شحن بالمواعظ.. هل تتحول حرب موسكو وكييف إلى صراع ديني داخل أوروبا؟

إسماعيل يوسف | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

مؤشرات عديدة سبقت وواكبت الحرب الروسية الأوكرانية، أظهرت تدخل رؤى دينية مسيحية فيها، وظهور إشارات على احتمال تحولها إلى حرب دينية بين الطوائف المسيحية المختلفة في أوروبا.

تتعلق هذه الرؤى بالخلافات بين الكنائس الأرثوذوكسية المنقسمة في أوكرانيا وروسيا، والبعض الآخر بصراعات الكنيستين الأرثوذوكسية والكاثوليكية التاريخية من جانب آخر.

قبل أن ينشب الصراع السياسي ثم العسكري، سبقه خلاف في أروقة الكنائس الأرثوذكسية المتنافسة.

بداية الانشقاق

وانفصلت كنيسة أوكرانيا الأرثوذوكسية عن الكنيسة الروسية الأم في 15 ديسمبر/كانون الأول 2018، وتبادلا الاتهامات.

أصبحت الكنيسة الأوكرانية الأرثوذوكسية منقسمة إلى جزءين، واحد مع وآخر ضد كنيسة موسكو، ومنفصل عنها، وأصبح هناك "رؤيتان أرثوذكسيتان متنافستان" على إرث المسيحية في روسيا وأوكرانيا، كما يقول باحثون غربيون.

بات 13 بالمئة من أرثوذوكس أوكرانيا يتبعون بطريركية موسكو، مقابل 65 بالمئة منهم يتبعون كنيسة أوكرانيا.

ونسبة أرثوذوكس أوكرانيا 78 بالمائة وفق ما نشرت مؤسسة "بيو" الأميركية عام 2015 بخلاف 12 بالمائة كاثوليك.

حين اعتدت موسكو على كييف في 24 فبراير/شباط 2022، هاجمت كنيسة أوكرانيا الأرثوذوكسية ومعها كنائس أوروبا وأميركا بما فيها الكاثوليكية والإنجيلية، العدوان وانتقدت موقف كنيسة روسيا الأرثوذوكسية.

مؤرخون أوروبيون في تاريخ المسيحية، أكدوا أن العامل الديني لعب دورا في قرار الغزو الروسي، وأن الرئيس فلاديمير بوتين، الذي يلعب على وتر توحيد الكنيستين المنفصلتين، يرغب بالاحتفال بعيد الفصح في كييف، بحسب ما نشر موقع بي بي سي البريطاني في 27 فبراير 2022.

زاد من احتمالات تحول الصراع العسكري إلى حرب دينية فتح رئيس أوكرانيا، فولوديمير زيلينسكي باب التطوع للأوروبيين، وحدوث عمليات تجنيد بالفعل في أوروبا، بينها تسفير متطرفين إنجيليين وكاثوليك لأوكرانيا لمحاربة الروس الأرثوذوكس.

أحد جوانب هذا الصراع الديني المتصاعد كشفه رئيس مجلس وزراء البوسنة والهرسك سابقا حارث سيلاذيتش في حوار مع قناة "الجزيرة" خلاصته أن روسيا الدينية الأرثوذكسية باتت تحارب أوروبا الكاثوليكية، بوتين يلتقي البطريرك يوميا لينسق معه.

زاد الأزمة اشتعالا إعلان بطريرك الكنيسة الروسية "كيريل" دعمه ضمنا لحرب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالحديث عن "الحدود المقدسة لروسيا"، في إشارة لضم أراضي أوكرانيا لها، رغم إصداره بيانا عاما يدعو فيه للضحايا من الجانبين. 

وصف خصوم بوتين في أوكرانيا بـ "قوى الشر" وأنه "يجب ألا نسمح لقوى خارجية مظلمة ومعادية أن تضحك علينا"، بحسب وكالة انترفاكس الروسية.

وبالتزامن مع ذلك، انتشرت صور مباركة قساوسة أرثوذوكس للطائرات والجنود الروس المحاربين.

ولتبرير الغزو الروسي، تذرع "كيريل" بالجذور التاريخية المشتركة لروسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا، مطالبا بـ "الدفاع عن وطننا التاريخي المشترك من كل الأعمال الخارجية التي يمكن أن تقضي على هذه الوحدة".

وتقف الكنيسة الأرثوذكسية الروسية بقوة وراء بوتين، وكثيرا ما يبرر البطريرك كيريل حملات الشرطة ضد تجمعات المعارضة ويبارك الأسلحة وقوات الجيش الروسية المنتشرة في الخارج، بحسب ما نشرت وكالة الأنباء الفرنسية في 27 فبراير 2022.

وفي عام 2012، أطلق "كيريل" على بوتين لقب "معجزة الله"، كما أشرف عدة مرات على مراسم تعميد احتفالية له عبر مغطس ماء مقدس يحيط به الكهنة.

وتلعب الكنيسة دورا مهما في الجيش الروسي، وخلال العمليات الأخيرة في أوكرانيا جرى بث تسجيلات لكنائس متنقلة، ترافق الوحدات العسكرية الروسية، يبارك خلالها كاهن الأسلحة بساحات القتال، ويقيم الصلاة مع الجنود.

وضمن هذه العلاقة الوثيقة بين الكنيسة والجيش، شيدت القوات الروسية كاتدرائية خاصة بها في موسكو، افتتحت عام 2020، احتفالا بالذكرى 75 لانتصار روسيا في الحرب العالمية الثانية.

ويتولى قساوسة روس رتبا عسكرية في الجيش الروسي ويقيمون غرف صلاة على البوارج الحربية ويتولون عمليات شحن بالمواعظ الدينية.

حملة ضد أوكرانيا

بحسب المؤرخة الدينية الأميركية "ديانا باتلر باس": "يعتبر المسيحيون الأرثوذكس الروس عاصمة أوكرانيا كييف كالقدس، لذا فالصراع عليها هو أيضا صراع على أي دين وأي أرثوذكسية ستطبع وجه شرق أوروبا"، وفق وصفها.

تؤكد، في مقال بمجلة religion news 24 نشر خلال فبراير 2022 أن "العامل الديني لعب دورا في قرار الغزو".

وبينت أن "العملية العسكرية التي أعلنها الروس هي حملة صليبية لاستعادة الأراضي الأرثوذكسية المقدسة من الهراطقة الغربيين".

ذكرت أن محللين يرون أن مساعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو"، هي السبب المباشر المعلن للحملة العسكرية الروسية ضد كييف. 

بينما يشير آخرون لأسباب تتعلق بطموح بوتين لإحياء إرث الاتحاد السوفيتي، الذي قال إن انهياره عام 1991، كان بمثابة "تفكك لروسيا التاريخية".

لكنها أوضحت أن لبوتين أسبابا دينية "مبطنة" أخرى للغزو، من بينها رغبته في الاحتفال بعيد الفصح (القيامة) المسيحي في كييف، والموافق 17 أبريل 2022.

ويرغب بوتين في جعل الكنيسة الأرثوذكسية رأس حربة في مشروعه لإعلاء القومية الروسية، وأداة قوية لدعم أيديولوجيته السياسية عن روسيا المقدر لها أن تكون قوة عظمى، بحسب تقرير بي بي سي السابق.

لذلك بذل جهودا كبرى في دعم الكنيسة مادياً ومعنوياً وسياسياً، بدءاً من استعادة مقتنيات الكنائس التي بيعت خلال الحقبة الشيوعية، وبناء آلاف الكاتدرائيات، إلى جانب إدراج مادة عن الثقافة الأرثوذكسية في المناهج الدراسية.

بحسب "باتلر باس": "ما نشهده اليوم، ليس إلا فصلا جديدا من حكاية قديمة، ستكون نهايتها السعيدة من وجهة نظر بوتين، الاحتفال بقداس الفصح في كييف".

ذكرت أن القصة بدأت مع سقوط الإمبراطورية الرومانية، وما تلاه من تنافس على إرثها السياسي والديني بين الإمبراطوريات التي خلفتها عبر التاريخ.

تحدثت عن "رمزية كبرى تتحلى بها مدينة كييف في تاريخ المسيحية الأرثوذكسية، إذ إنها لعبت دورا تأسيسيا، وتعد الموطأ الأول للمذهب في الوعي الجمعي الروسي".

نقلت عن الصحفي والقس البريطاني جيل فرايزر، مقارنته في مقال نشره على موقع "أن هيرد"، بين بوتين اليوم، وفلاديمير الأول، أمير كييف المسيحي بين عامي 978 و1015، المسمى بفلاديمير الكبير.

فلاديمير الأول، أمير كييف الروسية، كان وثنيا ولكنه تحول للمسيحية، بعد زواجه من الأميرة آنا، شقيقة الإمبراطور البيزنطي باسيل الثاني، وكان شرط الإمبراطور أن يعتنق فلاديمير المسيحية، لبناء حلف سياسي.

روايات الكنيسة التاريخية تعتبر الإمبراطور فلاديمير أول من وحد الممالك في شرق أوروبا وهو في طريق عودته إلى كييف، وسعى لبناء إمبراطورية موحدة تضم روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا.

يرى "فرايزر" أن بوتين يطمح لاستعادة كييف، "المدينة الأم للأرثوذكسية الروسية"، ليلعب على وتر التذكير بأمجاد فلاديمير الكبير، كأنه هو "أمير كييف".

وفي عهده، سمح بوتين للكنيسة باستعادة صدارتها ومجدها، وقدم لها الدعم كما لم يفعل أي حاكم روسي منذ الثورة البلشفية.

وبالمقابل، مدت الكنيسة بوتين بالدعم الفكري والثقافي لتوفير أرضية لرؤيته الدولتية، وتوسيع مجال نفوذ روسيا حول العالم.

"نوكس تايمز" المبعوث الخاص السابق للأقليات الدينية في وزارة الخارجية الأميركية أكد أن "بوتين يريد أكثر من مجرد أرض، إنه يريد الروح الدينية لأوكرانيا"، و"يسعى إلى استسلام كامل منها جسديا وروح".

أوضح في مقال بموقع religion news 24 فبراير 2022 أنه استغل الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في سعيه لاستعادة هيبة روسيا، وجعل الكنيسة محور هوية بلاده.

واعتمدت خطته على اعتبار تحرر الكنيسة الأرثوذكسية لأوكرانيا بمثابة إعلان استقلال عن التأثير الأجنبي ونفوذ روسيا.

 لذا يتوقع أنه لو نجح في إخضاعها أن يجبر كنيسة أوكرانيا المستقلة على العودة إلى حضن كنيسة روسيا.

وبحسب دراسة أجراها مركز "بيو" الأميركي للأبحاث عام 2017، شهدت المسيحية الأرثوذكسية نهضة كبرى في أوروبا الشرقية خلال العقدين الماضيين، سواء في روسيا أو في الدول المحيطة لها، وبات 70 بالمئة من السكان يُعرفون أنفسهم كأرثوذكس.

وتزامنت تلك النهضة مع تنامي المشاعر المؤيدة لروسيا في المنطقة، "كقوة ضرورية لموازنة تأثير الغرب"، وذلك "لأن الهوية الأرثوذكسية مرتبطة بشكل وثيق بالهوية القومية، وبمشاعر الفخر والتفوق الثقافي"، بحسب المركز.

ويرى مراقبون أن بوتين، وبغض النظر عن قناعاته الدينية الشخصية، يريد توظيف تلك القيم المسيحية التقليدية، من أجل التأثير السياسي، بينما يعتقد آخرون أن الأمر لا يعدو كونه أداة وظيفية.

على سبيل المثال، يمتلك بوتين قلادة صليب، لا تفارق رقبته، يقال إنها هدية من والدته يوم عمدته في السر مطلع الخمسينيات.

من المرويات حول القلادة أيضا، أن بوتين باركها على القبر المزعوم للمسيح، خلال زيارته لإسرائيل في التسعينيات أثناء عمله ضابطا في الاستخبارات الروسية.

رؤيتان متحاربتان

عقب انفصال الكنيستين الأوكرانية والروسية، وقع البطريرك ورئيس أساقفة القسطنطينية وروما الجديدة الأرثودوكسي برثلماوس (مقره إسطنبول) 5 يناير/كانون ثان 2019 قرارا رسميا بإنشاء كنيسة أوكرانية مستقلة عن موسكو.

أغضب ذلك الكنيسة الروسية، واعتبرته "انشقاقا" وقطعت علاقتها مع كنيسة القسطنطينية جراء ذلك.

كما اعتبرت الكنيسة الأوكرانية التابعة لموسكو أن هذا الاعتراف "غير قانوني"، لكنها بدأت تخسر ولاء الأوكرانيين لها منذ بدء الأزمة الأوكرانية عام 2014، فيما ظل مواليا لها الأوكرانيين من أصل روسي.

وعند إعلان الانفصال، وصفه الرئيس الأوكراني السابق بترو بوروشينكو بأنه "انتصار للشعب المؤمن في أوكرانيا على شياطين موسكو". 

غلف هذا أزمة روسيا وأوكرانيا بصراع كنسي سياسي، حسبما يشرح "يوجين كلاي" الأستاذ بكلية الدراسات التاريخية والدينية بجامعة ولاية أريزونا في مقال بموقع "ذا كونفيرزيشن" 7 فبراير 2022.

أوضح أن دعم بطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول انفصال كنيسة أوكرانيا المستقلة، بصفته الأسقف البارز للعاصمة القديمة للإمبراطورية البيزنطية، ولأن أوكرانيا تلقت المسيحية في الأصل من البيزنطيين، جعل كنيسة روسيا تقاطعه.

زاد غضب كنيسة روسيا، تلقي الكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا اعترافا من 4 كنائس أرثوذكسية مستقلة أخرى، هي القسطنطينية والإسكندرية واليونان وقبرص، مقابل رفض ثلاثة كنائس أخرى موالية لموسكو، هذه الكنيسة الأوكرانية الجديدة.

ترتب على هذا ظهور رؤيتين متنافستين ثم متحاربتين للتاريخ للأرثوذكسية في أوكرانيا، واحدة تدعمها روسيا والأخرى مستقلة تقف وراء حكومة أوكرانيا في حربها ضد موسكو، بحسب المؤرخ يوجين كلاي.

وفق رؤية بطريركية موسكو، "الروس والأوكرانيون شعب واحد، لذلك يجب أن توحدهم كنيسة واحدة، وشعب واحد".

لهذا رفضت استقلال أوكرانيا واعتبرتها تابعة لروسيا، ما يتعارض مع رؤية كنيسة أوكرانيا أنها مستقلة تماما عن روسيا.

ويقول الكاتب مايكل خوداركوفسكي في "نيويورك تايمز" 14 يناير 2019، إن إعلان الكنيسة الأوكرانية انفصالها عن الروسية، شكل "ضربة خطيرة لطموحات الأخيرة وبوتين على مستويات عدة.

ويقدر الأوكرانيون الأرثوذكس بـ 30 بالمئة من مجمل المسيحيين التابعين لبطريرك موسكو ويعتبر انفصالهم "خسارة ملايين الأتباع، وملايين الدولارات من أملاك الكنيسة".

"كأن الحرب في أوكرانيا لا يكفيها الصراع الديني الأرثودوكسي، لتزيد احتمالات الحرب الدينية بين بقية طوائف المسيحية في أوروبا".

جملة من تقرير بحثي أصدرته مجموعة "سايت إنتلجنس"، وهي منظمة أميركية خاصة تتعقب الجماعات المتطرفة، نشرته صحيفة نيويورك تايمز أكد أن الهجوم الروسي على أوكرانيا استنفر قادة مليشيات أوروبية من اليمين المتطرف.

تحدث التقرير الذي نشر 24 فبراير 2022 عن انتشار موجة تجنيد مقاتلين للسفر إلى جبهات القتال في أوكرانيا لمواجهة "الغزاة الروس" وجمع أموال كبيرة عبر مواقع الإنترنت.

أشار إلى تركيز هؤلاء اليمينيين المتطرفين على الدعاية المسيحية الكاثوليكية والدفاع عن الأقلية الكاثوليكية في أوكرانيا (قرابة 12 بالمئة من السكان).

أوضح أن "كتيبة آزوف"، وهي مجموعة تابعة للحرس الوطني الأوكراني تشكلت عقب الغزو الروسي الأول لأوكرانيا عام 2014، اجتذبت مقاتلين من اليمين المتطرف من جميع أنحاء العالم.

المنظمة البحثية استدلت في تقريرها بمنشورات جمعتها من أوساط هذه المليشيات وترجمتها، منها إعلانات نشرها قادة مجموعات يمينية في فرنسا وفنلندا وأوكرانيا، للانضمام للقتال دفاعاً عن أوكرانيا، في مواجهة الهجوم الروسي.

انتشرت الإعلانات ذاتها على مواقع إلكترونية عديدة من مواقع اليمين المتطرف في فنلندا وفرنسا، مثل موقع OC، الذي نشر بياناً يقول: "مثلما هُزم الاتحاد السوفييتي سيُهزم بوتين باصطفاف القوميين الفرنسيين مع الشعب الأوكراني".

وقالت ريتا كاتز، مديرة مجموعة سايت، إن جماعات عديدة من القوميين والنازيين الجدد المؤمنين بتفوق العرق الأبيض وغيرها من مجموعات اليمين المتطرف أعلنت عن تضامنها مع أوكرانيا، وحشدت مجموعات شبه عسكرية لقتال روسيا.

أكدت أن "هناك دوافع أيديولوجية، لأن هذه الجماعات اليمينية المتطرفة ترى الحرب على روسيا حربا على الشيوعية، وتعلق نفسها بذكريات الروايات التاريخية للحرب العالمية الثانية وأجوائها".