بين التوغل البري والتصعيد الجوي الإسرائيلي.. إلى أين يتجه الجنوب اللبناني؟

أصدر الرئيس اللبناني جوزيف عون توجيهات مباشرة إلى قائد الجيش بالتصدي لأي توغل إسرائيلي جديد في جنوب البلاد
في حادثة وُصفت بأنها الأخطر منذ توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 2024، توغّلت قوّة إسرائيلية فجر الخميس 30 أكتوبر/تشرين الأول 2025 داخل الأراضي اللبنانية لمسافة تجاوزت الألف متر، ونفّذت عملية اغتيال استهدفت موظفا مدنيا في بلدية بليدا الواقعة في قضاء “مرجعيون” جنوب لبنان.
ووفقا لوكالة الأنباء اللبنانية الرسمية، بدأ التوغّل عند الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل؛ حيث اقتحمت القوة مبنى البلدية وقتلت الموظف البلدي إبراهيم سلامة داخل مكتبه. واستمرّت العملية حتى قرابة الساعة الرابعة فجرًا، فيما أفاد سكان البلدة بسماع صرخات واستغاثات من داخل المبنى قبل انسحاب القوة الإسرائيلية باتجاه الحدود.
عقب العملية، دخل الجيش اللبناني إلى الموقع قرابة الرابعة والنصف فجرًا، وبمساعدة عناصر الدفاع المدني جرى نقل جثة سلامة إلى المستشفى الحكومي في مرجعيون، وسط تنديد شعبي ورسمي بالخرق الذي وصفته الوكالة بأنه "اعتداء خطير وغير مسبوق على السيادة اللبنانية".
تصعيد جوي متزامن
بعد ساعات قليلة من عملية التوغّل، وتحديدًا عند التاسعة صباحًا من اليوم نفسه 30 أكتوبر، شنّ الطيران الحربي الإسرائيلي سلسلة غارات جوية استهدفت مناطق عدّة في الجنوب اللبناني، من بينها المحمودية والجرمق قرب العيشية (قضاء جزين)، وسهل الميدنة في كفررمان.
وأدّت الغارات إلى انفجارات ضخمة استمرت حتى منتصف النهار، فيما زعمت تل أبيب أن الهجمات استهدفت بنى تحتية ومنصّات صواريخ تابعة لحزب الله.
وتأتي هذه العملية ضمن سلسلة من الخروقات الميدانية الإسرائيلية المتكرّرة منذ اتفاق وقف إطلاق النار، بعد الحرب الشاملة التي اندلعت بين إسرائيل وحزب الله في 8 أكتوبر 2023، إثر توسّع المواجهات على الحدود عقب اندلاع حرب غزة.
ومنذ ذلك التاريخ، وثّقت الجهات اللبنانية والدولية أكثر من 4500 خرقٍ بري وجوي وبحري، أسفرت عن مقتل أكثر من 4000 لبناني وإصابة نحو سبعة عشر ألفًا آخرين، في حين تؤكّد تقارير ميدانية أن الجيش الإسرائيلي ما يزال يحتل خمس تلال جديدة في الجنوب إلى جانب مناطق لبنانية أخرى يسيطر عليها منذ حرب عام 2006.

لبنان يأمر جيشه بالتصدي
وأصدر الرئيس اللبناني جوزيف عون توجيهات مباشرة إلى قائد الجيش بالتصدي لأي توغّل إسرائيلي جديد في جنوب البلاد، وذلك عقب العملية الإسرائيلية داخل بلدة بليدا.
ورغم أن الجيش اللبناني ظل تاريخيا خارج المواجهات المباشرة مع إسرائيل منذ نهاية حرب 2006، فإنّ خطوة الرئيس عون تُعدّ الأولى من نوعها منذ تولّيه الرئاسة في يناير/كانون الثاني 2025، ما يعكس تصاعد مستوى التوتر الميداني والسياسي في البلاد.
وأفاد شهود عيان بأن طائرات حربية إسرائيلية حلّقت فوق القصر الرئاسي في بعبدا بعد ساعات من صدور أوامر الرئيس بالتصدي لأي توغّل جديد، في مشهد فسّره مراقبون بأنه رسالة ضغط إسرائيلية مباشرة تعكس هشاشة الهدنة القائمة.
لا سيما أنّ القرار الرئاسي لقي ترحيبًا فوريًا من حزب الله، في حين أظهرت تفاعلات اللبنانيين على مواقع التواصل الاجتماعي موجة قلق متزايدة من انزلاق البلاد إلى مواجهة جديدة مع إسرائيل، خصوصًا في ظلّ تكثيف الغارات الجوية الإسرائيلية خلال الأيام الأخيرة على مناطق الجنوب.
تصعيد الاحتلال
في المقابل، صعّد المسؤولون الإسرائيليون لهجتهم تجاه بيروت. إذ قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو –المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية– إنّ حزب الله "يتلقى ضربات متتالية لكنه يحاول إعادة بناء قدراته". مضيفًا أنّ "إسرائيل لن تسمح للبنان بأن يتحوّل إلى جبهة جديدة ضدها"، مطالبًا الحكومة اللبنانية بـ"تنفيذ التزاماتها في اتفاق وقف إطلاق النار ونزع سلاح حزب الله".
من جانبه، كرّر وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس الاتهامات ذاتها، ويرى أنّ "الرئيس اللبناني يماطل، وحزب الله يلعب بالنار". متوعّدًا بـ"مواصلة تطبيق أقصى درجات الصرامة" ضد أي تهديد في الشمال.
في المقابل، شدّد الرئيس جوزيف عون على أنّ لبنان "لا يملك خيارًا سوى التفاوض"، مضيفًا أنّ "كل الحروب تنتهي بالمفاوضات، وهي بطبيعتها تُجرى مع العدو لا مع الصديق".
وقد فُسرت تصريحات عون على أنها دعوة إلى تجنّب الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، مع الحفاظ على حق لبنان في الدفاع عن أراضيه.
غارات مكثفة
وفي 6 نوفمبر/تشرين الثاني 2025، عاد جيش الاحتلال وشنّ غارات جوية مكثّفة على مناطق واسعة في جنوب لبنان، بعد ساعات من إصدار تحذيرات عاجلة للسكان بإخلاء مواقع محدّدة.
وقال الجيش الإسرائيلي في بيان: إن الهجمات استهدفت مواقع يُعتقد أن حزب الله يعيد فيها بناء قدراته العسكرية، بينما نقلت وكالة الأنباء اللبنانية الرسمية أن الدفاع المدني اللبناني تدخّل لإجلاء السكان من عدة قرى حدودية بعد صدور التحذيرات.
ونشر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي عبر منصة "إكس" ثلاثة تحذيرات إخلاء متزامنة، تضمنت خرائط تُظهر أبنية مستهدفة في قرى عيتا الجبل والطيبة وطير دبا.
وفي وقت لاحق، أصدرت إسرائيل تحذيرين إضافيين لبلدتين أخريين تبعدان بين أربعة كيلومترات و24 كيلومترًا عن الحدود مع فلسطين المحتلة، مطالبة السكان بالابتعاد لمسافة لا تقل عن 500 متر عن المواقع المحددة.
وبعد نحو ساعة من تلك التحذيرات، بدأت الغارات الجوية الإسرائيلية، ما أدّى إلى تصاعد أعمدة كثيفة من الدخان في سماء الجنوب. وأعلنت وزارة الصحة اللبنانية أنّ شخصًا قُتل جراء تلك الغارات.

اتفاق هش
هدّد مسؤولون إسرائيليون باتخاذ إجراءات حاسمة إذا لم تكثّف الحكومة اللبنانية جهودها لنزع سلاح حزب الله وإبعاده عن الشريط الحدودي، في حين عبّر مسؤولون محليون لبنانيون عن قلقهم من الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة.
وقال رئيس بلدية طير دبا، فريد نحنوح، في تصريح لوكالة الأنباء اللبنانية: نحن في وضع خطير جدًا، إذا استمرت الأمور بهذا الاتجاه فمعنى ذلك أنه لا أمل، ولا أحد يعرف إلى أين يمكن أن تصل العواقب".
ورغم أنّ إسرائيل كثفت خلال العام الماضي غاراتها الجوية على مواقع تزعم أنها تابعة لحزب الله في الجنوب اللبناني، فإن إصدار تحذيرات إخلاء مسبقة يعدّ سلوكا جديدا وغير مسبوق، ما يثير تساؤلات حول نية تل أبيب في توسيع نطاق العمليات أو التمهيد لجولة عسكرية جديدة.
ويرى مراقبون أن التصعيد الأخير يعكس فشل جهود التهدئة التي قادتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة خلال الأشهر الماضية، وأن اتفاق وقف النار الهش بات على وشك الانهيار في ظل تبادل الرسائل النارية بين الجانبين.
رسالة حزب الله
وجّه حزب الله رسالة مفتوحة في 6 نوفمبر إلى كلٍّ من رئيس الجمهورية اللبنانية جوزيف عون، ورئيس الحكومة نواف سلام، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، أعلن فيها رفضه أي استدراج للبنان نحو تفاوض سياسي مع إسرائيل، مؤكدًا في المقابل "حقه المشروع في مقاومة الاحتلال".
وجاءت الرسالة بالتزامن مع تصاعد التوتر الميداني في الجنوب اللبناني، وما تبع ذلك من دعوات غربية لإحياء مسار سياسي جديد بين بيروت وتل أبيب في ظل الانتهاكات المتكرّرة لوقف إطلاق النار.
وأوضح حزب الله في رسالته أن إسرائيل لم تلتزم باتفاق وقف إطلاق النار، الذي جاء تنفيذًا للقرار الدولي رقم 1701 الصادر عام 2006، القاضي بانسحاب القوات الإسرائيلية إلى ما وراء الخط الأزرق، وإخلاء المنطقة الواقعة جنوبي نهر الليطاني من السلاح والمسلحين.
وأكّد الحزب أنّ الرسالة تأتي في إطار "تعزيز وحدة الموقف اللبناني في مواجهة العدوان والانتهاكات المستمرة، وقطع الطريق أمام محاولات استدراج الدولة اللبنانية إلى مفاوضات جديدة يرى أنها لن تخدم سوى المصالح الإسرائيلية".
وأضاف البيان أن لبنان، ومعه حزب الله، التزم فعليًا بمضمون اتفاق وقف النار منذ صدوره، في حين واصلت إسرائيل خروقاتها البرية والبحرية والجوية دون توقف.
واتهم الحزب إسرائيل بممارسة الابتزاز السياسي والعسكري من خلال طرح شروط تهدف إلى فرض اتفاق سياسي جديد ينتزع اعترافا لبنانيا بمصالحها في المنطقة.
وفي ما يتعلق بملف حصرية السلاح بيد الدولة اللبنانية، أكّد حزب الله أنّ هذا الموضوع "لا يُناقش استجابة لضغوط خارجية أو ابتزاز إسرائيلي"، بل يتم فقط ضمن "حوار وطني شامل يهدف إلى وضع إستراتيجية متكاملة للدفاع والأمن وحماية السيادة الوطنية".
وانتقد الحزب ما وصفه بـ"القرار الحكومي المتسرّع" حول حصرية السلاح، ويرى أنه قُدّم خطأ كعربون حسن نية تجاه إسرائيل، الأمر الذي استغلّته تل أبيب للمطالبة بنزع سلاح المقاومة كشرط لوقف العمليات العسكرية، وهو –بحسب البيان– ما لم يرد في إعلان وقف إطلاق النار ولا يمكن فرضه أو القبول به.
وتأتي رسالة حزب الله في وقت تتزايد فيه الضغوط الدولية على بيروت لضبط نفوذ الحزب ونزع سلاحه، ما يجعل من الرسالة موقفا سياسيا ورسالة تحدٍّ مزدوجة إلى الداخل اللبناني، بتأكيد تمسّكه بخيار المقاومة، وإلى الخارج، برفض أي تسوية تُعدّ إملاء أو جزءا من ترتيبات ما بعد الحرب.

معادلة جديدة
يرى الأكاديمي اللبناني الدكتور محمد عطوي أن رسالة حزب الله الأخيرة جاءت لتؤكّد بشكل قاطع أن الحزب غير مستعد لتسليم سلاحه، وغير منخرط في أي مسار تفاوضي مع إسرائيل، وماضٍ في خيار المقاومة رغم كل الضغوط الداخلية والخارجية.
ويضيف عطوي في حديثه لـ"الاستقلال" أن البيان الصادر عن الحزب يعكس مأزقًا أعمق يعيشه لبنان اليوم؛ إذ "لم يعد البلد يواجه ندرة في الخيارات، بل انعدامها تمامًا"، في ظل لحظة تحوّل تاريخية تعصف بالمنطقة وتعيد تشكيل التوازنات السياسية والأمنية فيها.
ويشرح عطوي أن حزب الله، الذي كان فاعلا إقليميا مؤثرا بين عامي 2006 و2024، خرج تدريجيا من تلك المعادلة بعد تبدّل موازين القوى وانتهاء مرحلة الردع التي كان يوفّرها سلاحه عقب خسارته في الحرب الأخيرة مع إسرائيل.
ويطرح عطوي تساؤلا جوهريا حول جدوى استمرار الحزب في الاحتفاظ بسلاحه في ظل واقع لبناني وإقليمي جديد "يفرض مقاربة مختلفة لا تقوم على فائض القوة، بل على إعادة تعريف الأمن والسيادة من منظور وطني شامل".
ويشير إلى أنّ خطة إسرائيل منذ بداية العمليات العسكرية الأخيرة تقوم على تغيير قواعد الاشتباك في الجنوب اللبناني بالكامل، عبر فرض معادلة أمنية جديدة تُحيّد الجنوب وتفصله عن نفوذ حزب الله، حتى لو كان ذلك على حساب الدولة اللبنانية نفسها.
ويقول: إن "الرسالة الإسرائيلية واضحة: أي مفاوضات مستقبلية مع لبنان ستُجرى تحت النار، لا تحت المظلة الدبلوماسية"، في محاولة من تل أبيب لفرض نزع سلاح حزب الله بالقوة بدل الحوار أو التفاهمات السياسية.
ويرى عطوي أنّ تحميل الدولة اللبنانية وحدها مسؤولية التصدي لهذا التصعيد يتناقض مع الواقع؛ لأن حزب الله مكوّن من نسيج الدولة نفسها، ولا يمكن فصله عنها أو التعامل معه كجسم موازٍ.
ومع ذلك، يؤكّد أنّ ضعف الإرادة السياسية في لبنان لا يعني غياب الخيارات تمامًا، فالمقاومة –كما يقول– "ستبقى تربط قراراتها بتقدير الموقف الميداني والسياسي لا بالضغوط الخارجية"، معتبرًا أنّ "مستقبل الجنوب اللبناني سيُحسم في ميدان التوازنات لا في قاعات التفاوض".
المصادر
- الجيش الإسرائيلي ينفذ عملية في بلدة بليدا جنوب لبنان وينسحب بعد ساعتين
- رئيس لبنان: استمرار الاحتلال الإسرائيلي يعرقل خطة حصر السلاح
- إسرائيل ـ لبنان: مفاوضات تحت النار؟
- في رسالة موجهة إلى الرئاسة والحكومة حزب الله يرفض أي استدراج للبنان للتفاوض مع إسرائيل
- نزع السلاح أم حماية الوطن؟.. جدل لبناني على المنصات بعد الغارات الإسرائيلية














