بعيدا عن الأنظار.. كيف تكتوي أميركا بنار عقوباتها الاقتصادية على روسيا؟

رامي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

في الآونة الأخيرة، لا صوت يعلو على صوت العقوبات الغربية التي تقودها الولايات المتحدة ضد روسيا، وتأثيرها الكبير على اقتصاد الأخيرة، بينما يغفل كثيرون "التكلفة الكارثية" التي يدفعها المعسكر الغربي في المقابل، وفي مقدمته أميركا.

وحتى لو تفاوتت درجات الخسارة، إلا أن كل الخبراء الاقتصاديين يتفقون على أن الجميع يكتوون بنيران هذه الحرب الاقتصادية، التي أرجعت العالم إلى سياسات العقوبات والعقوبات المضادة والمحاور والأقطاب من جديد.

وبالتزامن مع مرور شهرين على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا وما تبعه من عقوبات، بدأ خبراء ومؤسسات اقتصادية يتحدثون عن تداعيات عالمية فلكية، قد تصل إلى حد "كساد عظيم" وزحزحة عرش الدولار، ومشاكل جوهرية أخرى ربما يحتاج العالم لسنوات حتى يتمكن من التعافي من آثارها.

ثمن الريادة

وبدءا من 28 فبراير/شباط 2022، أي بعد 4 أيام من الغزو، بدأ الغرب بقيادة أميركا يكشف عن حزم تدريجية من العقوبات ضد روسيا، لا تزال متواصلة حتى اليوم.

يأتي في مقدمتها عقوبات على البنك المركزي الروسي وصندوق الثروة السيادي، ووقف التعاملات التجارية والتكنولوجية الثنائية، وإزالة العديد من البنوك الروسية من نظام "سويفت" للتحويلات المالية العالمية.

ثم جمد الغرب 300 مليار دولار من أصل 640 من أصول البنك المركزي الروسي من الذهب والعملات الأجنبية وعلى رأسها الدولار، ما مثل ضربة موجعة للاقتصاد الروسي.

وعن هذا المسار، كتب الخبير الاقتصادي إبراهيم نوار، أن "الولايات المتحدة توسعت في استخدام العقوبات الاقتصادية ضد خصومها كوسيلة من وسائل الضغط السياسي منذ نهاية الحرب الباردة، حيث فرضتها على أكثر من 20 دولة، منها قوى رئيسة مثل روسيا والصين".

وأضاف في مقال نشرته صحيفة "القدس العربي" في 2 أبريل/نيسان 2022، أنه "منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، كانت واشنطن وحدها مسؤولة عن فرض نحو ثلثي العقوبات على مستوى العالم".

واستدرك نوار موضحا أنه "رغم أن العقوبات الاقتصادية تمثل إحدى وسائل الضغط الدولي بواسطة الأمم المتحدة، إلا أن توسع أميركا في استخدامها كجزء من أدوات تحقيق أهداف سياستها الخارجية خارج النطاق الأممي من شأنه أن يهدد استقرار الاقتصاد العالمي".

وتابع: "كما أن ذلك يضعف الثقة في الاقتصاد الأميركي، خصوصا الدولار والنظام النقدي، وهو ما يمكن أن يتسبب في نقص الإقبال على الاستثمار في الأصول الأميركية، خشية أن تستخدمها واشنطن كوسيلة للضغط السياسي على الحكومات والشركات".

وفي 8 مارس/آذار 2022، أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن حظرا على واردات النفط من روسيا، في أقسى إجراء اتخذته إدارته لمعاقبة موسكو على غزوها أوكرانيا، وذلك بعد تردد خشية أن يفاقم الحظر التضخم الذي يلقي بثقله على ولايته منذ أشهر.

وكان يشكل النفط الروسي 8 بالمئة من الواردات الأميركية، وحتى من دون فرض حظر، كانت أسعار النفط مرتفعة بحوالي 30 بالمئة على وقع الغزو الروسي، مسجلة 130 دولارا للبرميل.

وارتفعت الأسعار في المحطات إلى 4,17 دولارات للغالون، بحسب جمعية السيارات الأميركية، مقارنة بـ3,46 دولارات قبل شهر من إعلان الحظر.

وعلى إثر ذلك، سجل معدل التضخم في الولايات المتحدة 8.5 بالمئة على أساس سنوي في مارس 2022، وهو الأعلى منذ عام 1981، وأتت أرقام التضخم مدفوعة بارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية والخدمات.

وفي 16 مارس، قرر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي رفع نطاق أسعار الفائدة الرئيسة بمقدار ربع نقطة مئوية، لأول مرة منذ أواخر 2018، في مسعى لمواجهة التضخم المتسارع، وسط توقعات برفع الفائدة 9 مرات متتالية، وفق مؤسستي "جي بي مورغان" و"غولدمان ساكس" الماليتين.

ورغم زيادة أسعار الفائدة إلا أن صحيفة "وول ستريت جورنال" كشفت في 10 أبريل/نيسان 2022، انخفاض حجم الودائع في البنوك الأميركية هذه السنة لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية.

وقالت إن محللي البنوك يتوقعون أن تتراجع الودائع بنسبة 6 بالمئة، في أكبر 24 مصرفا أميركيا تشكل مؤشر "KBW Nasdaq Bank" ولديها نحو 60 بالمئة من الودائع، بحجم 19 تريليون دولار.

وأوضحت الصحيفة أن التضخم المتزايد يؤدي إلى تآكل قيمة الأموال المخزنة في البنوك، ويدفع بالمودعين للبحث عن فرص بديلة للحصول على عوائد أعلى تحفظ قيمة أموالهم.

صدمة الركود

من جانبها، ذكرت وكالة "بلومبرغ" أنه مع تأكد عزم الفيدرالي الأميركي رفع سعر الفائدة بمقدار نصف نقطة مئوية في اجتماع مايو/أيار 2022، يرى رؤساء بعض أكبر البنوك الأميركية، وبينها "غولدمان ساكس"، أن ذلك سيزيد من مخاطر الركود، رغم تعزيز تلك الزيادات إيرادات الائتمان لديها.

وأكدت الوكالة الأميركية في تقرير نشرته في 20 أبريل 2022، أن مساعي تهدئة التضخم المتسارع، ستمهد الطريق بنسبة 35 بالمئة لانكماش الاقتصاد خلال العامين القادمين.

ويُقصد بالركود هبوط النمو الاقتصادي عندما يفوق الإنتاج الاستهلاك، ما يؤدي إلى كساد البضاعة وانخفاض الأسعار، ومن ثم يصعب على المنتجين بيع المخزون، لذلك ينخفض معدل الإنتاج، ما يعني بدوره أيدي عاملة أقل، وارتفاع في نسبة البطالة.

وأفضل علاج للخروج من الركود هو رفع الإنفاق الحكومي الاستهلاكي، ما ينقل البلاد إلى حالة نمو، أو تخفيض الفائدة عبر المصرف المركزي، ما يسمح للمنتجين بإمكانية تحمل دين أكبر ويخفض أيضا جاذبية الادخار ما يرفع نسبة الاستهلاك، ومن ثم نمو الاقتصاد.

ومن اللافت أن الكساد العظيم الذي شهده العالم في ثلاثينيات القرن العشرين بدأ من الولايات المتحدة، مع انهيار سوق الأسهم الأميركية نهاية 1929، وهو ما يشبه الوضع اليوم، مع تحول كثير من الأموال إلى الأسهم، التي تكاد تكون المورد الوحيد الذي يحقق مكاسب حاليا في ظل ارتفاع التضخم.

وتعليقا على هذه النقطة، قال المحلل الاقتصادي الأميركي، دانيال موس، إن "استمرار التعامل بحزم مع موسكو لم يكن أبدا بلا تكلفة، إذ إن أسعار الطاقة آخذة في الارتفاع، والشركات تنسحب من روسيا وتلك التي تبقى هي معرضة لخطر التأميم".

وأضاف في مقال نشرته "بلومبرغ" في 21 أبريل، هناك قلق بشأن إمدادات الغذاء العالمية، وبدأت الأحاديث حول الركود، و"سيكون من الحماقة استبعاد حدوث ركود جديد، هذا إن لم يكن قد بات بالفعل موجودا بيننا".

ولفت موس إلى إقرار مديرة صندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، في 19 أبريل بأن "المخاطر تتزايد في عدد من البلدان"، محذرة الفيدرالي الأميركي من أنه "لن يكون بمقدور الاقتصاد العالمي تجنب الركود، في غياب استئناف صادرات الطاقة الروسية".

وخلص إلى أن "الركود قادم لا محالة، وفي النهاية، يعتمد الأمر على مدى الألم الذي يمكن للولايات المتحدة وشركائها تحمّله لمعاقبة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين" على غزوه لأوكرانيا.

السلاح الأخطر

من جانبه، لفت الخبير الاقتصادي، عبد الخالق فاروق، إلى أن "من بين أخطر الأضرار التي ستكتوي أميركا بنيرانها جراء تفعيلها سلاح العقوبات الاقتصادية الأكثر ردعا ضد روسيا، هو دعم تفكيك هيمنة الدولار".

وقال في مقال نشره موقع "الميادين" اللبناني في 25 مارس 2022، إن "تقليص روسيا لمعاملاتها التجارية القادمة بالدولار وتعزيز صيغة التعامل بالمقايضة أو بالعملات المحلية المتبادلة بين دول مثل الصين والهند وإيران، سيؤدي إلى استكمال حلقة تفكيك هيمنة الدولار على نظم المعاملات الدولية".

ويشكل الدولار حاليا نحو 60 بالمئة من المدفوعات الدولية والاحتياطيات النقدية لدول العالم، ويعده خبراء إستراتيجيون "السلاح الأقوى" الذي تُحكم الولايات المتحدة عبره سيطرتها على العالم.

ولفت فاروق إلى أن راسمي السياسات الأميركية، عدّوا العقوبات فرصة سانحة، ليس فقط من أجل تكسيح روسيا اقتصاديا وسياسيا، وإنما كذلك في استثمارها، للسيطرة على التحالف الهش المسمى الاتحاد الأوروبي، تجاريا وطاقيا.

واستدرك: "لكن مع ذلك، هناك إمكانية لحدوث انهيار للنظام المالي العالمي، إذا ما استمر ارتفاع معدل التضخم في أميركا، واستمر نظام العقوبات والحرب الاقتصادية ضد روسيا".

ومضى فاروق قائلا: يقدر بعض الخبراء أن كل المواطنين حول العالم، ممن يحتفظون بمدخراتهم بالدولار، فقدوا 68 دولارا من كل 1000 دولار، بسبب انخفاض القوة الشرائية للدولار، وهو ما يعدّه البعض التهديد الرئيس أمام الولايات المتحدة الآن".

وأردف أن "انخفاض قيمة الدولار يدفع المستثمرين نحو البحث عن بدائل أخرى، ولا خيار أمامهم سوى الاستثمار في فقاعة سوق الأسهم العملاقة، لأنها الوحيدة التي تنمو، إلا أن تسارع التضخم يغير الوضع بشكل جذري، ويهدد بانهيار النظام المصرفي، وخصوصا إذا ظل التضخم أعلى من الفائدة على القروض الممنوحة من البنوك فترة طويلة".

وبالتزامن مع ذلك، تواصل الصين خطواتها لتخفيض عملتها لاحتواء تأثير رفع أسعار الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي ومن ثم المحافظة على تدفق رؤوس الأموال الخارجية إلى البلاد.

وسجلت العملة الصينية في 22 أبريل، انخفاضا بنسبة 0.69 بالمئة لتبلغ 6.5258 يوان للدولار الواحد، لترتفع خسائره إلى نحو 3 بالمئة في أسبوع واحد.

وفي ظل استخدام أميركا لسلاح العقوبات الاقتصادية وتجميد أصول روسيا بالدولار، تتصاعد شعبية "اليوان" كعملة مفضلة للمدفوعات العالمية مع ارتفاع المعاملات الدولية إلى أعلى مستوى لها على الإطلاق.

وقفزت المدفوعات باستخدام اليوان إلى حصة قياسية من السوق بلغت 3.2 بالمئة، بحسب بيانات جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك في 20 أبريل، وذلك بعد أن زادت الصناديق الدولية حيازاتها من السندات الحكومية الصينية.

بالإضافة إلى قرار عملاق الغاز الروسي "غازبروم نيفت" قبول اليوان بدلا من الدولار؛ لتزويد الطائرات الروسية بالوقود في المطارات الصينية.

الاقتصادات النامية

ولن تقتصر هذه المشاكل الاقتصادية على الاقتصادات الكبرى وحسب، بل إن من أشد المتأثرين بها أيضا الدول النامية ذات الاقتصادات الناشئة.

وذكرت بلومبرغ في 22 أبريل 2022، أن رفع الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسعار الفائدة يعني قفزة كبيرة في تكاليف خدمة الديون للدول النامية، ويأتي ذلك مباشرة بعد أن اقترضت هذه الدول المليارات لمكافحة وباء كورونا، كما يحفز ذلك الاتجاه نحو نزوح تدفقات رأس المال إلى الخارج.

وفوق كل ذلك، توجد الحقيقة الصارخة المتمثلة في أن الحرب في أوكرانيا، التي تقود أحدث صدمة في أسعار الغذاء والطاقة، لا تُظهر الكثير من البوادر على انتهائها القريب.

وأوضحت "بلومبرغ" أن "الفترة الحالية تشهد تراكم وابل من الصدمات لم تواجه الأسواق الناشئة مثيلا لها منذ التسعينيات، حين أدّى سيل من الأزمات إلى غرق اقتصادات والإطاحة بحكومات عديدة".

في الوقت نفسه، تتجذر الاضطرابات الناجمة عن تزايد أسعار الغذاء والطاقة بعمق في دول مثل سريلانكا ومصر وتونس وبيرو بالفعل.

فيما تهدد الأخطار في تلك الدول بالتحول إلى كارثة ديون أوسع نطاقا، فضلا عن إنذارها بتهديد إضافي لتعافي الاقتصاد العالمي الضعيف في أعقاب الجائحة.

ووفقا لحسابات البنك الدولي، فإن 60 بالمئة من الدول منخفضة الدخل تعاني بالفعل من تعثر في سداد الديون، أو معرضة إلى حد كبير لهذا الخطر.

وقالت كبيرة الاقتصاديين في البنك الدولي، كارمن راينهارت، لبلومبرغ، إنه "حتى الآن، مازالت المشكلة تختمر بعيدا عن الأنظار، ولا تظهر على شاشة الرادار، حيث تقبع في أماكن لا يوليها المستثمرون اهتماما كبيرا".