النفط الليبي.. خريطة الصراع والحرب بالوكالة
.jpg)
مقدمة
بعد أن نالت ليبيا استقلالها عام 1951 كان اقتصادها يعتمد على المعونات التي تقدمها القوى العظمى جزاء منحها أراضيها لتكون قواعد للقوات الأمريكية والبريطانية. وفي عام 1956 كان أول إذن من المملكة الليبية للتنقيب عن النفط، وضمان مصاريف التنقيب واكتشاف أول وجود للنفط في ليبيا في حقل زلطن عن طريق شركة إسو.
عام 1961 صارت ليبيا بلدا مصدرا للنفط، بحوالي 167 كم من الأنابيب تصل بين الداخل الليبي والساحل، ووصل الإنتاج عام 1996 إلى 3 ملايين برميل يوميا. بعد انقلاب 1969، وتأميم النفط الليبي، ما أدخل الشركات الكبرى في نزاع مع الدولة الليبية، كما أن القذافي حاول أن يستخدم النفط في سياساته الخارجية الداعمة للوحدة العربية والمعادية للمشروع الصهيوني.
اكتشاف النفط، والتحول نحو التوجه الاشتراكي، ومحاربة القطاع الخاص واعتبار التجارة والربح سرقة، جعل المجتمع الليبي يعتمد كليا على الدولة والمعاشات لموظفي القطاع العام.
هذا الأمر أدى إلى توجه الكثير من السكان نحو الساحل والمدن الكبرى كطرابلس ومصراتة وبنغازي، حسبما يشير مؤشر الحضر Urbanization، فليبيا تعتبر أكثر الدول تحضرا، حيث بلغت الكثافة السكانية 87٪ من الإجمالي السكاني في البلاد، كما يتركز نحو 37٪ من سكان المناطق الحضرية في أكبر مدينتين هما طرابلس وبنغازي.
وبالنظر إلى كبر مساحة ليبيا، وأن الصحراء تشكل القسم الأكبر من الجغرافيا فيها، فإن سياسات الدولة خاصة السكانية منها علاوة على العودة للقبلية والمناطقية التي أحدثها نظام القذافي بتبنيه للديمقراطية المباشرة، كان من الأسباب المباشرة لتعميق الانقسام وهشاشة تكوين الدولة.
عادة ما توصف ليبيا كدولة ريعية، فاكتشاف النفط وسيطرة الدولة على عوائده جعل الدولة تعمل لإعادة توزيع أموال النفط على الناس، مقابل تحسين أحوال المعيشة، بغض النظر عن تحديث الدولة والهياكل الاقتصادية فيها.
هذه الدولة الريعية تعقد صفقة مع المجتمع بأن التغاضي عن الحريات المدنية يقابله مستوى مقبول من الدخل وضمان للعلاج والتعليم، بغض النظر عن وجود مؤسسات حقيقية تضمن استمرار هذه الخدمات أو تضمن مشاركة المجتمع في اقتصاد البلد. هذا النمط سيكون في نهاية المسار على حساب استدامة اقتصاد البلد وقدراته الأمر الذي ينتهي إلى حالة فشل وثورة.
النفط أثر كذلك في الأهمية النسبية للمدن والقرى، فعلاوة على انتشار ظاهرة الحضر، والتحول نحو المدينة لكثير من القبائل والبدو، إلا أن الأقاليم الثلاثة تغيرت أهميتها بأهمية النفط، هذا الأمر لم يبرز في زمن القذافي، لأن ميكانزمات الدولة الريعية وشراء الولاءات وغيرها جعلت هذه الاختلافات والتكوينات الأولية تختفي في مقابل استمرار الدولة في ضمان مستوى معيشة متميز عن غيرها من دول المنطقة.
بعد الثورة ظهرت المناطق التي يكثر فيها النفط كمناطق إستراتيجية يجري حولها الصراع، فهناك 3 أحواض أساسيه للنفط، وهناك مصادر لاستخراج النفط، ومجموعة طرق لنقل هذا النفط للساحل لتصديره عبر الشركة الوطنية للنفط، صار القرب منها مناطقيا أو السيطرة عليها عسكريا جزءا من الصراع السياسي لذا كانت الدولة أكبر الخاسرين في الأزمة الليبية.
قطاع الطاقة في ليبيا
وفقا لبعض المصادر، الاحتياطي المثبت لليبيا من النفط الخام يصل إلى 48 مليار برميل في نهاية 2014، وهذا يشكل 38٪ من احتياطي القارة الإفريقية كما أنها التاسعة في امتلاك احتياطي النفط عالميا.
ليبيا فيها أحواض رئيسية: سرت، مرزق، غدامس، برقة، وحوض تريبوليتانيا البحري (بالإضافة لحوضين غير منتجين في الجنوب الشرقي وهو حوض الكفرة، وحوض برقة في الشمال الشرقي). هذه الأحواض التي تعتقد (الحكومة الليبية) أن فيها كميات كبيرة من هذا الاحتياطي. 82٪ من الاحتياطي القابل للاستخراج من النفط موجود في حوض سرت، و32٪ من الغاز، وكثير من احتياطي البلد في الأحواض الأخرى يعتقد أنه لم يستخرج بعد.
أغلب الدول المستوردة للنفط من ليبيا هي دول الاتحاد الأوروبي، وتشكل ما يزيد عن 80% من إنتاج النفط، وتستورد أوروبا 11٪ من احتياجاتها من النفط من ليبيا عام 2010، وبعد الثورة تذبذب إنتاج النفط في ليبيا، وفي عام 2014 زودت ليبيا أوروبا بـ 10 ملايين برميل من النفط الخام.[1]
أما الدول التي تصدر ليبيا لها النفط فأهمها إيطاليا والصين ودول الاتحاد الأوروبي[2].
من القضايا المهمة، الغاز المسال فقد كانت ليبيا ثالث دولة في إفريقيا لتصدير الغاز المسال لإسبانيا، لكن هذه الصناعة طالها الكثير من الخراب أثناء الثورة، كما أن الحديث عن النفط الحجري والغاز المسال في ليبيا فيه كثير من المبالغة، فصعوبة استخراج النفط الحجري وما لحق البنية التحتية للنفط من دمار، هي قضية إستراتيجية قد تستوجب النظر لحل المشكلة الليبية قبل فوات الأوان.
أما الغاز، فإنتاج ليبيا منه ازداد بنسبة كبيرة عام 2003 بعد مشروع نشأ في الغرب الليبي لإنتاج الغاز، وكانت إيطاليا هي المستفيد الأكبر من هذا المشروع عبر شركة إيني الإيطالية، حيث امتدت أنابيب غاز من ليبيا إلى إيطاليا وهو من أكبر المشاريع بين البلدين، وقل حجم ماتصدره ليبيا لإيطاليا من غاز من 9.4 مليار متر مكعب إلى 4.9 مليار متر مكعب.[3]
أغلب الشركات المملوكة للدولة تقوم بالتعاقد مع شركات أجنبية وفقا لحصص وضعت في القانون الليبي تطور عبر التاريخ، ولبيان ذلك انظر الجدول التالي.[4]
الميناء |
المنطقة |
الحقل النفطي |
المصفاة |
الشركة العاملة في الحقل |
الشريك الدولي |
السدرة |
وسط شرق |
واحة، سماحة، ظهره، جالو، المبروك |
|
شركة الواحة |
كوكو فيليبس (أمريكا) توتال (فرنسا) هيس (أمريكا) شركة ماراثون (عالمية) |
رأس لانوف |
وسط شرق |
نافورة، السارة، أبو الطفيل أمال ونجا |
|
أجوكو ( عربية خليجية أنشئت في بنغازي عام 1979) وينتر شال (المانيا) الهروج |
جازبروم وينترشال بيترو كندا |
الحريقة ( طبرق) |
شرق (طبرق) |
السرير المرسى بدا الحمادى |
رأس لانوف طبرق السرير |
أجوكو |
لايوجد |
الزويتينة |
شرق وسط |
الانتصار النخلة NC 74 NC-125 |
|
مليته وينتر شال شركة زويتينة |
إيني وينتر شال جازبروم (روسيا) أوكسيدنتال |
مرسى البريقة |
شرق وسط |
برقة ناصر دور مراده |
مرسى البريقة |
أجوكو شركة سرت للنفط |
لايوجد |
مليته |
غرب |
الفيل الوفاء بحر السلام |
|
مليته |
إيني |
الزاوية |
غرب |
الشرارة |
الزاوية |
أكاكوس |
توتال ريبسول )اسبانيا) OMV ((النمسا |
بوري |
غرب |
|
بوري |
مليته |
إيني |
الجرف |
غرب |
الجرف |
|
مبروك |
توتال |
هذا الاتساع والتعقيد خاصة في نقل النفط من الحقول إلى الموانيء، التي تختلف في قدراتها (انظر الجدول أسفل) فضلا عن الشراكات المتعددة مع دول مختلفة، قد يعطي صورة عن حجم التعقيد الذي خلفه النفط سواء على المستوى السياسي أو الإداري فضلا عن طبيعة الصراع المعقد والمركب حول هذه الثروة النفطية.
قدرات المصافي الليبية المصفى |
القدرة مليون برميل |
راس لانوف |
220 |
الزاوية |
120 |
طبرق |
20 |
السرير |
10 |
مرسى البريقة |
8 |
المجموع |
387 مليون برميل Source: oil and gas journal, jun.2014 |
ديناميات الصراع والطاقة
من الطبيعي أن يتأثر إنتاج النفط في ليبيا بفعل الموقع الجغرافي المتداخل لمصادر إنتاج النفط والموانئ التي تقوم بتصديره، ومحاولة بعض الأطراف استغلال النفط في فرض أمر واقع على المشهد الليبي والفاعلين السياسيين المحليين والدوليين.
لذا إذا تتبعنا إنتاج النفط[5] وأخذنا فترة محددة منذ بداية الثورة إلى الآن يتضح كيف تأثر إنتاج النفط بالحرب الدائرة في ليبيا. لكن هنا يجب ملاحظة مسار مهم في النزاع الليبي، وهو أن التدخل الدولي عادة ما يحاول تثبيت إنتاج النفط، وتحييد المؤسسة الوطنية للنفط، ويسعى لاستمرار الشركات المتعاقدة مع ليبيا في العمل، وهذا يؤكد إستراتيجية المجتمع الدولي والدول الكبرى في استقرار سعر الطاقة واستمرار تدفق النفط الليبي للسوق، ولو استمر الصراع المسلح بين الأشقاء.
منذ العام 1970 للعام 2000 تأثر قطاع النفط والغاز بالأحداث السياسية التي عاشها نظام القذافي بعد محاولاته تأميم قطاع النفط، حيث تولت المؤسسة الوطنية للنفط كل العمليات المتعلقة بإنتاج النفط والغاز، بالتعاقد مع شركات محلية تقوم بشراكات مع الشركات الأجنبية المصنعة للنفط، ومع محاولات تثبيث بنية تحتية لهذا القطاع، لكن يمكن القول أن العام 2000 شهد حالة من الاستقرار والنمو في القطاع بعد محاولات القذافي، أن يندمج في المجتمع الدولي.
منذ العام 2011، وبعد الثورة الليبية، توقف الإنتاج ووصل إلى الصفر٪، لكنه عاد بشكل تدريجي ليصل إلى المليون برميل في مايو/آيار عام 2012، ومع ذلك لم تستطع حكومة المجلس الانتقالي برئاسة الدكتور محمود جبريل ومن بعده الدكتور عبد الرحيم الكيب أن تعمل على حل المشكلة الأمنية الذي كانت عائقا أمام عودة الإنتاج.في حكومة علي زيدان وهي أول حكومة منتخبة بعد الثورة قام آمر حرس المنشآت النفطية إبراهيم الجضران بإغلاق موانئ النفط في البلاد في يوليو/تموز عام 2013 (رأس لانوف، والسدرة، والزويتينة، وطبرق)، ليعود انخفاض إنتاج النفط لما يقارب النصف مسببا في خسائر فادحة قدرت بمليارات الدولارات.[6]
في سبتمبر/أيلول 2013 رفعت مؤسسة النفط الليبية القوة القاهرة عن الموانيء في خليج سرت، بعد سيطرة قوات من الشرق على الموانيء وطرد إبراهيم الجضران. وكان هذا بداية استمرار الصراع حول الهلال النفطي بين الشرق والغرب وتصاعد الأمر بعد الحرب في بنغازي عام 2014، لكن سيطرة قوات من الشرق الليبي أعاد شيئا من الاستقرار للإنتاج النفطي، لكن انتقال بعض عناصر تنظيم الدولة من سوريا والعراق جعل الهلال النفطي محل هجمات متعددة من تنظيم الدولة في سرت.في ديسمبر/كانون الأول عام 2015 كان اتفاق الصخيرات بين الفرقاء الليبيين، وهنا نشهد حالة من الاستقرار في إنتاج النفط، ليفوق المليون برميل وهو المستوى الذي لم يصل إليه الإنتاج منذ عام 2013. هنا نشهد ظاهرة مهمة وهي قدرة المجتمع الدولي على تحييد المؤسسات Exclusion ونعني بذلك أن اتفاق الصخيرات قد حيد المسار المؤسسي لذلك كانت كل المحاولات للتنازع حول الهلال النفطي تنتهي بسرعة ويعود الإنتاج لسابق عهده.
رغم استقرار إنتاج النفط نسبيا واستمرار تصديره من جهة واحدة، وتحصيل الإيرادات عبر مصرف ليبيا المركزي في طرابلس إلا أن ذلك لم يمنع السلطات في الشرق الموازية من الاستمرار في تأسيس مصرف مركزي ومؤسسة وطنية خاصة بها، معتمدة على الواردات من المصرف المركزي في طرابلس، مما يجعل هذه المؤسسات في سياق المنافسة السياسية وتسيير الإدارة في الشرق دون أن يكون لها سلطة فعلية على الدخل الرئيسي للبلد وهو النفط.من خلال هذا المنحنى الذي تتبعنا فيه إنتاج النفط ومسار الأحداث السياسية، يمكن ملاحظة كيف استطاعت القوى الدولية أن تفك الترابط بين النزاع السياسي والمسار المؤسسي (المتعلق بالطبع بمصالح الشركات العاملة في ليبيا، وصادرات النفط من موانئها). وهكذا الأزمة الليبية في مرحلة سياسية الآن، تقتضي إدراك هذا المسار لتحقيق مصلحة الجميع.
هذا المنحنى يؤكد كيف يمكن للعشوائية أن تتحول إلى حالة متوقعة كما هو الحال بعد العام 2015، وهكذا يمكن القول إن المجتمع الدولي قد يحقق أهدافه بينما يستمر الليبيون في التقاتل، والدول الإقليمية كالإمارات ومصر في عدم إدراك حجم التخبط الذي يضر بالليبيين وبالمجتمع الدولي معا.
في الوقت الحالي يبدو أن قوات حفتر موجودة في أغلب الموانئ والحقول النفطية خاصة في منطقة الهلال النفطي، وينشب صراع حول حقل الفيل في الجنوب، حيث ضعفت قوة حفتر وتبدلت كثير من التحالفات، بينما تستمر الشركات العاملة في المنطقة الغربية في الغرب الليبي بشكل طبيعي خاصة شركة إيني الإيطالية.
ويدرك المجلس الرئاسي أن وجود قوات حفتر في الهلال النفطي هو نقطة تفوق إستراتجية، لكن يبدو أن النفط سيكون هو آخر معركة يريدها الغرب في ليبيا، كما أن الضغط الخارجي منع حفتر مثلا من قفل حقل الشرارة في الجنوب بعد السيطرة عليه بدون قتال في بداية هذا العام.
ويبدو أن استمرار خسارة حفتر في جنوب طرابلس، في ظل سيطرته على الهلال النفطي -حيث الإنتاج الأوفر من النفط من حوض سرت- سيجعل حرب النفط مؤجلة للنهاية، وهذا ماسيعجل من البحث عن حل سياسي من القوى الدولية والشركات المتنافسة حول ليبيا، لكنه في نفس الوقت يؤكد للشركاء الإقليميين لحفتر بأنها فرصة سانحة يجب استغلالها، ولا ينبغي تركها دون بديل مقنع ومثمر لكافة الأطراف.
جيوإستراتيجيا الطاقة
منذ اكتشاف النفط في ليبيا، ظهرت الأهمية الإستراتيجية لليبيا بالنسبة للدول الأوروبية خاصة فرنسا وإيطاليا وبريطانيا وألمانيا، وهي الدول التي لها شركات عاملة في النفط، فضلا عن أهمية ليبيا كمنطقة عبور بين أوروبا وإفريقيا.
هذا العبور يعني أن كافة ما تورده أوروبا ويقدر 60٪ من إنتاجها من كافة المنتجات لإفريقيا سيمر عبر ليبيا، وغيرها من دول شمال إفريقيا، مما يجعل الاستقرار في هذه المنطقة مسألة حيوية.
ويمكن فهم ديناميات إنتاج الطاقة في ليبيا وعلاقاتها الإستراتيجية من خلال التركيز على 3 قضايا أساسية الأولى تتعلق بالتنافس الأوروبي على منطقة شمال إفريقيا ووسطها وموارد الطاقة فيها، والثانية بما يعرف الإستراتيجية الأطلسية وهي إستراتيجية مركبة تمنع روسيا من الوجود في شمال إفريقيا وتسعى لتقليل الاعتماد على مصادر الطاقة من روسيا، وهذا مايجعل شمال إفريقيا أو شرق المتوسط بديلا مناسبا لها، وبهذا يصبح تكرار الحرب الباردة أو الصراع الأوروبي -الذي عادة ماكان شرق أوروبا شرارة له- من الماضي.
الثالثة وهي قضية الغاز في شرق المتوسط وكيف يمكن أن تخلق ديناميات جديدة للصراع في ليبيا، خاصة بعد توقيع ليبيا وتركيا لمذكرة تفاهم أمنية وبحرية مشتركة.
حرب النفط في ليبيا
يمكن متابعة ما حدث في ليبيا دوليا وتأثيره على شركات النفط، من خلال متابعة بعض ما نشر خلال فترة الثورة عن العوامل التي دفعت بعض الدول للتعجيل بالإطاحة بالقذافي، وأهمية هذه الشركات العاملة في ليبيا في التأثير على صناع القرار في الدول الأوروبية، مجلة (فوربس) نشرت في هذا السياق مقالا بينت فيه التنافس بين فرنسا وبريطانيا من جهة ومحاولتها لعزل ألمانيا عن الظهور في الحملة التي أعلنها مجلس الأمن ضد نظام القذافي إبان ثورة فبراير/شباط 2011.
كانت كل الدول المتدخلة تسعى لتعزيز شركاتها وموقعها في الاقتصاد الليبي، لذا كان هناك انتقاد لتأخر ديفيد كاميرون رئيس الوزراء البريطاني في الحرب الليبية، بينما كانت فرنسا هي السباقة، وبينت مقال الفوربس أن محاولات لعزل ألمانيا (وشركتها ونترشال) عن الملف الليبي جرت إبان الثورة.
ربما كانت إيطاليا من أهم اللاعبين في ليبيا خاصة وأنها من أكبر المستوردين للنفط والغاز الليبي وهي لم ترد في البداية الإطاحة بالقذافي على أي حال، لكن بالنسبة لفرنسا كان القذافي مهما، خاصة وأن الأخير قد حاول الوصول لتسويات مرضية مع كافة الأطراف الغربية.
إيطاليا وهي تملك أكبر شركة عاملة في قطاع النفط في ليبيا وهي شركة إيني التي كونت شركة مليته بالشراكة مع المؤسسة الوطنية للنفط وتعمل في حقل الفيل في حوض مرزق وفي حقل أبو الطفيل ولها مشاريع غاز طويلة الأجل لتوريد الغاز لإيطاليا[7]. لكن يبدو أن بعض المسؤولين الإيطاليين يرون أن ليبيا مهمة ليست فقط للغاز والنفط، بل للتحول الكبير الذي تشهده منطقة شمال إفريقيا كما في ورقة وزير الخارجية الإيطالي التي ذكر فيها هذه الأهمية التي تكتسبها ليبيا والمنطقة في الربط بين كافة أنحاء العالم.[8]
فرنسا وعينها على إفريقيا تدرك أهمية ليبيا، وتعمل من أجل تعزيز مصالحها خاصة في الحصول على اليورانيوم والغاز والنفط. فمنذ العام 2007 عندما وقع القذافي مع الرئيس ساركوزي اتفاقا لبناء مفاعل نووي في الجنوب الليبي، كان ذلك إيعازا ببناء علاقات جيدة مع فرنسا، مما جعل إيران والصين في مرمى حجر القذافي خاصة ودعم الأخير لانفصال جنوب السودان عن السودان. فرنسا تسعى للحصول على اليورانيوم من النيجر والذي تمد فرنسا بحوالي ثلث إنتاجها من الكهرباء الذي يعتمد على الطاقة النووية، لذلك بعد الثورة كانت فرنسا تسعى لتعزيز وجودها في ليبيا.[9]
فرنسا اختلفت مع القذافي حول طريق للغاز يمر من نيجيريا للجزائر بطول 4401 كم، وهذا ما قد يضر بإنتاج وتصدير النفط من ليبيا، فرنسا كذلك تسعى لتعزيز نفوذها في إفريقيا وحماية طرق التصدير لمنتجاتها كما أن نفوذها في إفريقيا يوفر لها الكثير من الأموال في تعاملاتها المباشرة وأحيانا بالفرانك مع بعض الدول الإفريقية[10].
بريطانيا، وألمانيا، والصين، وروسيا، كل هذه الدول تدرك حجم التداخل الذي يعيشه الاقتصاد العالمي وتداخل الطرق، وتعدد الفرص في إفريقيا، فضلا عن المخاطر الأخرى مما يجعل الأزمة الليبية مهمة لها بجانب الفرص المتوقعة في مجالات تتعلق بالغاز المسال والطاقة البديلة.
إستراتيجيا الحلف الأطلسي
يمكن فهم إستراتيجية الحلف الأطلسي بأنها تمنع وجود الاتحاد الروسي في منطقة شمال إفريقيا والحد من وجوده في البحر الأبيض المتوسط، روسيا هي من أكبر دول العالم تصديرا للغاز لاسيما لأوروبا، هذا قد شكل عامل ضغط مستمر على الدول الأوروبية التي لا تحمل لروسيا الكثير من الود، فتاريخ أوروبا مليء بتلك الصراعات التي بدأت في شرقها وانتهت بصراع مسلح مع الدب الروسي، هذا النمط الذي بدأ منذ نابليون لم ينته إلا مؤخرا بعد سقوط الاتحاد السوفيتي السابق.
لذلك يمكن فهم ما يجري في ليبيا الآن من صراع بين الدول الأوروبية، وانقسام حول أي الأطراف الليبية أولى بالدعم، على أنه كذلك صراع حول منطقة شمال إفريقيا وإمكانية تحويل الفرص المتاحة في ليبيا والجزائر وهي من الدول الأكثر تصديرا للنفط والغاز في إفريقيا، وكذلك تملك الجزائر وليبيا كميات من الغاز المسال، لذا فإن اعتماد الدول الأوروبية على الطاقة من شمال إفريقيا لا يحملها تلك التكلفة السياسية والاقتصادية التي تستخدمها روسيا في الضغط على أوروبا.
بعد نشر كثير من وسائل الإعلام الأمريكية عن محاولات للتدخل الروسي في ليبيا، بدأت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية في البحث عن حل سياسي للأزمة الليبية، كما أنها بدأت تبحث عن وقف الحرب في ليبيا والضغط على خليفة حفتر الذي يشن عدوانا على العاصمة الليبية طرابلس، وبدا ظاهرا من كثير من المحادثات الإعلامية والبحثية أن الولايات المتحدة أخذت الأمر محمل جد وقامت بزيارات متعددة للأطراف الليبية للوصول لحل سريع للأزمة.[11]
ثورة شرق المتوسط
يمكن القول إن هذا التنازع بين روسيا التي تريد الاستمرار في احتكار السوق الأوروبي للطاقة، والمحاولات المستمرة من أوروبا للبحث عن مصادر أخرى من شمال إفريقيا هو النمط السائد في إستراتيجيات الطاقة في المنطقة، لذا فإن العالم الذي يشهد ثورة في مجال الطاقة ابتداء من الغاز المسال للطاقة البديلة، فتح مسارات لدول لم تكن في مسرح الأحداث للدخول في سوق الطاقة، كما أن أوروبا تجد في ذلك بديلا مناسبا يبعدها عن شبح الاعتماد على الطاقة الروسية وتكلفتها السياسية الباهظة.
أحد هذه المشاريع جاء من دولة الاحتلال إسرائيل، فمنذ التسعينيات بدأت الشركات الإسرائيلية في التنقيب في شرق المتوسط، وجاءت النتائج بوجود كميات كبيرة من الغاز في أحواض تتعلق بمجموعة دول عربية واليونان وقبرص.
هذا الاكتشاف خلق بيئة من التوتر والتوقعات المتباينة حيث تسعى إسرائيل لأول مرة أن تكون مصدرة للغاز لأوروبا، وتسعى جاهدة لحماية المناطق الاقتصادية التي تقع في حدودها (المغتصبة). بينما تجد دول كالأردن ولبنان نفسها كذلك في توق للدخول في مجال الطاقة، وبالطبع مصر وهي تملك كميات هائلة من الغاز المسال تسعى للدخول في هذا المجال من خلال مشروع تكتل لدول شرق المتوسط، يسعى لبناء بنية تحتية تنقل الغاز لأوروبا.
التكتل السياسي المعروف اختصارا EASTERN MEDITERRANEAN GAS FORUM (EMGF) يضم كل من قبرص، ومصر، واليونان، وإسرائيل، وإيطاليا، والأردن. وشكلت فلسطين لجنة للمشاركة في التكتل. هذا التكتل خلق حالة من التوتر وعودة السؤال الحدودي في دول بينها نزاعات قديمة، الأردن ودولة الاحتلال وكذلك لبنان، جمهورية شمال قبرص التركية، وجمهورية قبرص (اليونانية). هذا التكتل استثنى قبرص التركية ولم يبال في حقوق تركيا في المنطقة، وهنا بدأ النزاع في منطقة شرق المتوسط. لكن ما علاقة ليبيا بكل ذلك؟
ليبيا هي دولة متشاطئة مع تركيا، فمناطق مثل فتحية وما حولها تقابلها تماما مدن ليبية شرقية مثل مدينة درنة، هنا يعطي القانون الدولي الصادر عام 1982 المعروف اختصارا UNCLOS [12] الحق لدول مثل تركيا وليبيا أن توقع مثل مذكرة التفاهم التي وقعتها ليبيا وتركيا في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، في إسطنبول، وفيها مذكرة تفاهم أمني وبحري تساعد تركيا على ترسيم حدودها البحرية، وتمنع احتكار مصر واليونان لمنطقة شرق المتوسط.
اليونان من جهتها ترى بأن التشاطئ الليبي التركي تعترضه جزر يونانية كجزيرة كريت وهي لاترى أن لتركيا حق في ذلك، بالطبع الاتفاقية لم تخرج للعلن بعد، لكنها تؤكد أن الطاقة لها بعد فاعل فيما يحدث في الأزمة الليبية، فإن مصر واليونان لم تذكرا ليبيا من قريب ولا بعيد في قضايا تتعلق بالحدود البحرية، بل إن ذلك يلقي ظلالا حول الدعم اللامتناهي لخليفة حفتر الذي يبدو أنه يضمن لمصر التحكم في المياه البحرية الليبية دون الدخول في إجراءات ندية بين الدولتين الليبية والمصرية.
هذا ماتفعله اليونان كذلك حيث تستغل الظرف الصعب في ليبيا في تنفيذ المشروع الإسرائيلي الذي يسعى لمد أوروبا بالغاز من إسرائيل وقبرص ولبنان مرورا بجزيرة كريت ومنها إلى أوروبا. هذا المشروع الذي يعده الخبراء مجرد أفكار يصعب تحقيقها لتكلفتها المرتفعة ووجود بدائل تمر عبر تركيا وفيها بنية تحتية قائمة، كما أن أسعار الغاز ستكون مرتفعة جدا بالنسبة للغاز الروسي .[13]
أما مصر، فقد نددت بالاتفاق واعتبرت أن ذلك مخالف لاتفاق الصخيرات، الذي لا علاقة لمصر به، إلا أن الحجة التي جاءت بها مصر لا ترقى أمام نصوص الاتفاق الذي ينص في ديباجته على حماية الدولة والمدنية وأهداف ثورة السابع عشر من فبراير/شباط، هذه المباديء الحاكمة التي انتهكتها مصر، وانتهكت سيادة ليبيا أكثر من مرة بالقصف والتدخل في شؤونها الداخلية، ودعم طرف على حساب آخر، وخرق قانون حظر الأسلحة، وإرسال الجنود المصريين لليبيا، واحتضان كل من يريد أن يتآمر على ليبيا من أنصار النظام السابق. كل هذا لا يعطي مصر الحق في التدخل في الاتفاقيات التي تقيمها الحكومة المعترف بها دوليا.
لكن ما الذي يحدث لو تحولت هذه المنطقة في شرق المتوسط، واستقرت ليبيا وظهر ما فيها من غاز مسال يقدر بـ2.8 تريليون متر مكعب حيث إن معظم الأحواض لم تكتشف بعد [14] هذا سيجعل المياه الدافئة في شمال إفريقيا من مصر وليبيا والجزائر كلها مليئة بالطاقة والغاز المسال وتصبح كل هذه الدول قادرة على إيجاد صيغة تفاهم للتنمية، لكن السائد الآن هو التنازع ومحاولة استغلال الأزمة في ليبيا لتحقيق منافع وقتية على حساب المستقبل ونهوض هذه المنطقة من حالة التخلف والحروب التي تعانيها.
خاتمة
تلعب الطاقة في الأزمة الليبية دورا مهما بين أطراف الصراع الليبي، وبين الدول الإقليمية، وسياق الجيوإستراتيجيا الطاقة العالمي. فليبيا بأحواضها الأربعة وأهمها حوض سرت، تتعاون مع شركات عالمية متعددة من إيطاليا إلى ألمانيا، وفرنسا، وأسبانيا، ودول الخليج.
كما أنها تصدر النفط لدول مختلفة أهمها إيطاليا وألمانيا؛ لكنها في نفس الوقت تعد ممرا مهما لليورانيوم والغاز الطبيعي من إفريقيا، وهذا جعل من دولة كفرنسا تتدخل بقوة في الشأن الليبي، منطقة شمال إفريقيا كذلك تعد بديلا للاتحاد الأوروبي لتنويع مصادر دخله من الطاقة وتقليل الاعتماد على الغاز الروسي.
هذا قد جعل الصراع الداخلي في ليبيا يتحول رويدا رويدا إلى صراع إقليمي، ويبدو أنه سيتحول لصراع دولي بعد الأنباء عن التدخل الروسي في ليبيا. هذا يجعل ديناميات الصراع مركبة ومعقدة حيث تلعب الشركات المستفيدة من الطاقة في ليبيا دور اللوبي الضاغط على مجموع الدول للوصول لحل للأزمة الليبية.
وحدها روسيا لاتجد غضاضة في استمرار الصراع في ليبيا، لأنها ترى في وجود بديل أوروبي لغازها خطرا يجب التصدي له بقوة. روسيا التي تدخلت في سوريا للضغط على كافة دول المنطقة لاستمرارها كدولة هي الأولى التي تصدر الغاز لأوروبا، لا يستبعد أن تستمر في وضع العصا في دولاب الحراك السياسي الذي تسعى له أوروبا من خلال مؤتمر برلين المزمع إقامته في السنة القادمة.
هنا جاءت اتفاقية أو مذكرة التفاهم بين تركيا وليبيا لترسيم الحدود البحرية والتعاون الأمني لإحداث توازن بين مجموع القوى التي تدخلت في ليبيا. ليبيا يمكن أن تشكل حالة استقرار في حال كان هناك منطق تعاون بين الدول الإقليمية، لكنها قد تكون مصدر خطر كبير يجعلها ساحة لحرب دولية.
لم يكن مصادفة أن تشهد ليبيا صراعا داميا على أرضها في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن صدفة أن يكون اكتشاف النفط فيها بداية لتغيرات جذرية في بنية مؤسساتها وسلطة انقلاب القذافي الذي شوه مسارها ومصيرها، كل ذلك لأن نعمة النفط لا تكتمل إلا بإدارة وتوافق داخلي، وتعاون إقليمي، ونظم دولي يبدو أنه يشهد حالة من التدهور تنبئ بتغيرات تشهدها المنطقة.