إستراتيجية ترامب للأمن القومي.. هل تنسحب أميركا فعلا من الشرق الأوسط؟

إسماعيل يوسف | منذ ٧ ساعات

12

طباعة

مشاركة

رغم تورط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المباشر في المنطقة العربية والشرق الأوسط، خاصة في حرب غزة وقصف إيران، تناولت إستراتيجيته الجديدة للأمن القومي تحولًا في أولويات واشنطن نحو تقليص الانخراط في المنطقة.

وتركز الوثيقة التي تضم 33 صفحة على إعادة توجيه الثقل العسكري والسياسي نحو نصف الكرة الغربي (الأميركتين) وتعزيز الهيمنة الاقتصادية، في إطار ما يسمى بـ"مبدأ مونرو الجديد".

تعكس الإستراتيجية مقاربة شعار تيار ترامب وماغا "أميركا أولًا"، مع إعادة تعريف للتهديدات والمصالح الإستراتيجية.

مع ذلك، يشكك خبراء ومحللون أجانب في إمكانية تنفيذ هذه الإستراتيجية فعليًا، لا سيما في ظل استمرار الدعم الأميركي لإسرائيل وخططها في غزة وسوريا ولبنان.

ويقولون: إن ترامب، مثل أربعة رؤساء سابقين، وعد أكثر من مرة بتقليل التورط في الشرق الأوسط، لكن السياسات اتسمت بالاستمرارية لا بالتغيير.

مركز الثقل

تعتاد كل إدارة رئاسية على إصدار وثيقة واحدة على الأقل للإستراتيجية الأمنية القومية للولايات المتحدة، لتوضيح توجهاتها فيما يتعلق بأمن أميركا والعالم. في 5 ديسمبر 2025، أصدرت إدارة ترامب الثانية إستراتيجيتها الجديدة للأمن القومي، والتي جاءت خلال السنة الأولى من ولايتها، لتعكس النوايا والرسائل التي تسعى واشنطن لتوجيهها للعالم بشأن تعاملها مع القضايا العالمية الكبرى، بحسب موقع "مودرن دبلوماسي".

غير أن ما ميز هذه الإستراتيجية الجديدة هو تأكيدها على أن حقبة عدّ منطقة الشرق الأوسط "مركز الثقل الأميركي" قد "انتهت"، وأن واشنطن ستقلص اهتمامها بها بحجة تراجع المخاطر، رغم أن المنطقة لا تزال ساحة نزاعات معقدة. وفقا لصحيفة "ذا هيل" في 5 ديسمبر 2025.

وتشير الوثيقة إلى أن الشرق الأوسط "لم يعد يسيطر على السياسة الخارجية الأميركية في التخطيط طويل الأمد أو التنفيذ اليومي"؛ لأنه لم يعد مصدرًا للأزمات المتكررة. ووصفت المنطقة بأنها باتت "منطقة استقرار وشراكة" وليس "ساحة صراع واضطراب عالمي"، مستندة إلى عوامل مثل إضعاف إيران، ووقف إطلاق النار في غزة، وتراجع داعمي حماس، وفرص استقرار سوريا عبر التعاون الإقليمي.

كما أكدت الوثيقة أن الولايات المتحدة لن تعود إلى الانخراط العسكري المباشر في المنطقة، وأن الإدارة ستعتمد على "تقاسم الأعباء" مع الحلفاء، مع التركيز على حماية الملاحة والطاقة ومنع الإرهاب.

غير أن عدم الثقة في تطبيق هذه الإستراتيجية ينبع ليس فقط من تورط أميركا العميق في الشرق الأوسط، بل لأن بنودها تتعارض مع الممارسات الفعلية لإدارة ترامب.

فالإدارة تدعي أن سياستها "لا تستند إلى أيديولوجيات سياسية تقليدية"، بينما الواقع يظهر العكس. ومواقف الإدارة من نيجيريا، وتهديدها بالقصف بذريعة "إبادة المسيحيين"، توضح بجلاء كيف تُشكّل "القومية المسيحية" جانبًا من سياسة ترامب الخارجية، حسب تقرير لموقع "ذا إنترسيبت" الاستقصائي الأميركي نشر في 8 نوفمبر 2025.

منذ تسلمه المنصب في يناير 2025، اتهم النقاد خطاب ترامب بإعادة إحياء الإمبريالية الحديثة في نصف الكرة الغربي؛ حيث تحدث مبكرًا عن استعادة قناة بنما، وضم غرينلاند وكندا.

كما تشير الإستراتيجية إلى سعي واشنطن لإقامة علاقات تجارية وسلمية مع دول العالم دون فرض تغييرات ديمقراطية أو اجتماعية تتناقض مع تقاليدها وتاريخها، لكن تدخلاتها في غزة ولبنان وسوريا وأميركا اللاتينية، إلى جانب تدخلها في الانتخابات، تكشف سعيها لتشكيل العالم وفق مصالحها بالقوة والتهديد.

وينطبق الأمر ذاته على زعم استراتيجية الأمن القومي الأميركية التي تقول إن واشنطن "تسعى إلى علاقات جيدة مع الدول التي تختلف أنظمتها الحاكمة عن نظامنا".
ومثال على عدم جدية هذا الزعم، إصرار ترامب في رسالة تقديم الإستراتيجية على أنه "حقق السلام والتصالح حتى بين مصر وإثيوبيا"، وهو ما استغربه الإعلامي حافظ المرازي عبر تويتر (إكس).

أما خطط السياسة الأميركية في الشرق الأوسط كما وردت في الإستراتيجية، فتفترض (دون تصريح صريح) أن الصراع قد حُسم لصالح هيمنة إسرائيل، وبالتالي لم يعد هناك تهديد حقيقي، وإنما فقط "صراع معقد" ومحدود بين إسرائيل والفلسطينيين.

فقد نصَّت الوثيقة على نفي مسألتين أساسيتين وهما: أن الشرق الأوسط لا يعد المزود الأكثر أهمية للطاقة في العالم، بعدما تنوعت مصادر الطاقة وأصبحت الولايات المتحدة نفسها مصدرًا للنفط.

 ثانيا: المنطقة لم تعد ساحة رئيسة للتنافس بين "القوى العظمى"، ولم تعد مليئة بالصراعات التي تهدد بالانتشار إلى مناطق أخرى في العالم، بحجة أن التنافس بين القوى الكبرى قد حل محلها.

واستندت الوثيقة إلى أن النزاعات في الشرق الأوسط تراجعت؛ لأن "إيران قد أُضعفت" بعد القصف الأميركي لبرنامجها النووي، ونجحت خطة ترامب في وقف الحرب في غزة ولبنان، وإضعاف حماس وداعميها.

وقد ورد في الوثيقة أن المنطقة العربية "لم تعد مصدر التهديد المستمر أو الكارثة الوشيكة كما كانت سابقًا". مستندة إلى تراجع نفوذ إيران ومحورها بعد الحرب مع إسرائيل والضربات الأميركية على مواقع نووية، وهو أمر يشكك فيه الكثير من الخبراء والمحللين.

لذلك، تحلم وثيقة أمن ترامب، بعد إضعاف "السبب التاريخي لتركيز أميركا على الشرق الأوسط"، وهو النفط، بتحويل المنطقة إلى واجهة للاستثمار الدولي، وصناعات الطاقة النووية، والذكاء الاصطناعي، وغيرها من القطاعات الحديثة.

في المقابل، رأى الديمقراطيون أن إستراتيجية ترامب تمثل "انسحابًا خطيرًا" من المنطقة قد يضعف الولايات المتحدة وحلفاءها.
وحذر النائب "جيسون كرو" من أن الوثيقة تعتمد على "هندسة اجتماعية وحربًا ثقافية وتدخلًا في أنظمة حليفة".
وقال السيناتور "ريتشارد بلومنثال": إن الإستراتيجية "تلقي بأوكرانيا تحت العجلات"، وتحول شعار "أميركا أولًا" إلى "أميركا وحدها".

“تقليص الخارج”

تشير الوثيقة صراحة إلى أن السياسة الأميركية الحالية "ليست مبنية على أيديولوجيات سياسية تقليدية"، وأن واشنطن "تسعى إلى علاقات طيبة وتجارية سلمية مع دول العالم دون فرض تغييرات ديمقراطية أو اجتماعية تتعارض مع تقاليدها وتاريخها". إضافة إلى رغبتها في "علاقات جيدة مع الدول التي تختلف أنظمتها الحاكمة عن نظامنا".

ويعد محللون هذا التحول "مذهلًا"؛ حيث يختلف عن الخطاب الأميركي السائد على مدى عقود، ويشير إلى أن عصر التبشير الأميركي بالديمقراطية والليبرالية الدولية قد يوشك على الانتهاء.

وبحسب موقع "مودرن دبلوماسي" في 7 ديسمبر/كانون الأول 2025، فإن الشرق الأوسط لا يزال مهمًا لأميركا، لكنه لم يعد محوريًا في إستراتيجيتها.

ويرجح مراقبون أن إدارة ترامب لن تنسحب كليًا من الشرق الأوسط، لكنها ستقلل اعتمادها عليه كعمود فقري لدورها العالمي، متجهة إلى شراكات اقتصادية ودبلوماسية وتجارية مرنة، مع الحفاظ على مصالحها الحيوية في المنطقة مثل الطاقة والملاحة.

مع ذلك، تبدو آفاق الديمقراطية أكثر قتامة في الوثيقة؛ حيث قررت إدارة ترامب أن الدفع نحو الإصلاحات الديمقراطية ليس من أولوياتها. معتبرة إياه مجرد "مطلب ملح"، مع التأكيد على أنه "يجب ألا نتجاهل الحكومات ذات الرؤى المختلفة".

ويعلق "مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية" الأميركي (CSIS) في تقريره بتاريخ 5 ديسمبر 2025 على هذا الجانب، قائلاً: إن ذلك "سيسعد الملوك الإقليميين كثيرًا". مشيرًا إلى أن الولايات المتحدة ستتخلى عن "تجربة أميركا المضللة في ترهيب هذه الدول، وخاصة ممالك الخليج، للتخلي عن تقاليدها وأشكال حكمها التاريخية".

ويضيف المركز: "يجب أن نشجع الإصلاح متى وأينما ظهر بشكل عضوي، دون محاولة فرضه من الخارج". مؤكدًا أنه بموجب هذا التعهد، "لن يتعرض الطغاة لأي ضغط من الولايات المتحدة، طالما يمكننا العمل معهم".

ويرى الخبير في الشرق الأوسط وإفريقيا بمجلس العلاقات الخارجية الأميركية، ستيفن كوك، في تحليل نُشر يوم 6 ديسمبر 2025، أن تصريحات الوثيقة التي تؤكد أن المنطقة لم تعد محورًا للسياسة الأميركية تتعارض مع الواقع.

ويقول كوك: "يتعارض نهج إستراتيجية الأمن القومي وميل الرئيس إلى تقليص دور الولايات المتحدة في المنطقة مع نهج البيت الأبيض منذ عودة ترامب إلى منصبه".

ويشير إلى أن الجيش الأميركي لديه حضور قوي في بلدة "كريات جات" جنوب وسط إسرائيل؛ حيث يشرف على خطة ترامب للسلام في قطاع غزة، ويشارك البيت الأبيض بشكل كبير في جهود نزع سلاح حزب الله وإقامة علاقات طبيعية بين إسرائيل ولبنان.

كما أبدى ترامب اهتمامًا نشطًا بعملية انتقال السلطة في سوريا؛ حيث رفع العقوبات، ودعا الكونغرس إلى اتخاذ إجراءات لدعم إعادة إعمار سوريا، وضغط على إسرائيل للدخول في حوار مع سوريا بشأن أمن الحدود.

إستراتيجية جديدة

مقابل تقليص إستراتيجية الأمن القومي الجديدة تركيزها على الشرق الأوسط، تعتزم الولايات المتحدة خفض دورها العالمي والتركيز على قضايا داخلية وإقليمية، مثل الأمن الداخلي، الهجرة، وتعزيز النفوذ في الأميركتين.

كما تسعى لمساعدة أوروبا على استعادة سيطرتها الحضارية، التي تواجه ما تُسمى بـ"المحو الحضاري" بسبب تدفق المهاجرين، والتي قد تؤدي إلى فقدان ملامحها خلال 20 عاما إذا استمرت على نهجها الحالي.

وترى إدارة ترامب أن أوروبا تواجه "محوًا حضاريًا" بفعل المهاجرين، وأن هدف السياسة الأميركية يجب أن يكون "مساعدة أوروبا على تصحيح مسارها". وذلك عبر دعم الأحزاب الأوروبية التي تُناهض الهجرة وتروج للقومية. وفقا لصحيفة "نيويورك تايمز" (2 ديسمبر 2025).

لكن هذه الأهداف تبدو متناقضة، فبينما تعلن الإدارة تقليل تدخلها الخارجي وتحميل حلفائها، خصوصًا الأوروبيين في الناتو، مسؤولية الأمن، إلا أن سياساتها الحالية تظل متشابكة في عدة أزمات عالمية.

وفي مقابل تقليص الدور في الشرق الأوسط، تعطي الإستراتيجية أولوية للأميركتين؛ حيث تدعم العملية العسكرية التي يخوضها ترامب في فنزويلا بحجة مكافحة تهريب المخدرات في البحر الكاريبي.

كما تعيد الوثيقة إحياء "مبدأ مونرو" بصيغة أكثر تدخلًا في شؤون دول أميركا اللاتينية وأوروبا، عبر تعزيز الانتشار العسكري وفتح الطريق لعمليات برية، والتدخل في انتخابات أوروبا، ودعم زعماء يمينيين شعبويين علنا، ما يجعل مفهوم "الانكفاء" غامضا.

وحددت الوثيقة خمسة مصالح خارجية "أساسية وحيوية"، يأتي على رأسها نصف الكرة الغربي، مع إعلان صريح عن "فرض وتطبيق ملحق ترامب لمبدأ مونرو". مؤكدًا دعم الحلفاء في حماية أمن أوروبا واستعادة الهوية الغربية.

وتنص الوثيقة على أن "التفوق الأميركي في نصف الكرة الغربي شرط لأمننا وازدهارنا"، مشددة على أن "شروط تحالفاتنا وأي مساعدات تُقدم مشروطة بتقليص النفوذ الخارجي المعادي، بدءًا من السيطرة على المنشآت العسكرية والموانئ والبنية التحتية الرئيسية، وصولا إلى شراء الأصول الإستراتيجية".

ولفت خبراء الانتباه إلى أن الصين لم تعد تُصنف في الوثيقة كـ"التهديد الرئيس" أو "التحدي الأكثر أهمية"، وهو تقليل واضح لمكانتها الإستراتيجية مقارنة بالوثائق السابقة.

ورغم ذلك، لا تعد الصين حليفًا أو شريكًا، بل منافسًا اقتصاديًا ومصدرًا مضراً لسلاسل الإمداد، مع ضرورة منعها من تحقيق الهيمنة الإقليمية لما يضر بالاقتصاد الأميركي.

وبينما يشهد الصراع على تايوان تصعيدًا، تعامل الوثيقة الصين كقضية إدارية يجب إدارتها، وليس كعدو أيديولوجي يجب هزيمته.

وبنفس التناقض، تتحدث الإستراتيجية عن "تحالف اقتصادي ضد الصين"، لكنها تشن حروبًا تجارية على شركائها، وتطالبهم بتحمل عبء أكبر للدفاع عن أنفسهم ضمن الناتو.

وقد أبدى سياسيون أوروبيون استياءهم من نبرة واشنطن، لكنهم ما زالوا يعتمدون بشكل كبير على الدعم العسكري الأميركي، في حين يعيدون بناء جيوشهم لمواجهة التهديد الروسي.

ووصف تقرير لوكالة "رويترز" (5 ديسمبر 2025) إستراتيجية ترامب بأنها إحياء لمبدأ مونرو وانتقاد لاذع لأوروبا، مما قد يعيد إشعال الشكوك والقلق بين الحلفاء والخصوم بسبب إعادة تقييم العلاقة مع أوروبا.

كما أعرب بعض المعلقين الأوروبيين أن الوثيقة تعكس خطاب الأحزاب اليمينية المتطرفة التي أصبحت المعارضة الرئيسة في ألمانيا وفرنسا ودول أوروبية أخرى.

وذكرت "رويترز" أن واشنطن تطالب أوروبا بتحمل غالبية القدرات الدفاعية التقليدية في حلف شمال الأطلسي، بما في ذلك الاستخبارات والصواريخ، بحلول عام 2027، وهو موعد ضيق عدّه مسؤولون أوروبيون غير واقعي.