خطوة تجنبها في ولايته الأولى.. لماذا أوقف ترامب تمويل أمن سلطة عباس؟

القيمة الحقيقية في التمويل المجمد تأتي من دفع تكاليف التدريب والرواتب
في وقت حَرِج تكافح فيه للحفاظ على حكمها في الضفة الغربية، بينما تتنافس على حكم قطاع غزة بعد الحرب، تعرضت السلطة الفلسطينية لهزة كبيرة جراء إيقاف الولايات المتحدة تمويل قواتها الأمنية.
وأوقفت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كل التمويل لقوات أمن السلطة كجزء من التجميد العالمي للمساعدات الأجنبية، وفقا لما نشرته صحيفة واشنطن بوست في 19 فبراير/شباط 2025 نقلا عن مسؤولين أميركيين وفلسطينيين.
وقال مسؤول إسرائيلي سابق تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته لمناقشة قضية حساسة: إن قوات أمن السلطة برئاسة محمود عباس "لم تتأثر بأي شكل ذي معنى" بالتجميد، وأن "المانحين الآخرين التزموا بتعويض العجز".
حجم التأثير
ولكن تعاني قوات الأمن بالأساس من نقص التمويل الذي يعد مرتكزا أساسيا لها للحفاظ على البقاء، وسط غياب شعبيتها في الشارع الفلسطيني ورفض أدوارها من قبل إسرائيل.
وقال المتحدث باسم قوات الأمن الفلسطينية، اللواء أنور رجب، للصحيفة: إن الولايات المتحدة تعد "مانحا كبيرا لمشاريع السلطة" التي تتضمن التدريب الأمني للقوات.
ولذلك، فقد أدى التجميد بالفعل إلى تخفيضات في بعض التدريبات، كما قال عقيد في معهد التدريب المركزي لقوات الأمن التابع للسلطة للصحيفة الأميركية، متحدثا بشرط عدم الكشف عن هويته وفقًا لبروتوكول مكتبه.
وقال: إن اجتماعا كان مقررا مع مسؤولين أميركيين خلال فبراير 2025 لتقييم عملية السلطة التي تستهدف المسلحين في مخيم جنين للاجئين.
وتوقفت العملية الفاشلة للسلطة بعد اجتياح القوات الإسرائيلية للمخيم في يناير/كانون الثاني 2025، فيما جرى تأجيل الاجتماع المفترض دون إعادة جدولته.
وقال العقيد: إن واشنطن تمول أيضا بناء ميدان رماية افتراضي، وهو ما يحتاجه المعهد؛ لأن إسرائيل لن تسمح باستيراد الرصاص لجلسات التدريب على إطلاق النار الحي.

وأشار إلى أنه على الرغم من اكتمال المشروع تقريبا، فإن السلطة تبحث عن ممولين بديلين بسبب التجميد الأميركي.
وأوقفت واشنطن آخر مساعدة مباشرة للسلطة خلال فترة ولاية ترامب الأولى لكنها استمرت في تمويل التدريب والإصلاح لقوات الأمن.
وتجرى التدريبات والدورات من خلال مكتب منسق الأمن في القدس - المعروف سابقا باسم منسق الأمن الأميركي لإسرائيل والسلطة الفلسطينية - والذي يتألف من اتحاد من البلدين.
ويأتي تأكيد تجميد المساعدات في ظل ارتباك واسع النطاق بشأن البرامج التي تنقذها إدارة ترامب أو تعلقها.
وكان المسؤولون الأميركيون مترددين في تحديد البرامج التي جرى استثناؤها بموجب الإعفاءات التي أصدرها وزير الخارجية ماركو روبيو للمساعدات "المنقذة للحياة"، وتلك المقدمة لإسرائيل، وبرامج الوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية، وغيرها من الأولويات.
وحتى في الحالات التي تنطبق فيها الإعفاءات، لم تتمكن منظمات المساعدة في كثير من الحالات من الاستمرار في العمل؛ لأن توجيهات روبيو أدت فعليا إلى إغلاق أنظمة الدفع المطلوبة لسحب الأموال.
ويظهر هذا التمويل في أماكن غير متوقعة. على سبيل المثال، مُنعت قوات الأمن الفلسطينية من السفر إلى الأردن لتلقي تدريبات SWAT ودورات الشرطة المتقدمة، كما قال مسؤول أميركي لموقع ميدل إيست آي البريطاني.
تمويل مخابراتي
ولا تأتي معظم المساعدات الأميركية للسلطة الفلسطينية من وزارة الخارجية، وإنما من وكالة المخابرات المركزية.
ودعمت الولايات المتحدة لسنوات قوات الأمن التابعة لسلطة عباس، وعدتها ضرورية لأمن إسرائيل؛ إذ تشترك السلطة وإسرائيل في محاربة المقاومة الفلسطينية وإحباط أي عمليات فدائية وتسليم المقاومين وملاحقتهم وسجنهم ضمن ما يعرف بـ"التنسيق والتعاون الأمني".
وقد يكون من الصعب إحصاء حجم التمويل الأميركي الذي يتدفق إلى أجهزة الأمن التابعة للسلطة لأنها ممولة سرا من قبل المخابرات الأميركية وفق ما تقول المحللة الرئيسة في مجموعة الأزمات الدولية في فلسطين تهاني مصطفى.
وأضافت مصطفى لموقع ميدل إيست آي في 19 فبراير 2025: "دعم وزارتي الخارجية والدفاع ليسا جزءا كاملا من تمويل أجهزة أمن السلطة".
"في الواقع، إنها أقل من تلك التي سيكون لها تأثير حاسم على الأمن القومي، أي التمويل من وكالة المخابرات المركزية".
ويدار الجزء المهم من علاقة الولايات المتحدة بالسلطة في الظل من قبل ضباط الاستخبارات، وليس الدبلوماسيين أو الجنرالات.
وهو إرث يعود إلى سنوات الانتفاضة الثانية (2000 - 2005) عندما فضّل الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات التعامل مع رئيس وكالة المخابرات المركزية وقتها جورج تينيت.

وفي عامي 2016 و2017، تلقت سلطة عباس 40 مليون دولار من تمويل المساعدات الأمنية من مكتب التحقيقات الفيدرالية.
وهو مبلغ صغير نسبيا عند وضعه في سياق المبالغ الأميركية التي تذهب إلى برامج أخرى، وفق مصطفى.
وقالت وزارة الخارجية عام 2024: إن مكتب شؤون المخدرات وإنفاذ القانون الدولي قدم ما يقرب من 1.1 مليار دولار في مجال الأمن المدني ومساعدات العدالة لدعم قوات الأمن التابعة للسلطة منذ عام 2007.
وأعلنت وزارة الخارجية الأميركية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية إيقاف جميع المساعدات الأجنبية مع “إعفاءات للبرامج المهمة التي تتوافق مع أولويات الإدارة في المنطقة” واستثناء كل من إسرائيل ومصر من القرار.
وعلى عكس إدارة ترامب، دعم الرئيس السابق جو بايدن مقترحات للسلطة الفلسطينية للعب دور رئيس في غزة بعد الحرب، في خطوة تعارضها إسرائيل.
وتقول واشنطن بوست: "تكافح السلطة للسيطرة على جيل جديد من التشدد الفلسطيني في الضفة الغربية يتركز في مخيمات اللاجئين الشمالية ويستمد الدعم من الإحباط الواسع النطاق تجاه قيادة مسنة برئاسة محمود عباس، البالغ من العمر 89 عاما".
بلا فائدة
وجاءت الخطوة الأميركية بحق السلطة رغم اتخاذها عدة تحركات أخيرا لإثبات جدارتها ونيل الرضا الأميركي والإسرائيلي في ظل نقاش حول أدائها ومستقبلها في الضفة وغزة.
ومن بين تلك الخطوات، تدشين السلطة مطلع ديسمبر/كانون الأول 2024، أشرس عملية مسلحة لها منذ تأسيسها قبل ثلاثة عقود من الزمن، للقضاء على فصائل المقاومة في جنين شمال الضفة الغربية.
وكانت قوى أمن عباس تريد أن تثبت قدرتها على إدارة الأمن في المناطق المحدودة التي تسيطر عليها بالضفة الغربية، في حين تسعى إلى حكم قطاع غزة بعد الاتفاق على وقف إطلاق النار.
ومثّلت هذه الحملة خطوة غير عادية للسلطة المدعومة من الغرب والمنبوذة من أميركا، والمستبعدة من قبل إسرائيل لأداء دور أكبر بالضفة وغزة.
وجاءت الحملة التي لم تكتمل بسبب استكمال المهمة من قبل جيش الاحتلال، قبل عودة ترامب إلى البيت الأبيض، في بادرة نحو اعتماد السلطة أوراقها لدى الإدارة الجديدة.

وقد استبعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عودة السلطة إلى غزة، في وقت تدفع شخصيات رئيسة في ائتلافه اليميني المتطرف إلى ضم جزء أو كل الأراضي الفلسطينية.
ومنذ بدء العدوان على غزة، ربطت حكومة نتنياهو عملية طوفان الأقصى بالسلطة الفلسطينية وأكدت أنها "لا تختلف عن حماس في ممارسة الإرهاب" وأنه لن يكون لها أي دور في مستقبل القطاع بعد تنفيذ المهمة.
وهو ما دفع السلطة للسير في مسارات عديدة كان آخرها محاولة لملمة البيت الفتحاوي وتعيين حكومة جديدة بالضفة الغربية للإيحاء بوجود تغيير، وإيجاد حل مع حماس من أجل تنحيتها من إدارة غزة، ولكن دون الوصول إلى نتائج حقيقية حتى الآن.
كما أصدر عباس مرسوما في 10 فبراير 2025 يلغي دفع رواتب عائلات الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال أو عائلات منفذي العمليات الفدائية.
وقالت تقديرات محلية: إن هذه الخطوة تهدف إلى تحسين العلاقات مع إدارة ترامب، في خضم اتهام الولايات المتحدة وإسرائيل تقديم السلطة مكافآت “للعنف ضد إسرائيل”، عبر صرف مستحقات مالية لأهالي الأسرى والشهداء.
وأتبع عباس خطوته بإقالة قدورة فارس رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين (حكومية) بعد أسبوع من معارضته للمرسوم، مع إحالته للتقاعد.
وقال المحلل السياسي إبراهيم المدهون لـ"الاستقلال": إن “ما تفعله السلطة هو محاولة لإرضاء الاحتلال، لكن هذا لن يرضيهم وسيزيد من غيهم وجشعهم وسيعجّل ضم الضفة الغربية”.
وتعد قوات الأمن من بين الخيوط الأخيرة التي تربط اتفاقات أوسلو لعام 1993 مع إسرائيل لإنشاء دولة فلسطينية من الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة وشرق القدس، وهو خيار نسفته تل أبيب بالكامل.
وفي العقود التي تلت ذلك، وسعت إسرائيل ورسخت سيطرتها على الضفة الغربية، مما أدى إلى تآكل اختصاص السلطة وصلاحياتها.
واستثمرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل كبير في إصلاح وتدريب قوات الأمن الفلسطينية بعد إطاحة حماس بالسلطة من غزة عام 2007.
ومع ذلك، تظل قوات الأمن تعاني من نقص التمويل المزمن وهي غير مجهزة لتحمل المسؤولية بالضفة الغربية وقطاع غزة بعد الحرب، فضلا عن غياب شعبيتها ورفض إسرائيل توسيع أدوارها واتهامها بالإرهاب.
هشاشة متزايدة
وكان من اللافت تجميد ترامب خلال ولايته الأولى جميع المساعدات المقدمة للسلطة الفلسطينية عام 2018 باستثناء الدعم المقدم لقواتها الأمنية، للحفاظ على أمن إسرائيل.
لكن الخطوة الجديدة تظهر عدم اكتراث الإدارة هذه المرة بإبقاء باب تمويل أجهزة الأمن مفتوحا، في ظل التشدد الإسرائيلي تجاه السلطة ومستقبلها بعد عملية طوفان الأقصى.
كما تأتي الخطوة في خضم تصريحات إسرائيلية رسمية تشجع ترامب على مباركة ضم الضفة الغربية، بالتزامن مع طرحه خطة لتهجير أهالي قطاع غزة.
ويعمق القرار من هشاشة قوات الأمن التي تعمل منذ سنوات كظهير لقوات الاحتلال وتتنافس معها على اعتقال عناصر المقاومة أو سجن نفس العناصر مرات متتالية لدى الطرفين فيما يعرف بسياسة "الباب الدوار".
وقد وصف مسؤول أميركي كبير سابق التمويل الأميركي لقوات أمن السلطة بأنه "أولا وقبل كل شيء برنامج وظائف"، وفق ميدل إيست آي.
ولطالما طلبت السلطة من الولايات المتحدة معدات عسكرية ثقيلة، لكن الأخيرة تقدم أسلحة صغيرة فقط بعد موافقة إسرائيل.
وطمأنت الولايات المتحدة إسرائيل في السابق بأن نوعية السلاح الذي يعطى للفلسطينيين غير قاتل، ولا يشكل خطرا على إسرائيل، كما يجرى فحصه قبل توزيعه.
وعلى سبيل المثال، وافقت إسرائيل بصعوبة في أغسطس/آب 2008 على تزويد قوات الأمن الفلسطينية بالسترات الواقية من الرصاص.
وقالت وكالة "رويترز" البريطانية وقتها: "بما يعكس مشاكل الثقة الأوسع بين إسرائيل والفلسطينيين، جاء الإذن بشرط حصول رجال عباس على سترات واقية من الرصاص بدلا من الدروع الثقيلة التي طلبها الفلسطينيون وبعض المستشارين الأميركيين". حسبما ذكر مسؤولون قريبون من الصفقة.
وتخشى إسرائيل من وقوع الدروع الواقية من الرصاص في أيدي عناصر المقاومة وأن توفر لهم حماية أكبر من النيران الإسرائيلية.
وتتمتع السترات الواقية من الرصاص بقدرة إيقاف أقل من الدروع الثقيلة، وفق ما نقلت وكالة "رويترز" وقتها.
وينظر الإسرائيليون إلى الملابس الواقية كعنصر مشجع على إطلاق النار مما يعرض حياة جنودهم للخطر.

كما تصر إسرائيل على إبقاء قوات أمن السلطة مكشوفة أمامهم لعدم اطمئنانها لهم، وفق ما قال أستاذ العلوم السياسية عبد الستار قاسم.
ولذلك فهم يريدون مراكز أمنية فلسطينية مكشوفة يسهل ضربها بالدبابات إذا شعرت إسرائيل بخطر، بحسب ما قال قاسم في مقال نشره عام 2009.
كما أن المراكز الأمنية محصنة ضد أي أفراد يحاولون التسلل، لكنها لا تصلح بتاتا للصمود في مواجهة الجيش الإسرائيلي ولو لفترة قصيرة.
ويصل الأمر إلى تقييد حركة قوات عباس والاعتداء عليهم من قبل جيش الاحتلال وهم في مهام رسمية، وأيضا حاجتهم إلى إذن لدخول مناطق معينة.
وعندما يقرر الإسرائيليون دخول مكان يوجد فيه أفراد من الأجهزة الأمنية فإنهم يأمرون بالإخلاء فيختفي الفلسطينيون بأسلحتهم.
ومن هنا، فإن القيمة الحقيقية في التمويل الأميركي المجمد لأجهزة الأمن الفلسطينية تأتي من دفع تكاليف التدريب ورواتب أفرادها.
ويستبعد مراقبون أن تؤثر الخطوة الأميركية على التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية التي موّلتها الولايات المتحدة ودربت عناصرها لسنوات طويلة حتى نجحت في جعلها تعمل لصالح المصالح الإسرائيلية على حساب مواطنيها.