زعزع غزو أوكرانيا، قطاع الطيران الروسي المدني، ورمى به في أسوأ أزمة منذ عقود بسبب العقوبات الغربية التي استهدفته بقسوة.
إذ قُيدت رحلات الشركات الروسية الجوية الدولية، وهو ما انعكس على الأرباح ومستقبل هذا القطاع، وثقة الركاب في سلامة الطائرات من الناحية الفنية.
وبدأت سريعا تظهر آثار الحرب الروسية على أوكرانيا المندلعة منذ 24 فبراير/شباط 2022، على قطاع الطيران.
وجاء ذلك بعدما أوقفت كبرى شركات صناعة الطائرات بوينغ وإيرباص تسليم طائرات أجنبية جديدة وقطع غيار لموسكو، مما أجبر شركات الطيران الروسية على "تفكيك" الطائرات التي جرى إيقافها.
فمنذ بدء غزو روسيا لجارتها أوكرانيا، حظرت كندا والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى الطائرات الروسية من مجالها الجوي، بينما ردت موسكو بمنع 36 دولة من التحليق في أجوائها.
وأدت العقوبات المتبادلة والقيود الجوية إلى اختلال في قوة الطيران الروسي المدني، وحدوث مشكلات اقتصادية لموسكو.
فقد ألغت تلك العقوبات، الرحلات الجوية للطيران الروسي نحو كثير من الدول، وأجبرتها على تغيير مسارها، مما زاد أسعار تذاكر الطيران، علاوة على ارتفاع تكاليف الوقود للرحلة.
فضلا عن تحذير الخبراء وشخصيات في صناعة الطيران بشأن سلامة الطيران من ناحية العجز في تأمين قطع الغيار.
وأمام ذلك، وبخ الرئيس فلاديمير بوتين علنا خلال مكالمة فيديو مباشرة مع المسؤولين، في 13 يناير/كانون الثاني 2023، دينيس مانتوروف، وزير التجارة والصناعة والمسؤول عن الإشراف على صناعة الأسلحة والدفاع الروسية وإمدادات المعدات للقوات، لأنه عمل ببطء شديد على عقود الطائرات في البلاد.
وحاول مانتوروف، الذي رافق بوتين في عدة رحلات، تبرير التأخير، موضحا أن وزارته كانت على وشك بناء محركات هليكوبتر في سانت بطرسبرغ جرى تصنيعها سابقا في أوكرانيا.
لكن بوتين أدار عينيه إلى مانتوروف وهو أيضا يشغل منصب نائب رئيس الوزراء وقال له: "أطلب منك التعجيل بهذا العمل".
في بداية المكالمة، وعد مانتوروف، الذي أصبح خاضعا لعقوبات المملكة المتحدة منذ ديسمبر/كانون الأول 2022، الرئيس الروسي بأنه سيوفر 175 مليار روبل (2.12 مليار جنيه إسترليني) لشركة الطيران الحكومية إيروفلوت لاستئجار طائرات مدنية وعسكرية لعام 2023 وحتى عام 2025.
لكن بوتين قاطع مانتوروف قائلا له: "دينيس لديك كل شيء جاهز لكن أعلم أنه لا توجد عقود في الشركات كما قال لي المدراء، فلماذا تلعب دور الأحمق؟ متى سيجرى توقيع العقود؟".
وأظهرت حرب أوكرانيا مدى التأثير الكبير على نظرة الكرملين المستقبلية لقطاع الطيران المدني والخشية من المساعي الغربية لتحجيم نطاقه وبالتالي ضرب عائداته الاقتصادية.
وأمام إدراكه حجم التأثير المباشر للعقوبات الغربية على قطاع الطيران، يتحرك الكرملين سريعا للحفاظ على تماسك هذا القطاع على الأقل للطيران محليا ونحو الدول الصديقة لموسكو على المدى المنظور.
وكانت الصدمة التي تلقاها قطاع الطيران الروسي عقب حرب أوكرانيا عميقة، إذ توقفت شركات طيران روسية مستأجرة عن الطيران، بينما باع ثلث مالكي الطائرات الخاصة في البلاد طائراتهم بأسعار مخفضة لتقليل خسائرهم.
وشملت العقوبات في قطاع الطيران، حظر تصدير الطائرات أو قطع الغيار أو المعدات ووقف صيانة الطائرات المسجلة في روسيا من قبل إيرباص وبوينغ، والحرمان من خدمات التأمين وإعادة التأمين في لندن.
كذلك، أوقفت برمودا وهي أرض تسجيل العديد من الطائرات الروسية شهادات تصديقها.
ولا سيما أن العقوبات المتعلقة بالحرب في أوكرانيا تمنع الشركات الغربية من التزود بالوقود، أو الصيانة أو توفير قطع غيار لطائرات رجال الأعمال المملوكة للروس. ويرجع هذا التخوف للغياب شبه الكامل لأي قطع غيار ما بعد البيع.
حتى أن السوق الرمادية الضئيلة لقطع غيار الطائرات الموجودة بالفعل تتطلب فترات طويلة للتسليم وتكلفتها أكثر من 10 إلى 20 مرة.
وسبق أن أفاد سيرغي تشيميزوف المدير العام لشركة التكنولوجيا الحكومية الروسية "روستيك"، في 9 سبتمبر/أيلول 2022 بأن طائرات بوينغ وإيرباص "من غير المرجح أن يجرى تسليمها إلى روسيا مرة أخرى".
ويمتلك المواطنون الروس أقل من 500 طائرة رجال أعمال، ووفقا للخبراء، يتراوح العدد الفعلي للطائرات التابعة لمالكين في روسيا ما بين 600 و800، منها حوالي 100 طائرة مملوكة لشركات الطيران الدولية.
وفي الوقت نفسه، انخفضت حركة الطيران التجاري في روسيا من 50 إلى 70 بالمئة منذ غزو أوكرانيا، كما تضاعفت تكلفة الرحلة إلى الخارج وفي داخل البلاد.
فعلى سبيل المثال رحلة طيران مستأجرة لطائرة رجال الأعمال من موسكو إلى سانت بطرسبرغ كانت بتكلفة 25000 دولار في فبراير 2022، باتت تبلغ الآن حوالي 40 ألف دولار.
وتجاوزت خسارة شركات الطيران الروسية (61 مليار روبل) فقط للربع الأول من عام 2022، ومن هذا الرقم هناك خسائر بـ 9 مليارات روبل يمثلها الشحن الجوي.
ويرى مركز الأبحاث الأميركي "معهد دراسات الحرب" في تقرير نشره في 12 يناير 2023، أن انتقاد بوتين علنا لنائب رئيس الوزراء الروسي، هو جزء من حملة إعلامية مستمرة في الكرملين لرفع صورة الرئيس كزعيم مشارك في زمن الحرب.
خاصة أنه يجرى تحرير اللقاء وحذف اللقطات والتصريحات غير المناسبة للإعلام، كما يحدث غالبا في معظم اجتماعات بوتين.
وأضاف المعهد، أنه من المحتمل أن يبحث الرئيس الروسي عن كبش فداء في صراع القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية لمعالجة النقص في المعدات والتكنولوجيا.
ومع ذلك، لا يزال بعض اللاعبين الروس في مجال طيران الأعمال يتوقعون مواصلة عملياتهم من خلال التطلع إلى الدول الشرقية، خاصة فيما يتعلق بصيانة الطائرات، وهي مربط الفرس في سلامة هذا القطاع، ولا سيما بعد حرمان الشركات الروسية من دعم الصيانة.
ورغم ذلك، يعلق المشغلون آمالهم على دول مثل الصين والهند وإيران للمساعدة في هذا الباب، أي الدول لم تنضم إلى تكتل العقوبات على روسيا.
وفرضت الدفعة الثامنة من العقوبات الأوروبية، في 6 أكتوبر/تشرين الأول 2022، حظر استيراد جديد بقيمة سبعة مليارات يورو لخفض إيرادات روسيا.
وهدفت قيود التصدير الجديدة إلى الحد من قدرة روسيا على تطوير قطاعها الدفاعي والأمني.
ويتعلق الأمر بشكل خاص ببعض المكونات الإلكترونية المحددة (الموجودة في الأسلحة الروسية) والمواد التقنية المستخدمة في قطاع الطيران، كما ذكرت المفوضية الأوروبية.
وأعلنت الحكومة البريطانية، في 19 مايو/أيار 2022 فرض عقوبات جديدة على كبرى شركات الطيران الروسية منها "إيروفلوت" ومنعتها من إعادة بيع المواقف المخصصة لها في المطارات ردا على غزو أوكرانيا.
وجاء في البيان أن أول شركة طيران روسية "إيروفلوت" وأيضا "أورال إيرلاينز" و"روسيا إيرلاينز" لن تتمكن بعد الآن من إعادة بيع مواقع الهبوط المخصصة لها التي لم يعد يسمح لها باستخدامها في مطارات المملكة المتحدة وتقدر بنحو 50 مليون جنيه (59 مليون يورو).
وبحسب لندن فإن هذه العقوبات الدولية تدفع روسيا إلى "أعمق ركود منذ سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991".
وأواخر فبراير 2022، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات على قطاع صناعة الطائرات الروسي، فأغلق مجاله الجوي أمام الطائرات الروسية ومنع تزويد الشركات بقطع غيار.
في المقابل، مددت الحكومة الروسية منذ ديسمبر 2022، إجراءات التشغيل للطائرات المستأجرة أو المستأجرة إيجارا تمويليا من الشركات الأجنبية لمدة عامين.
إذ احتجزت روسيا مئات الطائرات الأجنبية ورخصت لها الطيران على الخطوط الداخلية حصرا، ردا على العقوبات الغربية.
وسيسمح ذلك لشركة الطيران الروسية "إيروفلوت" بالحفاظ على أسطولها من الطائرات، ريثما تستكمل تشكيل أسطولها بطائرات روسية الصنع "سوبر جيت 100"، كما أعلن نهاية ديسمبر 2022، ورغم ذلك لا يمكن أن يعوض هذا النقص، وفق الخبراء.
ويرجع ذلك لحرمان طائرات "إيروفلوت" من طراز بوينغ وإيرباص من قطع الغيار والخدمة، وهي الشركة التي أصبحت مشاكلها رمزا لعزلة روسيا.
وسبق أن قدر خبراء بيانات الطيران IBA في مايو 2022 بأن شركات الطيران الروسية لديها إمدادات تكفي لثلاثة أشهر، وبعد ذلك قد تبدأ في تفكيك قطع غيار الطائرات.
وفي هذا السياق فإنه اعتبارا من 18 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، كانت حوالي 50 طائرة تتبع لـ "إيروفلوت" معطلة، ولذلك جرى تفكيك نصفها لقطع غيار.
في أبريل/نيسان 2022، أعلن بوتين أنه سيخصص ما يقرب من 310 ملايين دولار لشركات الطيران للمساعدة في تغطية النفقات من فبراير إلى يوليو/تموز من العام المذكور.
وعقب ذلك، أصدرت روسيا في مايو 2022 قانونا من شأنه أن يسمح لشركات الطيران في البلاد بإعادة تسجيل الطائرات المملوكة للأجانب مع التسجيلات الوطنية، في خطوة أشبه ما تكون بـ "عملية تأميم"، كما يشير مراقبون ذوو خبرة في قطاع الدفاع الروسي.
وبالفعل قبل توقيع بوتين على مشروع القانون، جرى تحذير شركات الطيران بعدم تشغيل هذه الطائرات إلى وجهات دولية.
ويدرك الكرملين أنه مع تواصل العقوبات الغربية وبمرور الوقت، سيتضاءل عدد الطائرات الصالحة للاستخدام من صنع بوينغ أو إيرباص في المطارات الروسية.
وحتى تلك الطائرات روسية الصنع مثل "سوخوي سوبرجت" المستخدمة في الرحلات الداخلية القصيرة والمتوسطة.
لكن طائرة "سوخوي سوبرجت" تعاني كمثيلاتها الغربية المستحوذ عليها عقب الحرب، لكون عدد كبير من أجزائها الحيوية من صنع شركات غربية، كأنظمة الملاحة، والتحكم، وأنظمة الهيدروليك وغيرها.
ووفقا لما نشر موقع "موسكو تايمز" في 10 يناير 2023، فإن عام 2022 شهد أكثر من 130 حادثا في قطاع الطيران بروسيا بما في ذلك 28 حادث تحطم طائرة، وكثير منها بسبب أعطال فنية ظاهرة.
أما المشكلة الثانية في قطاع الطيران، فتتمثل بتسريح الموظفين أو منحهم ثلث رواتبهم فقط، كما يلاحظ آخرون تدفق الطيارين ذوي الخبرة إلى الخارج، وفي المستقبل قد يؤدي هذا إلى نقص في الموظفين المؤهلين.
وفقدت روسيا مكانتها في مجلس إدارة منظمة الطيران المدني الدولي (إيكاو) المكون من 36 عضوا، بعد أن فشلت في الفوز بأصوات كافية من زملائها الأعضاء.
كما أنه في 26 سبتمبر/أيلول 2022، أصبح معروفا أن شركات الطيران الروسية مستثناة من التصنيف الأكثر شهرة.