بعد سنوات قمع ومماطلة.. لماذا أقرّ السيسي قانون العمل الأهلي؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

وأد العمل المدني في مصر، إشكالية تفاقمت مع وصول عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم في 8 يونيو/ حزيران 2014، إذ شهدت المنظمات الحقوقية تراجعًا كبيرًا على مستوى تحركاتها وأدوارها، بعد اشتداد القبضة الأمنية على أنشطتها، وملاحقة روادها وإلقاء القبض عليهم، ومحاكمتهم على ذمة قضايا متعلقة بالتمويل، وتهديد أمن الدولة.

ومع إقرار السيسي قانون (الجمعيات الأهلية) أو (المنظمات غير الحكومية)، تم فرض قيود على تأسيس المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية، ومنح الحكومة سلطات هائلة عليها، لا تجعلها تتجاوز المسار المخطط لها.

في ظل حالة فرضها الجنرال على الهيئات المدنية كحالة قابلة للتدوير، تستخدمها القاهرة في مرحلة حرجة لعدم خسارة التحالفات الغربية، والاستفادة منها قدر المستطاع، ثم تغذية المزيد من القيود الصارمة، بحيث لا تنفلت مرة أخرى، وتساهم في صنع قلاقل للسلطة، على غرار مرحلة ما قبل ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، ودورها في فضح ممارسات نظام مبارك، ثم انتهاكات المجلس العسكري من بعده.

استقلالية منعدمة

في 21 أغسطس/ آب 2019، أقر السيسي، قانون تنظيم ممارسة العمل الأهلي، الذي يعد أكثر التشريعات إثارة للجدل بشأن تنظيم العمل المدني، والمؤسسات الاجتماعية والخدمية في البلاد.

كان السيسي قد صدق على نسخة سابقة من القانون في مايو/ أيار 2017، ثم أعاده للبرلمان للتعديل في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018، إثر انتقادات طالته من قبل دستوريين وحقوقيين، في سابقة هي الأولى خلال عهده.

وفي 25 يوليو/ تموز 2019 أعلنت منظمة "هيومن رايتس ووتش" الحقوقية الدولية، في بيان، أن القانون "يفرض قيودًا ويقوض استقلالية عمل المجتمع المدني في مصر".

ويحظر القانون ممارسة أنشطة للجمعيات الأهلية بذريعة خطورتها على الأمن القومي، دون تحديد لهذا المفهوم الواسع، كما يمنح النظام صلاحية حل المنظمات جراء وقوع مخالفات، ويفرض غرامات تصل إلى مليون جنيه مصري (الدولار يساوي نحو 16.50 جنيهاً)، على المنظمات التي تعمل دون ترخيص أو التي ترسل وتتلقى الأموال دون موافقة الحكومة.

كما يمنع القانون ممارسة الجمعيات أي أنشطة تتطلب ترخيصًا من جهة حكومية، بالإضافة لحظر إجراء استطلاعات الرأي أو نشر أو إتاحة نتائجها، أو إجراء الأبحاث الميدانية، أو عرض نتائجها على الرأي العام، دون مراجعتها مع الدولة، وهو ما اعتبره محللون منعًا غير منطقي.

وبشأن المنظمات الأجنبية العاملة في هذا المجال بمصر، يجرم القانون التعاون مع أي منها أو أي خبراء أجانب، ويفرض نظامًا صارمًا بالموافقة المسبقة للمنظمات الأجنبية للعمل بمصر، ويسمح للحكومة بمراقبة ورصد الأنشطة اليومية لها.

وحسب القانون، فإن من تلقى أو أرسل بصفته رئيسًا أو عضوًا أو موظفًا بجمعية أو مؤسسة أهلية، أو أي كيان يمارس العمل الأهلي أموالًا من جهة أجنبية أو محلية أو قام بجمع التبرعات، يعاقب بغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه ولا تزيد على مليون جنيه.

سجل أسود 

جاء إصدار السيسي للقانون الجديد، بعد إلغاء المفوضية العليا لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة المؤتمر الذي كان مقررا عقده في مصر يومي 4 و5 سبتمبر/أيلول المقبل حول مكافحة التعذيب، إثر انتقادات وجهتها منظمات حقوقية للمكان الذي اختارته المنظمة لعقد المؤتمر، في ظل تحفظات دولية على سجل النظام المصري الأسود في التعذيب الممنهج. 

وكان السيسي يرجئ إصدار القانون، الذي أقره مجلس النواب بسرعة فائقة نهاية الدورة البرلمانية الماضية، لأسباب عدة، على رأسها عدم استباق هذا المؤتمر بأي إجراءات تمنع عقده في مصر، أو تحوله بعد الانعقاد لساحة استهجان واسعة لإجراءات تعامل السلطة المصرية مع العمل الأهلي والحقوقي.

وبعد إلغاء المؤتمر، أقر السيسي القانون للدخول في مفاوضات حتمية مع الجهات المانحة والسفارات الكبرى لدول غرب أوروبا واسكندنافيا والولايات المتحدة في المقام الأول، لبحث سبل إعادة تمويل الجمعيات والمؤسسات المصرية كما كان الوضع قبل العام 2017.

يتيح القانون للحكومة، في مادته السابعة من مواد الإصدار، 6 أشهر لإصدار اللائحة التنفيذية، التي وضعت وزيرة التضامن غادة والي مشروعًا بها بالفعل، ما زال في انتظار موافقة الجهات السيادية والرقابية، وفوق ذلك موافقة الوزيرة السابقة فايزة أبو النجا، مستشارة السيسي لشؤون الأمن القومي، والتي شاركت بفاعلية في صياغة النص النهائي للقانون، بعد اعتراضها على بعض الأفكار التي كانت قائمة في مشروع الوزيرة السابق رفضه منذ عامين.

تحت المقصلة

مع التغول العسكري في مفاصل الدولة، والسيطرة على جميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، انحسر العمل المدني والأهلي في مصر، وأقدم النظام بقيادة السيسي على تقويض وإغلاق المؤسسات الاجتماعية.

في 24 مايو/ أيار 2017، أقر البرلمان قانون (الجمعيات الأهلية) أو (المنظمات غير الحكومية)، ونُشر في الجريدة الرسمية للدولة، وفرض القانون قيودًا على تأسيس المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية، ومنح الحكومة سلطات هائلة عليها، وفرض عقوبات على من يخالف القانون بالسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، وبغرامة تصل إلى مليون جنيه. 

ونددت منظمة العفو الدولية بهذا القانون الذي اعتبرته ضربة "كارثية"، لجماعات حقوق الإنسان العاملة بمصر، فيما أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها بشأن القانون أنه (دمر المجتمع المدني في البلاد، وحوله إلى ألعوبة في يد الحكومة).

جاءت هذه الخطوة في إطار الحملة الممنهجة على منظمات المجتمع المدني  عقب الانقلاب العسكري في 3 يوليو/ تموز 2013، حيث تم التضييق على عمل نحو 47 ألف جمعية محلية، بالإضافة إلى 100 جمعية أجنبية وفقًا للتقديرات الحكومية.

وهو الأمر المستمر أساسًا منذ ولاية المجلس العسكري الأولى في أعقاب ثورة 25 يناير، عندما وجه ضربة البداية، للمنظمات غير الحكومية المستقلة في القضية 173 لسنة 2011 المعروفة إعلاميًا "بالتمويل الأجنبي"، والمستمرة تطوراتها، وأقرت إجراءات عقابية ضد 12 منظمة مصرية حقوقية مستقلة، بتجميد الأموال والمنع من السفر واستدعاء العاملين، بالإضافة إلى الإغلاق المباشر.

وصدق السيسي على قانون الجمعيات الاهلية، أو المنظمات غير الحكومية في مايو/أيار 2017، والذي قضى على ما تبقى من مساحة ضئيلة للمجتمع المدني، ودمر عمل حقوقي دام لعقود، وأوقف أنشطة الجمعيات المستقلة الأخرى.

تحذير أمريكي

في 8 فبراير/ شباط 2011، في آتون اندلاع الثورة المصرية، بدأ الصدام المبكر بين المجلس العسكري، ومنظمات المجتمع المدني، وبدأت قضية التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني غير الحكومية، واتهام المجلس العسكري الحاكم في مصر، لجماعات حقوق الإنسان بممارسة نشاط سياسي غير قانوني.

وفي 12 فبراير/ شباط 2011، بعد يوم من تنحي الرئيس المعزول حسني مبارك، التقى الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان الأمريكية المشتركة، مع أعضاء المجلس العسكري في مصر، وناقش معهم قضية النشطاء الأمريكيين المؤيدين للديمقراطية المتهمين في تحقيقات أدت إلى توتر العلاقات بين القاهرة وواشنطن.

وجاء ذلك بعد توجيه الاتهامات ضد 43 ناشطًا أجنبيًا ومصريًا، من بينهم حوالى 19 أمريكيًا، في أعقاب تحقيق مع عدد من منظمات المجتمع المدني. ومن بين المتهمين سام لحود مدير مكتب المعهد الجمهوري الدولي في مصر، وهو ابن وزير النقل الأمريكي السابق، ومنع المتهمون من مغادرة البلاد.

وتسببت القضية في توتر شديد في العلاقات مع واشنطن التي اعتبرت مصر حليفًا إستراتيجيًا وثيقًا في ظل حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، وتقدم واشنطن لمصر مساعدات عسكرية بقيمة 1.3 مليار دولار سنويًا.

وقال الكونجرس والبيت الأبيض: إن " القضية تهدد المساعدات". وحذر 3 من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي مصر من أن العلاقات بين البلدين تمر باسوأ فتراتها بعد أن قرر القضاء المصري إحالة 19 ناشطًا أمريكيًا إلى المحاكمة.

وقال تشارلز دون مدير جمعية "فريدوم هاوس": " الرسالة التي وجهتها السلطات في مصر قد وصلت إلى واشنطن".

وفي 1 مارس/ آذار 2011، غادر الناشطون الأمريكيون، بالإضافة إلى 8 من جنسيات آخرى من المتهمين في قضية التمويل الأجنبي الأراضي المصرية، بعد أن رفع عنهم حظر السفر بموجب قرار قضائي. وغادروا على متن طائرة أمريكية خاصة في مطار القاهرة بعد إنهاء إجراءات سفرهم وسط إجراءات أمنية مشددة.

الجمعيات الأجنبية

هناك مواد في القانون الجديد لا يجوز الإخلال بها لحماية الجمعية الأجنبية من الحل، حيث يشترط لإنشائها أن يكون لها نظام أساسي مكتوب يتفق مع نموذج تحدده اللائحة التنفيذية التي ستصدر للقانون، وموقع عليه من جميع المؤسسين. 

ويجب ألا يتضمن هذا النظام الأساسي أي مواد تنص على الإخلال بتلك المصطلحات الثلاثة، التي تزخر بها التشريعات المصرية، وتستخدم لتوسيع رقعة التجريم.

  1. يحظر القانون على الجمعيات ممارسة أنشطة حزبية أو نقابية أو تكوين جمعيات سرّية أو سرايا، وهذا يعتبره الغربيون أمرًا طبيعيًا، لكن ليس من الطبيعي أن يعود المشروع ويحظر عليها "ممارسة أنشطة من شأنها الإخلال بالنظام العام أو الآداب العامة أو الوحدة الوطنية أو الأمن القومي" دون توضيح المقصود بهذه المصطلحات، فهناك العديد من الفعاليات والأنشطة التي يمكن اعتبار أنها تهدد النظام العام من قبل سلطات أو أجهزة متطرفة في تقييد المجال العام، أو أنها مغالية في تطبيق القانون.
  2. حظر تمويل نشاط يدخل في نطاق عمل الأحزاب، أو النقابات المهنية، أو العمالية أو ذي طابع سياسي أو ديني، أو يضر بالأمن القومي للبلاد، أو النظام العام، أو الآداب العامة، أو الصحة العامة، أو يحض على التمييز أو الكراهية أو إثارة الفتن"، ما يعبر بحسب تلك الجهات خلال مفاوضاتها مع المسؤولين المصريين عن "قلق الحكومة من تحركات المنظمات الأجنبية غير الحكومية، ورغبتها في إحكام وثاقها وعدم فتح مساحات أمامها للعمل في المجالات السياسية والثقافية والحقوقية تحديداً، خاصة مع استخدام مصطلح "إثارة الفتن" الذي يمكن استغلاله لمنع أنشطة كثيرة في تلك المجالات المزعجة لنظام السيسي.
  3. يجيز القانون لوزير التضامن الاجتماعي أن يصدر قراراً بإيقاف النشاط أو إلغاء التصريح من الأساس، وذلك فقط لـ"أسباب تتعلق بتهديد الأمن القومي أو السلامة العامة أو الإخلال بالنظام العام"، ودون اللجوء إلى القضاء، وهنا تخشى الجهات الغربية الترصد بالمنظمات الأجنبية والمحلية المدعومة منها، فضلاً عن كون المادة تسمح بتدخلات إدارية مباشرة في أي وقت لوقف الأنشطة أو منع التمويل.

قضية التمويل

استمرت التحقيقات الجنائية المطولة مع العاملين بمنظمات المجتمع المدني، في القضية رقم 173 لسنة 2011، حتى أكتوبر/تشرين الأول 2018، كان قاضي التحقيق قد استدعى 61 شخصًا للاستجواب، واتهم 15 ناشطًا حقوقيًا بارزًا من 4 منظمات.

كما حظرت السلطات سفر 27 شخصا، وأمرت بتجميد أموال 10 نشطاء و7 منظمات مجتمع مدني، ومن بين من تم استدعاؤهم في 2017 محمد زارع، نائب مدير "مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان" الذي تم إخلاء سبيله بكفالة 30 ألف جنيه، ومصطفى الحسن، مدير "مركز هشام مبارك للقانون" وعبد الحفيظ طايل، مدير "المركز المصري للحق في التعليم"، وأفرج عن كل منهما بغرامة 20 ألف جنيه.

وخلال العامين 2016 و 2017 أغلقت العشرات من المراكز والمنظمات المدنية، منها (مركز النديم لتأهيل ضحايا العنف – الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان – مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان – مركز هشام مبارك للقانون – المركز المصري للحقوق الاقتصادية – المنظمة العربية للإصلاح الجنائي – مركز الأرض لحقوق الإنسان).

كما شنت السلطات حملات مشددة منذ العام 2014 ضد الجمعيات الخيرية في سائر ربوع البلاد، بداية من الجمعية الشرعية، وأنصار السنة المحمدية، وغيرهم من الذين كانوا يقدمون خدمات تطوعية للمواطنين الفقراء، لا سيما توفير الغذاء والدواء ونفقات العلاج والزواج، الأمر الذي ساهم في زيادة الضغط على الطبقات الكادحة داخل المجتمع، التي تعاني الفاقة نتيجة الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي انتهجتها الحكومة. 

وأرجعت العديد من المنظمات الحقوقية الدولية، والتقارير الصادرة عنها ارتفاع موجة العنف والإرهاب في مصر إلى موجة القمع غير المسبوق على الحريات وعمل المنظمات المدنية والأهلية في البلاد. 

قيود صارمة

في 24 أغسطس/ آب الماضي، قالت منظمة هيومن رايتس ووتش: إن " البرلمان المصري وافق على قانون جديد للمنظمات غير الحكومية في 14 يوليو/تموز 2019 من شأنه الإبقاء على الكثير من القيود القائمة على عمل تلك المنظمات، ويتعين على الرئيس عبد الفتاح السيسي ألا يوافق على هذا القانون وأن يُعيده إلى البرلمان لتعديله".

وأكدت أن "مصر واجهت ضغوطا داخلية وخارجية للرجوع عن قانون 2017 بالغ القسوة الذي هدد بسحق العمل المستقل لمنظمات المجتمع المدني، وكانت به مواد تقضي بحبس العاملين فيها جراء عملهم السلمي. في حين ألغى المشرّعون عقوبات السجن في القانون الجديد، إلا أنهم أبقوا على قيود مشددة على عمل المنظمات".

وقال مايكل بَيْج، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في هيومن رايتس ووتش: "القيود في القانون الجديد، مقترنة بسعي الأجهزة الأمنية المصرية الحثيث لقمع المجتمع المدني بلا هوادة، تُظهر نية الحكومة سحق المنظمات المستقلة. إذا كانت هناك ذرة واحدة من النية الحسنة لتمكين المجتمع المدني من العمل باستقلالية، فعلى الرئيس السيسي إعادة القانون للبرلمان حتى يعالج عيوبه الخطيرة".