الحركات السياسية في البلاد، بما في ذلك الحزب الشيوعي في ثلاثينيات القرن الماضي، وحزب البعث في الخمسينيات.

وصارت فيما بعد مركزا للجماعات المسلحة الشيعية التي تتحدى حكم الرئيس الأسبق صدام حسين، وكانت أهوارها تُستخدم ملجأ لهذه الجماعات بعد شن الهجمات عليها، فضلا عن أن انتفاضة الشيعة عام 1991، والتي قمعها صدام في النهاية، بدأت في ذي قار.

لماذا الناصرية؟

يبدو أن إرث المدينة الراسخ يلقي بظلاله على مجريات الأحداث الحالية في الناصرية، إذ يقول الباحث العراقي ناصر أحمد، وهو مُشارك في احتجاجات الناصرية: إن "أهالي المدينة هم الأكثر عنفوانا في التعامل مع القضايا المصيرية، والأجدر بترحيل الفاسدين في الحكومة الحالية، ولولا العطاء والدماء التي سقطت في المدينة، لما كان عبد المهدي ليتنحى عن منصبه".

وأضاف في تصريحات صحفية: أن "المتظاهرين في ساحات المدينة، ليسوا من الشباب فقط، إنما أيضا من عوائل الشهداء الذين سقطوا بنيران المليشيات، وينتظرون التغيير الذي سعى إليه أبناؤهم. ومن هنا، يتبيّن أن الثورة في ذي قار باتت مطلبا جماهيريا له ثمن عظيم".

وأشار إلى أن "تاريخ الناصرية مثقل بالبطولات والثورات ضد الحكام الفاسدين، وتكاد لا توجد أي أسرة في ذي قار، لم تخسر واحدا من أفرادها في مواجهة الاحتلال الأمريكي بعد عام 2003، ثم الحرب ضد تنظيم الدولة، وحاليا يسقط بمعدل شبه يومي أحد الناشطين المطالبين بالتغيير وتدعيم الدولة المدنية وترحيل الأحزاب الدينية الموالية لإيران"، مؤكدا أن "المتظاهرين وأصدقاء القتلى أقسموا في الساحات على عدم الانسحاب".

وفي السياق ذاته، يقول الأكاديمي العراقي حازم هاشم في تصريحات صحفية: إن الناصرية ترتكز على أشياء تاريخية تتعلق بالمدينة والأحداث التي مرت بها، لكن الشيء القريب هو أن أغلب فئات الحشد الشعبي (مليشيا شيعية) من هذه المدينة، التي تمثل النسبة الأعلى في البطالة والكثافة البشرية، ودخلت في تجارب عشائرية لديها قدرة على المواجهة.

ورأى أن النجاح الذي تحقق منذ انطلاق الاحتجاجات، هي أنها أول مدينة كسرت هيبة الأحزاب والمليشيات وحرقت مقراتها، والذين تأخروا بهذا الموضوع حاولوا تقليدها وتحويلها لأيقونة بقضية الحرق، كما أنها أكثر تنظيما وجرأة في ظهور شخصيات صريحة وواضحة، وهذه مسألة مهمة لم تتوفر في محافظات أخرى.

ونوه هاشم إلى أن المدينة مترامية الأطراف، والمظاهرات ليست في المركز فحسب مثل بقية المحافظات، بل توزع جهدها على الأقضية والنواحي، وهي عملية تخفيف ضغط، وبالتالي استطاعت بهذا العمل التنظيمي إرباك القيادات الأمنية، كما أن الرد العنيف الذي تعاملت به السلطة معها وتقديم الكثير من الضحايا خلف حجما كبيرا من التعاطف معها.

أما الإعلامي العراقي الدكتور مظفر قاسم حسين، فقد نشر على حسابه في "فيسبوك" مقطع فيديو للقائه ناشطين من ذي قار، وكتب قائلا: "ذي قار وما أدراك ما ذي قار.. القول ما ستقوله ذي قار. اللهم احفظ أهلنا الذين قرروا أن ينتفضوا سلميين وقابلوهم بكل وحشية".

وناشد حسين أهالي ذي قار قائلا: "يا أهالي ذي قار الكرام.. الله الله في السلمية.. لا يجرونكم إلى العنف والفوضى. سنبقى ندعو إلى السلمية كما دعونا إليها منذ سنين.. وعلى الجهات الحكومية أن تحترم السلمية ولا تدفع باتجاه الوحشية وسفك الدماء".