مقاطعة سنة لبنان للانتخابات البرلمانية.. تنهي سيطرة حزب الله أم تزيدها؟

إسماعيل يوسف | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

انطلق قطار الانتخابات النيابية التي يعول عليها اللبنانيون لإنهاء الجمود السياسي وانتشال بلادهم من أكبر أزمة اقتصادية وسياسية، مع بدء تصويت المغتربين في 6 مايو/أيار 2022 ليعقبها يوم 15 من نفس الشهر انتخابات الداخل الحاسمة.

هذه أول انتخابات برلمانية تجرى بعد الانتفاضة الشعبية العارمة التي شهدتها البلاد في 17 أكتوبر/تشرين أول 2019، وطالبت بتنحي الطبقة السياسية كلها، وحملتها مسؤولية التدهور المالي والاقتصادي والفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة.

كما أنها أول انتخابات منذ الانفجار الضخم الذي وقع في 4 أغسطس/آب 2020 في مرفأ بيروت وأسفر عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة الآلاف وتسبب في أضرار كبيرة بالعاصمة، وعده اللبنانيون مؤشرا على حجم الفساد الواسع في البلاد.

عنوان الانتخابات هذه المرة هو الأزمة الاقتصادية وكيفية التخلص من هيمنة حزب الله على البرلمان (يملك الثُلث المُعطّل)، الذي يعرقل حلولا سياسية واقتصادية تمتنع بموجبها دول عدة عن دعم البلاد للخروج من أزمتها.

ويمثل هذا الثُلث المُعطّل نواب حزب الله وتيار المردة (سليمان فرنجية) وتيار الرئيس ميشال عون (الوطني الحر)، ويرفضون تمرير أي قرارات حكومية أو برلمانية تتعلق بتقييد نفوذ حزب الله، وكانوا سببا في تأخير تشكيل حكومة لبنانية لعدة أشهر.

انقسام السنة

وجاء اعتزال ومقاطعة زعيم تيار المستقبل سعد الحريري للانتخابات، وهو الذي كان يُعول عليه لقيادة السنة، ليثير مخاوف من إضعافهم وبقاء الحال على ما هو عليه.

ومنحت الانتخابات الأخيرة عام 2018، والتي تجرى مرة كل أربع سنوات، مقاعد الأغلبية لحزب الله وحركة أمل الشيعيتين المدعومين من إيران، وحلفائهم الموارنة، بينما خسر تيار المستقبل السني بزعامة "الحريري" ثلث مقاعده البرلمانية.

وتمكن حزب الله وأنصاره من الفوز بـ 72 مقعدا، مقابل 53 للتيار المنافس، و3 مقاعد للمستقلين (مقسمة على نواب ينتمون إلى 11 طائفة دينية)، من جملة مقاعد مجلس النواب المكون من 128 عضوا وفق اتفاق الطائف عام 1989.

وأعطت نتائج 2018 فرصة لحزب الله للتحكم بمفاصل المشهد السياسي في لبنان، تمكن بموجبها من تشكيل حكومات لا تتناقض ومشروعه، وأوصل الرئيس الحالي ميشال عون إلى الرئاسة.

ويراهن خصومه في انتخابات 2022 على انتزاع تلك الأكثرية منه لفرملة هيمنته المتزايدة على السلطة. 

وهناك 18 طائفة معترف بها رسميا في لبنان، وتشكلت عبر عقود خريطة تحالفات مذهبية وطائفية شائكة ومتشابكة بين بعض هذه الطوائف.

وقد حاولت قوى ثورية بزغت من رحم انتفاضة 2019 دخول الانتخابات لكسر المعادلة الطائفية، رافعة شعار حل الأزمة الاقتصادي العنيفة التي تواجهها البلاد. لكنها فشلت في توحيد نفسها ونجحت قوى سياسية تقليدية في اجتذاب بعضها.

ويعود سبب التراجع الاقتصادي إلى عقود من الفساد وسوء الإدارة من قبل الطبقة السياسية التي تدير الدولة الصغيرة منذ نهاية الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين عامي 1975 و1990.

في 24 يناير/كانون الثاني 2022، أعلن سعد الحريري أنه لن يخوض انتخابات مايو، وقرر تعليق مشاركته في الحياة السياسية، داعيا حزبه السياسي، تيار المستقبل، لفعل الشيء نفسه.

وأدي هذا لانقسام سنة لبنان، بين مؤيد لموقف الحريري الداعي لمقاطعة الانتخابات، ومرجعيات أخرى، بينما حذر مفتي البلاد الشيخ عبد اللطيف دريان، من هذا الخيار لخطورته على تهميش دور السنة في الحياة السياسية، واستمرار سيطرة حزب الله.

وحذر رافضو المقاطعة السنية، من الاستجابة لدعوة الحريري، لأن معناها وصول نواب سُنة (وفق نسبتهم في التشكيل الطائفي للبرلمان) ولكن مؤيدين لإيران ومليشياتها إلى مجلس النواب ومن ثم عدم تعبيرهم عن مشاكل التيار السني الحقيقية.

واعتاد حزب الله وحركة أمل الشيعية دعم مرشحين سُنة ودروز ومسيحيين مؤيدين لهما، وتمويل الحملات الانتخابية لهؤلاء المرشحين ما يؤدي لفوزهم وتعبيرهم بالتالي عن الحزب الشيعي بأكثر من تعبيرهم عن مشاكل طوائفهم.

وحث مفتي الجمهورية اللبنانية خلال خطبة عيد الفطر في مايو 2022، السنة، على ضرورة المشاركة في الانتخابات النيابية، معدا إياها "فرصة لتحقيق التغيير"، عكس موقف الحريري.

وحذر من خطورة الامتناع عن المشاركة في الانتخابات، مؤكدا أن "الاختيار لا يكون عن بُعد ولا بالتمني، بل بالمشاركة الفعليّة الكثيفة".

أيضا دعا رئيس الحكومة السُني، نجيب ميقاتي، عدة مرات للمشاركة بكثافة في الانتخابات، والتعبير عن الرأي عبر التصويت.

وأطلق كل من السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، وقائد حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع ورئيس الوزراء الأسبق فؤاد السنيورة تصريحات محذرة للسنة من مقاطعة الانتخابات ويرون ذلك بمثابة "تسليم البرلمان إلى حزب الله مجددا على طبق".

نتائج وتداعيات

وقد أشار تقرير لموقع "أورينت نت" السوري في 7 مايو 2022 إلى أن نتائج "المقاطعة الحريرية" ظهرت مبكراً في انتخابات المغتربين.

وكشفت نسب المشاركة في انتخابات المغتربين بالدول العربية مشاركة كثيفة للمكون الشيعي دون السني، وفق الموقع.

وأوضح أن نسب المشاركة في التصويت الخارجي أظهرت إقبالا كثيفا من قبل جمهور حزب الله وحركة أمل على صناديق الاقتراع.

ففي إيران تجاوزت النسبة 71 بالمئة، بينما فاقت في مناطق سيطرة المليشيا الشيعية في سوريا 70 بالمئة، فيما تراوحت بمعظم الدول العربية بين 24 و45 بالمئة فقط.

وقد عزز هذا الجدل الدائر حول نجاح دعوة سعد الحريري لمقاطعة الانتخابات النيابية، رغم الحشد السني من قبل رموز أخرى ودول عربية.

وأبدى لبنانيون خشيتهم من أن يستمر هذا الوضع في انتخابات 15 مايو، وأن تؤدي المقاطعة السنية، استجابة لدعوة الحريري، إلى وصول نواب مؤيدين لإيران ومليشياتها في لبنان، مُنتخبين عن الطوائف الأخرى وخاصة المكون السني.

ويعقب الانتخابات النيابية خمسة استحقاقات متتالية ينتظرها لبنان هي الانتخابات الرئاسية ثم البلدية والاختيارية، وتعيين قائد جديد للجيش اللبناني وحاكم للمصرف المركزي بعد تشكيل حكومة جديدة. 

ويعول اللبنانيون على تلك الاستحقاقات المتتالية لتشكل منعطفا في طريق البلاد المثقلة بالأزمات وترسم معالم المرحلة المقبلة.

رغم هذا، لا يرى مراقبون أن نتائج المغتربين مؤشر قوي على التصويت السني الداخلي في الانتخابات الأساسية داخل لبنان.

ويعتقدون أن مقاطعة الحريري ومن يؤيده قد تكون لها أهدافها في إظهار أنه الزعيم الأبرز لسنة لبنان، ونقل رسالة إلى السعودية وأطراف محلية وعربية أنه من يقود الشارع السني ما يرفع الضغوط عنه ويفيد السنة مستقبلا.

لكنهم يؤكدون أن غياب الحريري نفسه قد يكون مفيدا لجهة ظهور قوى وأحزاب سنية ووجوه جديدة تقود التيار السني بدلا من القوى المستهلكة التي خضعت إلى ضغوط إقليمية ودولية على حساب مصالح سنة لبنان في السابق.

وترفع القوى المعارضة وقوى التغيير شعارات محاربة الفساد وتغيير السلطة عكس القوى السياسية التقليدية التي تخوض الانتخابات بشعارات سياسية أبرزها "الحفاظ على السيادة" و"مواجهة سلاح حزب الله".

وحتى اليوم الأخير من مهلة الترشح للانتخابات 17 مارس/آذار 2022، بقي السؤال الأبرز عما إذا سيكون هناك وجه سني بارز يخوض المعركة الانتخابية، بعد مقاطعة الحريري كزعيم سابق للسُنة.

وجاء إعلان رؤساء الوزراء الحالي نجيب ميقاتي والسابقين فؤاد السنيورة، وتمام سلام عزوفهما عن الترشح ليضع السنة أمام واقع غير مسبوق وهو خوضهم الانتخابات من دون زعامة.

لذلك توقع محللون أن هذا سينعكس على تزايد المقاطعة السنية للانتخابات وتفتت أصوات السنة، والوضع السياسي لهم ما سيؤدي إلى مزيد من الوهن.

لكن المحلل السياسي، جوني منيّر، يؤكد لموقع "بي بي سي" في 17 مارس، أن في المشهد معطيات أخرى، وعزوف الحريري عن المشاركة ومعه قطاع من السنة، لتمسكهم به، ورفضه اختيار بديل له "قد يعيد تكريسه زعيما للطائفة".

ولاحظت صحيفة "الاستقلال" أن حالة التردد والضياع التي سادت الشارع السني إثر إعلان رئيس تيار المستقبل تعليق النشاط السياسي والانتخابي، تبددت نسبيا مع ظهور عدد كبير من اللوائح الانتخابية للسنة في بيروت وطرابلس.

وتوسعت حملات التوعية من مخاطر مقاطعة التصويت على التمثيل السني، وما قد يُسببه من خلل في توازنات المعادلة الطائفية في لبنان على حساب السنة ولصالح حزب الله، وقوى أخرى، وهو ما انتبهت إليه المرجعيات السنية ودول عربية.

وقارن البعض بين هذا الوضع الذي لا يُحسد عليه للسنة اليوم، وما سبق أن عاشته الطائفة المارونية المسيحية بعد الحرب الأهلية وحتى عام 2005.

ففي الانتخابات التي تلت انتهاء الحرب الأهلية، كانت القيادتان المسيحيتان غائبتين، فقائد الجيش السابق الجنرال، ميشال عون، كان منفيا في فرنسا، بينما كان قائد حزب القوات اللبنانية، سمير جعجع، مسجونا.

ونتج عن هذا ضعف كبير في المشاركة في صفوف الناخبين المسيحيين لعدة دورات انتخابية، حتى عودة عون من منفاه وخروج جعجع من السجن.

أين قوى "الثورة"؟

أفرزت "الانتفاضة الشعبية" التي انطلقت في أكتوبر 2019 والاحتجاجات على تردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والاجتماعية، قوى سياسية جديدة دخلت إلى حلبة سباق البرلمان وزاحمت الأحزاب التقليدية.

وسعت هذه القوى الجديدة للاستفادة من النقمة الشعبية على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية المتردية لإحداث تغيير في السلطة السياسية التي تتحكم بها الأحزاب التقليدية المعروفة والمجيء بكتلة نيابية وسطية.

لكن موقع المونيتور الأميركي نقل في 5 مايو 2022 عن لبنانيين قولهم إنه على الرغم من الغضب مع القادة والأحزاب السياسية القائمة في لبنان، فإن جماعات المعارضة لم تقدم بعد بديلا قويا وموحدا.

ولم تتمكن القوى الجديدة من توحيد نفسها بطريقة جيدة لإحداث تغييرات ملموسة، في ظل تعامل النخب السياسية التقليدية مع هذه الانتخابات وكأنها مسألة حياة أو موت.

وهو نفس ما رصده موقع "أتلانتيك كاونسل" 29 أبريل/نيسان 2022 الذي أكد أن مجموعات المعارضة، التي ظهرت في أعقاب الاحتجاجات المناهضة للحكومة في أكتوبر 2019، والمعروفة باسم "الثورة"، فشلت في تقديم حزب موحد.

أكد أن هذه المجموعات التي تقدر بالعشرات، "لم تستفد من الغضب الشعبي والإحباط من الطبقة السياسية التقليدية، وتشكل جبهة متماسكة يمكن للناخبين أن يتجمعوا خلفها"، ما قد يجعل البرلمان القادم مثل الحالي دون تغيير.

وأرجع "أتلانتيك كاونسل" هذا الفشل إلى عدم اتفاق هذه القوى الثورية على "النظام البديل"، أو "الهدف الإستراتيجي المتمثل في إنهاء النظام السياسي الحالي وقيادته".

وسعت بعض الجماعات إلى معالجة القضية المهمة المتمثلة في سلاح حزب الله كأولوية، بينما رأت جماعات أخرى أن الموضوع حساس للغاية ويفضلون تركه لاحقًا.

ويقول "نيكولاس بلانفورد" الباحث بمركز سكوكروفت للإستراتيجيات والأمن التابع للمجلس الأطلسي، وكاتب تقرير "أتلانتيك كاونسل" أن هذا "يحدث غالبًا عقب أي ثورة" حيث يختلف الثوار حول شكل النظام الجديد البديل وخطوات تحقيقه.

ويرجع ذلك إلى أن حركة الثورة تفتقر إلى الخبرة السياسية، مما جعلها عرضة للتدخل من قبل النخبة السياسية التي تبنت إجراءات -أحيانًا بتواطؤ من أجهزة أمن الدولة -لتشجيع الانقسامات والخلاف والمعارضة داخل المعارضة.

ما قد يفيد السنة في معركة الانتخابات، أن هناك رؤية دولية تفرضها التبدلات الهائلة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، أو ما بات يُعرف بإعادة رسم الخريطة السياسية فيها، والتقارب العربي التركي، والابتعاد السعودي عن واشنطن.

فهناك ما يشبه معركة تقودها دول عربية أبرزها السعودية والكويت وقطر ومصر، لتحفيز الناخب السني على المشاركة الكثيفة بالانتخابات، لعدم إخراج السنة من المعادلة الوطنية، وعدم إفساح المجال لحزب الله وحلفائه بتبني سنة موالين له.

"هذا التخوف من المقاطعة السنية وعودة حزب الله للهيمنة على البرلمان كانت وراء العودة السعودية إلى لبنان والاهتمام بالانتخابات" كما يرى الصحفي اللبناني صهيب جوهر في مقال بموقع "عربي بوست" 7 مايو 2022.

وبين أن ذلك يأتي استعدادا لمرحلة إقليمية مقبلة على التفاوض أو الاشتباك مع إيران، في ظل التلاقي السعودي والتركي في سوريا والعراق.

ويشير إلى أن هذا التنسيق في لبنان، واكبه رغبة سعودية قطرية تركية بإعادة ترتيب المعارضة السورية، بعد مساعي الإمارات الفاشلة لإعادة تعويم الأسد، بوهم سحبه من الحضن الإيراني.