من ساحات اللعب إلى قاعات التحقيق.. لماذا تعتقل مصر أطفال "ببجي"؟

السلطات الأمنية اعتقلت ما لا يقل عن 15 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عامًا
في واقعة غير مألوفة، وثّق محامون ومنظمات حقوقية مصرية تزايد مثول أطفال تتراوح أعمارهم بين 11 و17 عامًا أمام نيابة أمن الدولة خلال الأشهر الماضية، ليتضح أن سبب اعتقالهم هو لعبهم "ببجي" على الإنترنت.
اللعبة، التي صُممت للتسلية وخوض معارك افتراضية بين لاعبين من مختلف دول العالم، أصبحت بحسب 15 منظمة حقوقية ذريعة أمنية لاقتحام المنازل واحتجاز الأطفال أثناء ممارستها.
و"ببجي" أو (Player Unknown’s Battlegrounds)، هي لعبة إلكترونية جماعية على الإنترنت ظهرت عام 2017، وتقوم فكرتها على معارك يشارك فيها لاعبون من مختلف أنحاء العالم، وانتشرت في الدول العربية بين المراهقين.
إذ يشارك في كل مباراة أكثر من لاعب، يتقاتلون على خريطة مليئة بالأسلحة والمتفجرات والمكائد، والفائز هو اللاعب أو الفريق الذي يبقى على قيد الحياة.
وبعد شكاوى لعدة أسر من اعتقال الشرطة أطفالهم من منازلهم وهم يمارسون اللعبة، أصدرت 15 منظمة حقوقية بيانا أكدت فيه استهداف الأمن لهم بالفعل، والسبب لعبهم على منصات الألعاب الإلكترونية.

ما القصة؟
كان الطفل عماد (اسم مستعار) 15 عاما، يلعب كالمعتاد على هاتفه الذكي لعبة "ببجي"، مع آخرين لا يعرفهم، حين قرعت الشرطة الباب ودخلت بعنف وألقت القبض عليه.
ذُهلت أسرته، التي لم تعرف السبب، ولم يبلغها الضباط الذين هاجموا المنزل بشيء سوى إخبارها أنه "عمل حاجة غلط" لتخفيف وقع الأمر.
ولكن في قسم الشرطة ثم النيابة أبلغوهم أن طفلهم متورط مع "تنظيم سياسي إرهابي" وسيتم حبسه.
ورغم أنه طفل ولا يجوز حبسه، استجوبته النيابة، حول أشياء لا يعلم عنها شيئا، بتوجيه تهم غريبة مُعلبة له، منها الانضمام لجماعة إرهابية، وحجزه في دار رعاية للأطفال، وجرى منع أسرته من التواصل معه، وفق محام، فضل عدم ذكر اسمه لـ "الاستقلال".
ومع توالي قصص احتجاز الأمن المصري لأطفال، جرى رصد قرابة 15 منهم بسبب لعبة ببجي. ويقول محامون: إن العدد قد يكون أكبر, وهذا ما علموا به فقط.
مؤسسة "جوار" الحقوقية" روت قصص أطفال آخرين من شهادات عائلاتهم، مشيرة لاعتقال ما لا يقل عن 15 منهم تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عامًا واتهامهم بالانتماء إلى جماعة إرهابية استنادًا إلى نشاطهم الرقمي.
وقالت: إنه في جميع الحالات جرى القبض على الأطفال من منازلهم دون أوامر قضائية، وأُخفي عدد منهم قسرا لفترات تتراوح بين أيام وأشهر قبل أن يظهروا أمام النيابة بتهمة "الانتماء إلى جماعة إرهابية" دون تقديم أدلة ملموسة.
منها حالة لطفل يبلغ من العمر 13 عامًا، اعتُقل في يناير/كانون الثاني 2025 بعد يومين من رفضه التواصل مع أشخاص مجهولين عبر اللعبة.
وتعرض للإخفاء القسري قرابة ثلاثة أشهر قبل أن يظهر في أبريل/نيسان 2025 أمام النيابة، ويُحتجز حاليًا في دار رعاية بالجيزة.
وطفل آخر يدعى محمد عماد (17 عامًا)، يحمل الجنسية الأميركية ويقيم في مدينة بالتيمور، اعتُقل في أغسطس/آب 2024 أثناء زيارته مصر بعد أن تواصل معه أشخاص عبر اللعبة وعرضوا عليه مكافآت رقمية مقابل نشر محتوى عدته أجهزة الأمن معاديا للسلطة على حساباته.
وقد أُخفي قسرا لعشرة أيام ثم ظهر محتجزًا في قسم شرطة بنها بالقليوبية مع بالغين رغم كونه قاصرًا، ولا يزال رهن الحبس الاحتياطي منذ عام تقريبًا مع حرمانه من الرعاية الطبية رغم معاناته من مرض الربو.
وأصدرت 15 منظمة حقوقية بيانا موحدا في 28 أغسطس/آب 2025، تطالب إطلاق سراح المعتقلين ومنهم 13 لا يزالون في السجون.
المنظمات الـ 15 المحلية والدولية، ومن بينها مركز ديمقراطية الشرق الأوسط، والمنظمة العالمية لمناهضة التعذيب، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، أدانت استهداف الأمن المصري للأطفال على خلفية لعبهم على منصات الألعاب الإلكترونية.
تحدثت عن "انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان"، وخرق الشرطة والنيابة للقوانين المصرية والمعايير الدولية، عبر احتجاز الأطفال تعسفيًا، وإخفائهم قسرا، وحرمانهم من الإجراءات القانونية، فضلًا عن تعرضهم للتعذيب وسوء المعاملة أثناء الاحتجاز.
قالت: إن السلطات الأمنية اعتقلت ما لا يقل عن 15 طفلًا تتراوح أعمارهم بين 12 و17 عامًا، وجهت لهم تهم الانتماء إلى جماعة إرهابية استنادًا إلى نشاطهم على منصات الألعاب الإلكترونية.
وطالبت المنظمات بالإفراج الفوري عن جميع الأطفال المحتجزين، وفتح تحقيق شفاف في الانتهاكات التي تعرضوا لها. وعدّت استهدافهم بهذه الطريقة "إساءة بالغة لاستعمال السلطة ويستوجب المحاسبة".
تحدثت عن "استدراج أجهزة الأمن المصرية للقصر عبر منصات الألعاب الإلكترونية، وعلى رأسها لعبة ببجي حيث تقوم بتقديم وعود لهم بمكافآت داخل اللعبة مقابل انضمامهم إلى مجموعات محادثة".
ثم تطلب منهم مشاركة محتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، وتدعي لاحقًا ارتباطهم بجماعات متطرفة، وفق البيان.
بحسب البيان، كشفت الحالات الموثقة عن نمط مقلق من الانتهاكات ضد الأطفال، يبدأ بإلقاء القبض عليهم من منازلهم دون أي تصريح رسمي أو توضيح لأسباب القبض عليهم وإخفاؤهم قسريًا لأيام، أو أشهر في بعض الحالات.
وذلك قبل أن يظهروا وقد وجهت لهم "التهمة الفضفاضة ذاتها: الانتماء إلى جماعة إرهابية"، دون تقديم دليل، وذلك دون عرض كثير منهم على المحاكم لجلسات تجديد الحبس، في انتهاك لحقوقهم الإجرائية.
لماذا اعتقلوهم؟
وأمام تكرر هذه الحوادث، جرى تداول روايتين عن أسباب اعتقال هؤلاء الأطفال، الأولى أنهم تورطوا في نشر انتقادات لرئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي رغما عنهم كنوع من اللعب.
وجاء ذلك مقابل وعد آخرين في اللعبة لهم بالحصول على "نقاط مكافأة" لاستمرار اللعب.
والثانية أن الأمن المصري هو الذي أوقع الأطفال القُصر، واستدرجهم عبر منصات الألعاب الإلكترونية، بوعدهم بمكافآت داخل اللعبة مقابل انضمامهم إلى مجموعات محادثة ومشاركة محتوى معين على وسائل التواصل، ثم اتهامهم بالارتباط بجماعات إرهابية متطرفة.
وعن الرواية الثانية، قالت الحقوقية "سارة محمد"، عبر حسابها على إكس إن "جهاز أمن الدولة عمل كمين للأطفال"، وهم يلعبون لعبة ببجي.
أوضحت أن طبيعة هذه اللعبة تُحتم على الأطفال الذين يلعبونها أن ينسقوا فيما بينهم ويشكلوا فرقا للعب، ويحدث بينهم محادثات مع أشخاص لا يعرفونهم يشاركون من دول مختلفة.
وما يحدث هو أن هؤلاء الأشخاص يعدون هؤلاء الأطفال أنهم لو شاركوا معهم في فرقهم فسوف يعطونهم نقاطا أو مكافآت تُسمى coins.
وبينت أن هؤلاء الأطفال طُلب منهم "حاجات في المقابل" مثل نشر انتقادات على مواقع التواصل الخاصة بهم مثل تيك توك أو فيسبوك للسيسي أو التضامن مع غزة والمطالبة بفتح الحدود، وأحيانا "أمور متطرفة"، دون تحديد ماهيتها.
ومع أن الكثير من هؤلاء الأطفال حظروا هؤلاء الأشخاص بسبب خشيتهم من فعل ذلك، فقد فوجئوا بالقبض عليهم وإخفائهم وتعذيبهم أثناء التحقيق معهم وسجنهم وتجديد حبسهم بدون حضورهم، وفق الحقوقية المصرية.
وقد دافع محامو الأطفال عنهم أمام النيابة عدة مرات بالقول إنهم "ضحايا استدراج"، لكن لا الشرطة ولا النيابة راعت ذلك.
بل وأكد بعض المساجين الكبار ممن قابلوا هؤلاء الأطفال داخل السجون، لمنظمات حقوقية أنهم بلا أي هوية ولا يفهمون في السياسة والأمر كان "تهريج"، وبالتالي فهم "ضحايا استدراج أمني لا سياسي".
ويقول خبير أمن معلومات إلكترونية لـ "الاستقلال" إن هناك جهات أمنية في مصر ترصد على مدار الساعة ما يدور في منصات التواصل أو عمليات الاختراق الإلكتروني المعادية المحتملة، رصدت مشاركة أفراد وجهات خارج مصر انتقادات للنظام المصري عبر بعض الألعاب.
رجح، مفضلا عدم ذكر اسمه، أن يكون القبض على هؤلاء الأطفال جاء بسبب رصد مشاركة بعضهم عفويا وكنوع من الدعابة، في نشر ما عده النظام دعاية معادية له عبر لعبة ببجي تحديدا.
لذا جرى معاقبة الأطفال وليس من أرسلوا لهم الدعاية الساخرة من السلطة، لأنهم غير معروفين أو خارج مصر.
أوضح أن حديث منظمات حقوقية عن "اصطياد الأمن المصري هؤلاء الأطفال" يرجح أيضا أن يكون قد جرى استغلالهم في تتبع من ينشرون هذه الدعاية السلبية ضد السلطة، عبر هذه اللعبة وغيرها.
قال: إنه يجب التعامل مع القصة كلها بصفتهم أطفالا لا سياسيين أو أصحاب هويات سياسية, وكان من الأفضل التنبيه على أسرهم بدلا من ترويعهم والقبض عليهم وتشويه مستقبلهم.
وأوضح موقع "الموقف المصري" الإلكتروني، أن الأمن خلال تتبعه للأنشطة المتطرفة اكتشف هذه النشاطات، لكنه بدلا من أن يتعامل مع هؤلاء كأطفال، وضحايا لاستدراج سياسي، قرر التعامل معهم كناضجين ومسؤولين.
ووصف ذلك بأنه "تجاهل غريب لافتقار الأطفال الوعي اللازم لتمكينهم من فهم التبعات الأمنية ولا الأبعاد السياسية للمحتوى الذي يُطلب منهم مشاركته عبر الإنترنت".
وينص قانون الطفل رقم 12 لسنة 1996 المعدل بالقانون رقم 126 لسنة 2008 في المادة 112 على أنه "لا يجوز احتجاز الأطفال أو حبسهم أو سجنهم مع غيرهم من البالغين في مكان واحد".
وقبل هذه الحملة على الأطفال الذين يلعبون "ببجي"، جرى شن حملة كبيرة على هذه اللعبة في مصر، لأسباب أخلاقية ودينية، منها قتل طالب لمعلمته متأثرا بها عام 2018، وانتحار طفل عام 2020.
وفي 17 مارس/آذار 2021، أعلن أعضاء بلجنة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بمجلس النواب المصري عن اعتزامهم مناقشة حظر اللعبة في البلاد.
وهاجم الأزهر والإفتاء المصرية، 6 يونيو/حزيران 2020 إدارة ببجي بسبب لعبة تتضمن "الركوع للأصنام"، جرى حذفها لاحقا بعد الاحتجاجات.
وحذر مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية من لعبة "ببجي موبايل" بعد تحديث جديد يحتوي على ركوع اللاعب لصنم في خريطة تسمى بـ"سانهوك"، حيث يشترط ركوع اللاعب ليحصل على معدات وأسلحة.