تشق جليد القطب الشمالي.. كيف تعمل روسيا على تجاوز العقوبات الأوروبية؟

منذ ٣ أشهر

12

طباعة

مشاركة

خلال السنوات الأخيرة، كثفت روسيا تجاربها لتطوير الملاحة في طريق بحر الشمال وجعلته من الأولويات الإستراتيجية لاقتصادها، من أجل زيادة أواصر التجارة مع القارة الآسيوية.

ومن أجل أن يصبح الطريق البحري شريان نقل جديدا لروسيا خاصة عقب غزوها أوكرانيا، أشرف الرئيس فلاديمير بوتين في 26 يناير/ كانون الثاني 2024 على بدء بناء كاسحة جليد نووية جديدة سميت "لينينغراد"، لشق الطريق عبر القطب الشمالي.

وطريق بحر الشمال ممر شحن بحري، هو الأقصر بين المحيط الأطلسي والمحيط الهادئ، ويمتد على طول ساحل القطب الشمالي الروسي من بحر بارنتس بمحاذاة سيبيريا، إلى الشرق الأقصى.

ويمكن في الوقت الراهن الإبحار من خلال هذا الطريق في مياه القطب الشمالي الخالية من الجليد مدة شهرين فقط في السنة، وأصبح أكثر قابلية للملاحة بسبب ذوبان الجليد الناجم عن تغير المناخ.

وعبر بحر الشمال تمكنت روسيا من نقل 33 مليون طن من البضائع في عام 2021، و34 مليون طن في عام 2022، وما يزيد قليلا على 36 مليون طن في عام 2023.

إستراتيجية بحر الشمال

وقال بوتين في كلمة ألقاها في أحواض بناء السفن في بحر البلطيق بسان بطرسبرغ، إن كاسحة الجليد "ستعمل في طريق بحر الشمال وتشارك في أهم برامج الاستكشاف والبحث في القطب الشمالي وضمان تسليم البضائع".

ومن المفترض أن يساعد تشغيل كاسحة الجليد موسكو مستقبلا على ضمان تفوقها في القطب الشمالي، في حين تواجه طموحات قوى أخرى، في مقدمتها الصين وأميركا.

ولفت بوتين إلى إطلاق تسمية "لينينغراد" على السفينة، وهو الاسم السوفيتي لمدينة سان بطرسبرغ، في "تكريم جديد" لـ"شجاعة" سكان العاصمة الإمبراطورية السابقة في مواجهة النازيين.

وستكون السفينة الجديدة التي تعمل بالطاقة النووية وتبنيها شركة روساتوم النووية، ويبلغ طولها أكثر من 170 مترا، قادرة على كسر الجليد حتى عمق ثلاثة أمتار.

ولا شك أن تعرض روسيا لضغوط شديدة بسبب العقوبات الغربية أخيرا والاستبعاد من السلسلة اللوجستية العالمية، دفعها لتحريك أوراقها في مجال النقل البحري.

فمنذ عام 2022، تعيّن على روسيا إعادة توجيه شحناتها من المحروقات إلى آسيا التي تشكل أهمية حيوية لاقتصادها المتضرر من العقوبات الغربية التي جعلت السوق الأوروبية مغلقة بالكامل تقريبا في وجهها نتيجة هجومها في أوكرانيا.

ومن هنا جاءت الحاجة الملحة إلى تعزيز وتحديث أسطولها من كاسحات الجليد النووية، وهو ما يتيح تمهيد الطريق أمام ناقلات النفط وغيرها من ناقلات الغاز الطبيعي المسال التي تنقل المحروقات المستخرجة أساسا من سيبيريا.

وأشار رئيس "روساتوم" النووية أليكسي ليخاتشيوف أخيرا إلى أن 36 مليون طن من البضائع عبرت هذا الطريق البحري عام 2023، وهو "رقم قياسي".

ودشنت روسيا، وهي الدولة الوحيدة في العالم التي تمتلك أسطولا من كاسحات الجليد النووية، ثلاث سفن جديدة في السنوات الأخيرة، ومن المقرر أن تدخل سفينة عملاقة يتجاوز طولها 200 متر الخدمة عام 2027.

وعقب غزو روسيا لجارتها أوكرانيا عام 2022 أصبحت العديد من الشركات والمؤسسات الحكومية، بما في ذلك شركة نوفاتك للغاز وروساتوم للطاقة النووية، هدفا للعقوبات الغربية، وهما الشركتان اللتان تقودان مشاريع القطب الشمالي التجارية.

والأهم من ذلك هو أن التطوير الحالي لمسار البحر الشمالي أثبت أهميته بالنسبة لقدرة روسيا على إعادة توجيه تدفق صادرات الهيدروكربون بعيدا عن أوروبا ونحو آسيا.

إذ إن الحظر الذي فرضته الدول الأوروبية على توريد النفط والمنتجات النفطية الروسية، فتح نافذة جديدة لموسكو لإعادة توجيه النفط الروسي من موانئ البلطيق إلى منطقة البحر المتوسط.

بفضل الطريق أصبح من الممكن نقل العديد من أنشطة النقل البحري من الغرب إلى الشرق، لا سيما أن روسيا وافقت على الجداول الزمنية لإنشاء أسطول نقل جديد لكسر الجليد يبلغ إجماليه 153 سفينة.

تدعيم الاقتصاد

وستحتاج روسيا بحلول نهاية العقد الحالي إلى 7500 بحار جديد في القطب الشمالي، بما في ذلك 1500 على الأقل لتشغيل كاسحات الجليد النووية. 

وسبق أن قامت ناقلات الغاز الروسية بأول رحلات شتوية تجريبية على طول طريق بحر الشمال، ومن المقرر أن تبدأ شركة الغاز الروسية نوفاتيك الشحن على مدار عام 2024 على طول الطريق البحري في القطب الشمالي. 

وخلال إحاطة حكومية مكثفة حول مسار البحر الشمالي وتطوير القطب الشمالي، أعلن أليكسي ليخاتشيوف عن هذا الإنجاز للرئيس بوتين.

وأشار في مايو/ أيار 2023 إلى أن "هذا قرار تاريخي ومهم لتنمية القطب الشمالي بأكمله وله أهمية خاصة بالطبع لاقتصاد بلدنا". 

ويمثل الشحن على مدار العام على هذا الطريق معلما رئيسا في هدف روسيا المتمثل في شحن 200 مليون طن من الغاز على طول الطريق بحلول عام 2030، أي بزيادة ستة أضعاف عن عام 2023.

وفي 25 يناير 2024، أكد وزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك أن الشركات الروسية المنتجة للنفط تستخدم طريق البحر الشمال بشكل متزايد لتوصيل النفط إلى دول جنوب شرق آسيا والصين.

وأضاف في مقال بمجلة "سياسة الطاقة" أن هذا الطريق بالغ الأهمية لنقل البضائع من مشاريع الطاقة في القطب الشمالي على مدار السنة.

كما قال سفير المهام الخاصة بوزارة الخارجية الروسية، نيكولاي كورتشنوف، إن طريق بحر الشمال يمكن أن يكون بديلا صالحا لملاحة السفن الراغبة في تغيير مسارها من البحر الأحمر بسبب هجمات جماعة الحوثي ضد السفن المرتبطة بإسرائيل.

وقال كورتشنوف في تصريح لوكالة "سبوتنيك" ردا على سؤال حول إذا ما كان طريق بحر الشمال يوفر بديلا للسفن الراغبة في تغيير مسارها بسبب التوترات في البحر الأحمر: "نعم من حيث المبدأ يمكن السماح بذلك، بشرط استيفاء متطلبات القانون القطبي وأحكام الوثائق ذات الصلة بالتنظيم الروسي لعبور طريق بحر الشمال".

بدوره لفت وزير تنمية الشرق الأقصى والقطب الشمالي الروسي أليكسي تشيكونكوف، إلى أن القيمة الإجمالية للبضائع المنقولة على طول طريق بحر الشمال ستصل إلى 111 تريليون روبل (1.2 تريليون دولار بحلول عام 2035)، حسبما نقلت عنه وكالة تاس في 24 يناير.

"مقاومة للعقوبات"

وهنا يشير سيمون واتكينز الصحفي المالي، إلى أن "بوتين يرى منذ فترة طويلة أن تنمية موارد القطب الشمالي أحد مشاريعه الحيوية والإستراتيجية الأساسية.

وأوضح في مقال أن أحد أسباب ذلك هو الحجم الهائل لاحتياطيات روسيا من الغاز والنفط هناك، والتي تقدر بحوالي 35.7 تريليون متر مكعب من الغاز وأكثر من 2.3 مليار طن متري من النفط والمكثفات. 

وأضاف أنه "مما يساعد على ذلك هو أن الكثير من موارد الغاز هناك قد تم تخصيصها لتحقيق تقدم كبير في إنتاج الغاز الطبيعي المسال في البلاد، حيث يعتقد بوتين أيضا منذ فترة طويلة أن وجود روسيا في تلك السوق لا يعكس وجودها الهائل في عالم الغاز والنفط الأوسع".

ومضى واتكينز يقول: "منذ الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، أصبح الغاز الطبيعي المسال أيضا منتج غاز الطوارئ المتأرجح للعديد من الاقتصادات الكبرى، نظرا للعقوبات المفروضة على صادراتها من الغاز الطبيعي والنفط، خاصة أن الغاز الطبيعي المسال متوفر بسهولة في الأسواق الفورية ويمكن نقله بسرعة كبيرة إلى أي مكان مطلوب، على عكس الغاز أو النفط الذي يتم إرساله عبر خطوط الأنابيب".

والسبب الآخر الذي يجعل احتياطيات روسيا من النفط والغاز في القطب الشمالي مهمة للغاية بالنسبة لبوتين "هو إمكانية تسليمها بسهولة إلى الصين من خلال مسار البحر الشمالي"، وفق واتكينز.

وزاد بالقول: "السبب الرئيس الأخير الذي يلعبه محرك الغاز والنفط الروسي في القطب الشمالي هو قدرته على تقويض الهيمنة القائمة على الدولار في سوق الطاقة".

وأشار واتكينز إلى أن "مشروع بحر الشمال يرمز إلى محاولات بوتين جعل مشاريع الغاز الطبيعي المسال الروسية في القطب الشمالي مقاومة للعقوبات قدر الإمكان".

وختم بالقول: "مع ذلك، فإن التحركات جارية على قدم وساق من جانب الولايات المتحدة لفرض المزيد من العقوبات التي تهدف إلى تقويض طموحات روسيا في مجال الغاز الطبيعي المسال بالقطب الشمالي، جزئيا من خلال منع مبيعات التكنولوجيا التي لا تزال شركات روسيا وغيرها بحاجة إليها".

وسبق أن كشفت روسيا في يونيو 2023 النقاب عن خطط لاستثمار 2 تريليون روبل (24 مليار دولار) في تطوير طريق بحر الشمال على مدى السنوات الـ 13 المقبلة.

 وقد مر بالفعل مشروع قانون أعدته الحكومة بالقراءة الأولى في مجلس الدوما، وقد أكد الوزير ميخائيل ميشوستين على الدور الحاسم الذي يلعبه طريق البحر الشمالي في تعزيز اتصال النقل في المناطق النائية من البلاد، حسبما ذكرت وكالة أنباء شينخوا.

 لكن رغم وضع روسيا كل الخطط ودراستها للاستثمار في بحر الشمال، فقد دق التدفق المتزايد للنفط الخام على طول طريق بحر الشمال أجراس الإنذار بين المجموعات البيئية، حيث يعد تنظيف النفط في مياه القطب الشمالي بعد أي انسكابات عرضية أمرا شبه مستحيل.

وضمن هذه الجزئية يرى ميخائيل كروتيخين، المؤسس المشارك والمحلل الرئيس لوكالة "روس إنرجي" الاستشارية المستقلة ومقرها موسكو، أن "نضال روسيا من أجل جذب المستثمرين الأجانب يعتمد في المقام الأول على ثلاثة جوانب". 

أولا، "لن تتمكن موسكو من نقل الكمية المعلنة من النفط، حوالي 30 مليون طن سنويا، إلى المستخدمين النهائيين عبر طريق بحر الشمال في أي وقت قريب، ولا تمتلك روسيا ما يكفي من ناقلات الجليد من فئة القطب الشمالي لإنجاز هذه المهمة".

 وأضاف كروتيخين قائلا: "لن تتمكن الناقلات الأخرى من العمل في الجزء الشرقي من المحيط المتجمد الشمالي طوال معظم أيام العام".

ثانيا، وفق كروتيخين "لا توجد محطة للقطب الشمالي، والتي ستكون بالغة الأهمية للمعاملات النفطية، ولا توجد أي خطوط أنابيب نفط جديدة يمكنها نقل الكمية المعلنة من الصادرات".

 ثالثا، "وربما الأكثر أهمية، هو أن موسكو بالغت في تقدير القدرة الإنتاجية لمشروع نفط فوستوك، إذ إن الأرقام التي قدمتها موسكو افتراضية إلى حد كبير وتستند إلى نتائج البحث الذي تم إجراؤه في موقع واحد، وهو موقع زابادنو-إركينسكوي".

وفوستوك من أكبر مشاريع النفط الروسية، ويضاهي في حجمه أعمال التنقيب بغرب سيبيريا في سبعينيات القرن العشرين، حسب وكالة روتيرز.

 وكانت شركة الطاقة الروسية العملاقة روسنفت أجرت عام 2021 محادثات مع شركات تجارة عالمية ومع مستهلكي نفط كبار مثل الهند والصين بخصوص إمكانية مشاركتهم في مشروعها النفطي العملاق فوستوك.