الصحافة الألمانية.. كيف تساعد إسرائيل في شرعنة قتل الصحفيين بغزة؟

منذ ٤ ساعات

12

طباعة

مشاركة

عندما يكتب التاريخ عن الإبادة الجماعية الإسرائيلية في قطاع غزة، سيكون هناك محور يُعنَى بدور وسائل الإعلام، وسيكون القسم المخصص لألمانيا طويلا بشكل محرج.

هذا ما انتهت إليه صحيفة “الدياريو” الإسبانية في رصدها لطبيعة التغطية الإعلامية الألمانية التي تحرص على تبرير كل جرائم إسرائيل وتبرئتها منها منذ بدء العدوان على غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

أمثلة حية

وقالت الصحيفة: إن مقتل الصحفيين في غزة يظهر حقيقة واحدة، وهي أن إسرائيل لا تريد أن توثق جرائمها، متسائلة عن دور الصحافة عندما يُعامل الصحفيون الفلسطينيون كإرهابيين، وتتقطع بهم السبل في خضم الحرب.

وقد كان مراسل الجزيرة حسام شبات من بين الأمثلة الصارخة على استهداف إسرائيل للصحفيين؛ حيث قتلته بعد اتهامه بالانتماء إلى حركة المقاومة الإسلامية حماس. 

وأوضحت الصحيفة أن إسرائيل لا تحاول إخفاء جرائم القتل ضد الصحفيين. بل على العكس، غالبا ما تُشوه سمعة ضحاياها مسبقا، مصنّفة الصحفيين "إرهابيين"، وهي اتهامات نادرا ما تُثبت صحتها. 

لهذه الأوصاف هدف واضح: تجريد الصحفيين من صفتهم المدنية وجعل قتلهم يبدو مقبولا أخلاقيا. في المقابل، تؤكد أن الهجمات ضدهم تبقى غير مشروعة، ويعدّ قتلهم جريمة حرب.

وأضافت الصحيفة أن الحادثة الأخيرة خلفت صدمة للعالم؛ إذ قتل خمسة صحفيين من قناة الجزيرة خلال أغسطس/آب بعد قصف خيمة صحفية بمدينة غزة.

كان من بين هؤلاء أنس الشريف الذي أصبح وجهه مألوفا لكل من يتابع الوضع في غزة عن كثب. وقد وجهت نفس الاتهامات الإسرائيلية له على غرار ما حدث مع شبات.

وتجدر الإشارة إلى أن الأمم المتحدة ولجنة حماية الصحفيين قد حذّرتا من أن حياته في خطر، ولكن بعد أسابيع، لقي حتفه.

وبينت صحيفة الدياريو أن هناك إجماعا متزايدا على أن غزة قد تحولت إلى مسرح لإبادة جماعية تُبَثّ على المباشر.

تبرير صارخ

ومع ذلك، في ألمانيا، الدولة التي تفخر باستخلاص دروس تاريخها الحافل بالإبادة الجماعية، أسهمت بعض من أقوى المؤسسات الإعلامية في تسهيل أفعال إسرائيل، بل إن بعض الصحفيين الألمان برر قتل زملائهم الفلسطينيين.

ونوَّهت الصحيفة إلى أن المثال الأكثر وضوحا على تبرير الصحافة الألمانية لأفعال إسرائيل المشينة يتجسد في شركة أكسل شبرينجر، أكبر ناشر في أوروبا ومالك صحيفة بيلد، الأكثر انتشارا في ألمانيا.

فبعد ساعات من إعلان استشهاد الشريف، نشرت بيلد صورته تحت عنوان: "إرهابي متنكر في زي صحفي قتل في غزة"، وفي وقت لاحق، عدل العنوان إلى "الصحفي المقتول يشتبه في كونه إرهابيا".

وقبلها بأسبوع تقريبا، نشرت بيلد تقريرا صحفيا آخر، تحت عنوان: "مصور من غزة ينتج فيديوهات دعائية لصالح حماس". 

وقد وضع المقال المصور الفلسطيني أنس زايد فتيحة، في دائرة الضوء؛ متهما إياه بالتلاعب بصور فلسطينيين يتضورون جوعا في إطار حملة لحماس، رغم وجود أدلة على أن هؤلاء الأشخاص مجوعون بالفعل وينتظرون الطعام.

وفي التقرير، وضعت صفة فتيحة كصحفي، يعمل بانتظام مع وكالة الأنباء الأناضول التركية، بين علامتي اقتباس، مما يوحي بأنه ليس صحفيا حقيقيا وأن صور الجوع مبالغ فيها. 

وأوردت الصحيفة أن الخبر الذي نشرته صحيفة بيلد إلى جانب مقال مماثل في صحيفة زود دويتشه تسايتونغ الليبرالية، سرعان ما استخدمته وزارة الخارجية الإسرائيلية ونشرته على موقع إكس، واستشهدت بهما كدليل على تلاعب حماس بالرأي العام العالمي.

ووُصف فتيحة بأنه "عدو لإسرائيل واليهود" في خدمة حماس. وسرعان ما انضمت مؤسسة غزة الإنسانية، المنظمة المثيرة للجدل والمخصصة لتوزيع المساعدات بعد تهميش الأمم المتحدة، إلى الحملة، إلى جانب شخصيات يمينية مؤثرة.

أداة ترويج

ونظرا لهذه الوقائع، يمكن القول: إن وسائل الإعلام الألمانية تحولت إلى أداة مباشرة للترويج إلى حجة إسرائيل. وعلى الساحة العالمية، استخدمت هذه الرواية لإثبات وجود مؤامرة ضد تل أبيب. 

قبل أيام قليلة من نشر مقالتي صحيفتي بيلد وزود دويتشه، أصدرت رابطة الصحفيين الألمان، إحدى أكبر جمعيات الصحفيين في ألمانيا، بيانا حذرت فيه من "التلاعب بالتصوير الصحفي". 

وشككت تحديدا في صور تظهر أطفالا نحيفين في غزة، مدّعية أن حالتهم "لا تعزى على ما يبدو إلى المجاعة في غزة". ولم تقدم الرابطة أي دليل يدعم هذا الادعاء.

وعلى عكس المتوقع، أثار بيان رابطة الصحفيين الألمان ردود فعل غاضبة على شبكات التواصل الاجتماعي. 

وردا على ذلك، استشهدت الرابطة بمقال نُشر في يوليو/تموز في صحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونغ، تكهّن فيه كاتبه بما إذا كانت صور الأطفال الهزيلين في غزة ناجمة بالفعل عن المجاعة أم عن أمراض سابقة كالتليف الكيسي. 

وألمح المقال إلى أن المنشورات كانت مهملة أو متلاعبة بنشرها هذه الصور دون مزيد من التفاصيل.

في المقابل، أغفلت حجتهم حقيقة أنه لا يمكن الفصل بوضوح بين الجوع والأمراض السابقة في هذه الظروف، وأنه لا يمكن لأي حالة سابقة بمفردها أن تُسبب ضعفا شديدا كالذي يظهر في صور الأطفال والرضع.

ونوهت الصحيفة إلى أن هذا التحيز ليس جديدا في المشهد الإعلامي الألماني. ففي أكسل سبرينغر، يأتي دعم وجود دولة إسرائيل في المرتبة الثانية ضمن قائمة المبادئ التوجيهية للشركة، وتتوافق تماما مع خطها التحريري. 

كذب وتحريف 

وفي سبتمبر/أيلول 2024، أسهمت صحيفة بيلد في إفشال مفاوضات وقف إطلاق النار بنشرها تقريرا "حصريا" يتضمن مقتطفات من إستراتيجية حماس سربها مستشارو بنيامين نتنياهو إليها. 

وفي هذا التقرير، زعمت بيلد أن حماس "لم تكن تنوي إنهاء الحرب بسرعة"، مبرئة نتنياهو بوضوح من أي مسؤولية عن فشل المفاوضات آنذاك.

ومثلما اتضح في وقت لاحق، وبحسب برنامج بانوراما على إذاعة إيه آر دي، فقد حرّفت صحيفة بيلد وثيقة حماس بشكل واسع بحذف أجزاء جوهرية منها. 

كان التوقيت مثاليا لنتنياهو: فقد انتشر الخبر في الوقت الذي كانت فيه الاحتجاجات الحاشدة تهدد منصبه.

 وبعد نشر تقرير بيلد بوقت قصير، تحول إلى وسيلة بيد نتنياهو في اجتماع حكومي لتصوير المتظاهرين على أنهم أدوات لحماس. ولا يزال مقال الصحيفة منشورا على موقعها الإلكتروني دون أي تصحيحات.

ومع ذلك، تتجاوز المشكلة بكثير صحيفتي بيلد وأكسل سبرينغر. ففي معظم وسائل الإعلام الألمانية السائدة، يعدّ عدم تقديم تغطية متوازنة وقائمة على الحقائق لإسرائيل وفلسطين أمرا شائعا، وهو ما أصبح جليا بعد هجمات السابع من أكتوبر. 

ولا تزال مزاعم كاذبة، مثل أن حماس قطعت رؤوس 40 رضيعا، إلى جانب معلومات مضللة أخرى متعمدة، دون تصحيح.

وتُغفل وسائل الإعلام الألمانية، من مختلف الأطياف السياسية، السياق التاريخي باستمرار. وتقدم وفيات الفلسطينيين بعبارات سلبية وغير مُسَيّسة، وتبدي ثقة شبه عمياء "بالتحقق" العسكري الإسرائيلي، متجاهلة تاريخا موثقا من التضليل الإعلامي من مصادر حكومية إسرائيلية.

وأشارت الصحيفة إلى أن مثل هذه الروايات الشائعة في المشهد الإعلامي الألماني تسهم في تقويض مصداقية الصحفيين الفلسطينيين، وفي أسوأ الأحوال، تزوّد إسرائيل بمبررات كاذبة لمهاجمتهم.

وفي جميع الأحوال، تحرص ألمانيا على الوفاء بوعد "عدم تكرار ذلك أبدا"، نظرا لتاريخ البلاد العريق في الإبادة الجماعية.

 ومع ذلك، يبدو هذا الوعد أجوفا عندما تبرئ وسائل الإعلام الرئيسة في البلاد مرتكبي المجازر الجماعية في غزة أو تقدم دعاية لإضفاء الشرعية عليها. 

هذه ليست صحافة في خدمة الحقيقة، بل هي في خدمة العنف، ويتطلب كسر هذه الحلقة المفرغة دراسة جادة للثقافات التحريرية والولاءات السياسية التي سمحت بتسليح الصحافة الألمانية بهذه الطريقة، وفق الصحيفة الإسبانية.