السياسة لحزب الله والاقتصاد لفرنسا.. صفقة فاسدة تفضحها خدمات لبنان البريدية

مصطفى العويك | منذ ٨ أشهر

12

طباعة

مشاركة

الاهتمام الفرنسي بلبنان ليس وليد اللحظة بطبيعة الحال، إنما نتاج علاقات طويلة بين البلدين، ترتفع وتيرتها وتنخفض وفقا لأهواء ومصالح الحكام الفرنسيين بصفتهم الطرف الأقوى والأكثر قدرة على تحديد بوصلة العلاقة.

وجديد هذه العلاقة محاولات باريس المستميتة في السيطرة على القطاعات التجارية المختلفة في لبنان.

ففي 15 سبتمبر/ أيلول 2023، نسف ديوان المحاسبة "صفقة تلزيم الخدمات والمنتجات البريدية في لبنان" والتي تضمنت تسليم القطاع وأرباحه لمدة 9 سنوات إلى تحالف شركتي Merit invest - Colis Privé، المملوك للملياردير الفرنسي من أصول لبنانية المقرب لإيمانويل ماكرون، ردرولف سعادة، وذلك بعد أن رأى في تقريره أن "المزايدة فصلت على قياس عارض واحد". 

وهذه المحاولة هي الثالثة من نوعها لوزير الاتصالات لمنح القطاع إلى سعادة الذي ذاع صيته محلياً بشكل كبير في السنوات الأخيرة. 

وتشير التسريبات والتقارير الإعلامية إلى أن سعادة يعمل على تنفيذ أجندة فرنسية بالسيطرة على عدد من القطاعات الاقتصادية والخدماتية. 

قطاع مربح

وكانت شركة "ليبان بوست"، المملوكة لرئيس الحكومة نجيب ميقاتي، تسيطر على هذا القطاع المربح منذ حوالي 25 سنة، من خلال عمليات تمديد وتحايل على القوانين. 

بيد أن وزارة الاتصالات قررت هذه المرة الالتزام بالقانون والتوصيات القضائية العديدة التي صدرت. 

وتشير التسريبات والتقارير الإعلامية إلى أن ذلك ليس حبا بالقانون، ولا التزاماً بمحاربة الفساد، إنما الهدف من كل ذلك منح القطاع للفرنسيين. 

وهذا ما عاد وأكده التقرير الصادر عن ديوان المحاسبة، الذي رأى أن عملية كانت مفصلة على قياس عارض وحيد. 

وأتى التقرير مطابقاً لتقرير هيئة الشراء العام، وهي المنوط بها قانونا الرقابة على المناقصات والمزايدات الحكومية. 

هذا العارض الوحيد ما هو إلا تحالف مكون من شركتين، "ميريت إنفست" اللبنانية، "كوليه بريفه فرانس الفرنسية" "colis prive France". 

وكلتاهما مملوكة لشركة "CMA CGM" الفرنسية التي يرأس مجلس إدارتها رجل الأعمال الفرنسي – اللبناني رودولف سعادة. 

المزايدة الأولى أجريت في فبراير/ شباط 2023، ولم يتقدم إليها أحد. 

ثم أجريت الثانية في مارس/ آذار 2023 وفاز فيها العارض الوحيد بعقد التزام قطاع البريد لمدة 9 سنوات. 

لكن هيئة الشراء العام أبطلت عملية التلزيم، بعد أن وثقت مخالفات جوهرية في قبول عرض" لا يراعي المقتضيات التي وضعتها الإدارة في دفتر الشروط الخاص بالتلزيم، ويضر بالمال العام". 

وتكرر الأمر في المزايدة الثالثة في يوليو/ تموز 2023، بعد أن قامت وزارة الاتصالات بتعديل دفتر الشروط كي يصبح ملائما مع العارض الوحيد إياه. 

وقد تقدم وزير الاتصالات جوني القرم بطلب إلى الحكومة اللبنانية في 3 أغسطس/ آب 2023 من أجل تفويضه التوقيع على مشروع المزايدة ومستنداته. 

وتبين الصحفية ندى أيوب في مقال لها بصحيفة "الأخبار" اللبنانية في 3 أغسطس/ آب 2023 أن وزير الاتصالات يطلب منحه صلاحيات يملكها أساساً بموجب القانون".

وتلفت إلى أن "ما يثير الاستغراب، هو أن المزايدة لم تنل بعد موافقة ديوان المحاسبة المسبقة عليها، وهي موافقة ملزمة وفق القانون". 

وتشير أيوب إلى أن قرم يحاول من خلال هذه الخطوة الضغط على ديوان المحاسبة قبل إصدار تقريره. 

وذلك عائد بحسب أيوب إلى الطعون التي تقدمت بها شركات أخرى كانت تسعى للفوز بالمزايدة أمام مجلس شورى الدولة اللبناني.

وهذه الشركات هي "غانا بوست"، و"سي كوم هولدنغ"، وكذلك "تراست ترايدينغ" المتحالفة مع "دي إتش أل"، مع اعتراض شفهي من شركة "بريد مصر". 

وفي الإطار عينه، تشير الصحفية رلى إبراهيم إلى أن "ديوان المحاسبة أجرى تحليلاً مالياً لبنود تقاسم الأرباح الذي حددته وزارة الاتصالات، وتبين له أن الخزينة ستتكبد خسارة بقيمة 5 ملايين دولار". 

وتضيف في تقرير نشرته صحيفة "الأخبار" اللبنانية في 15 سبتمبر/ أيلول 2023 أن "التقرير يستند بشكل أساسي إلى التقرير الأساسي الصادر عن هيئة الشراء العام بشأن هذه المزايدة. 

إلا أنه كان أكثر جرأة لجهة توصيف التواطؤ بين وزارة الاتصالات والشركة التي فازت بالمزايدة". 

وتمضي تقول "لم يكتفِ التقرير (ديوان المحاسبة) بنسف نتيجة المزايدة، بل أطاح أيضا بدفتر الشروط. 

إذ لم يعد ممكنا إجراء المناقصة من دون تعديلات تلغي البنود التي ضمنت فوز هذا العارض الوحيد وأتاحت إقصاء منافسيه". 

وحسب إبراهيم "يشير ديوان المحاسبة بما لا لبس فيه إلى أن وزير الاتصالات متواطئ مع الشركة ومع موظفين آخرين في الوزارة بمخالفة القانون لتمكين الشركة من الفوز بالمزايدة على حساب مصلحة الدولة". 

فضلا عن مخالفة أخرى تتمثل بقصر المدة الفاصلة بين الإعلان التلزيم وتنفيذه "ما حال دون تمكن بعض الشركات من تحضير عروضها وتقديمها".

الإمبراطور الفرنسي

رودولف سعادة هو رجل أعمال فرنسي، يمتلك إمبراطورية "CMA CGM" للشحن البحري ورثها عن والده اللبناني ذي الجذور السورية. 

يشير تقرير لصحيفة "العربي الجديد" من إعداد الصحفي مصطفى قماس، ونشر في 8 يناير/ كانون الثاني 2023 إلى أن سعادة "أضاف إلى ثروته عام 2022 نحو 10.9 مليارات دولار، لتقدر ثروته بنحو 16.9 مليار دولار". 

وبذلك فقد احتل المركز الـ88 في قائمة أثرى أثرياء العالم، وفقا لمؤشر "بلومبرغ" للمليارديرات حول العالم". 

كما يشير التقرير إلى أن "شركة "CMA CGM" تتربع في المرتبة الثالثة عالميا على صعيد النقل البحري والحاويات، بعد شركتي "MSC" الإيطالية، و"ميرسك" الدنماركية". 

ورغم أنها تعرضت لأزمة مالية كبيرة، إلا أنها نجحت في تجاوزها خلال السنوات الثلاث الأخيرة، وتحقيق قفزات كبيرة مستفيدة من ارتفاع الطلب على النقل البحري بفعل عوامل عديدة. 

بيد أن العامل الحاسم في خروج الشركة من أزمتها حسب التقرير كان "القرض الذي حصلت عليه بقيمة 1.05 مليار يورو من قبل الدولة الفرنسية في ظل التداعيات الأولى لوباء كورونا. وبعد هذه المساندة الحكومية تبدل حال الشركة في غضون أشهر قليلة". 

ويبين التقرير أنه "بين 2020 و2022، أضحى سعادة وحده صاحب ثالث ثروة في فرنسا". 

ويعد سعادة من المقربين من دوائر الإليزيه، ومن الدائرة الضيقة لرجال الأعمال المتحلقين حول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وأحد أذرعه الاقتصادية. 

لذلك رافقه في رحلاته المتعددة إلى لبنان، لا سيما منذ انفجار ميناء بيروت في أغسطس/ آب 2020، وما تسرب بعدها من شراهة فرنسية للسيطرة على العديد من القطاعات الاقتصادية في لبنان. 

وتعليقا على المشهد، يشير الإعلامي أحمد الأيوبي إلى توافق بين حزب الله المهيمن على قرار الدولة اللبنانية، وبين الإدارة الفرنسية. 

حيث يقوم الأول بتسهيل حصول الشركات الفرنسية على القطاعات اللبنانية، مقابل تسهيل الثانية لحزب الله توطيد وإحكام سيطرته على الدولة، والإتيان برئيس جمهورية غير معاد له. 

ويضيف الأيوبي لـ"الاستقلال": وهذا ما يفسر الإصرار الفرنسي على دعم ترشيح الوزير الأسبق سليمان فرنجية لرئاسة الجمهورية حتى الآن، وهو مرشح حزب الله. 

وذلك على الرغم من حجم المعارضة السياسية والمسيحية خصوصاً، وعدم قدرة دوائر الإليزيه ومستشاري ماكرون على تأمين نصاب الثلثين لانتخابه. 

ويفسر أيضاً إصرار وزير الاتصالات جوني القرم، وهو ممثل فرنجية في الحكومة، على منح قطاع البريد لشركة فرنسية. 

ويتابع: وقد سهل حزب الله حصول فرنسا على امتياز التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية من خلال شركة "توتال" الفرنسية، ومن ثم عبر تسهيل حصول ترسيم الحدود البحرية. 

كما أنه سهل عبر أحد ممثليه في الحكومة، وزير الأشغال العامة، علي حمية الذي يحمل الجنسية الفرنسية، حصول شركة "CMA CGM" على عقد إدارة رصيف الحاويات في مرفأ بيروت، وكذلك مرفأ طرابلس، كونه وزير الوصاية على الموانئ. 

ابتلاع لبنان

في 5 أبريل/ نيسان 2023 نشرت صحيفة "المدن" الإلكترونية مقالاً للصحفية المتخصصة بالاقتصاد عزة الحاج حسن بعنوان " إمبراطورية "CMA - CGM" تبتلع لبنان: من المرافئ للبريد للزراعة للمكسرات". 

تقول الحاج حسن إن هذه الإمبراطورية "منذ بداية الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019 نراها تتنقل بين قطاع وآخر، تبرم العقود وتعقد الصفقات للاستثمار في شتى المجالات".  

وتعدد هذه القطاعات "من إدارة الموانئ والنقل البحري، إلى البريد، والتوضيب الزراعي، والتصدير، والخدمات الرقمية، وإنتاج المكسرات وغير ذلك. 

وقد نشهد لاحقا دخول "CMA - CGM" إلى المطار وقطاع الإعلام وربما الرياضة". 

وتشير الحاج حسن إلى أن رئيس مجلس إدارة هذه الشركة رودولف سعادة" يرتبط بعلاقات وثيقة مع رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي أثمرت عقودا وشراكات في قطاع البريد ومرفأ طرابلس، ويجرى العمل على ترجمتها في قطاعات أخرى". 

كما تلفت إلى قرب سعادة من الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ومرافقته له في زياراته إلى لبنان. 

وتتوقف عند نقطة مهمة، وهي استغلال الشركة للأزمة في لبنان من أجل الحصول على الشركات والقطاعات الاقتصادية والخدمية بـ"أسعار محروقة". 

وتشير إلى أن الشركة نفسها "أطلقت عام 2022 برنامجاً خاصاً لتقديم المنح الجامعية للطلاب اللبنانيين يتم من خلاله توزيع 240 منحة للجامعة الأميركية، وجامعة القديس يوسف، على فترة 3 سنوات". 

وتمضي تقول "تضاف إلى هذه المنح 200 منحة دراسية على مدى 10 سنوات للطلاب اللبنانيين الراغبين في متابعة دراستهم في جامعة "HEC Paris" باريس". 

وتلقي الحاج حسن الضوء على "الاختصاصات الجامعية التي تستحوذ الاهتمام الأكبر من الشركة ومنحها الجامعية، بحيث تبين التركيز على "الإدارة والعلوم والاقتصاد والهندسة فقط، واختيار الطلاب وفق معايير دقيقة". 

لتخلص إلى أن مجموعة "CMA - CGM" تؤسس كوادرها البشرية وتستثمر طاقاتها لدعم توسعها في لبنان". 

علاوة على ذلك، فقد أنشأت الشركة من خلال إحدى شركاتها مركزاً لوجستياً متخصص في تطوير الإنتاج الزراعي وتحسين نوعيته بما يتناسب مع مواصفات السوق الأوروبية. 

بالإضافة إلى الاستحواذ عام 2021 على أسهم شركة الرفاعي اللبنانية الرائدة في عالم المكسرات والقهوة، والتي تعد من أبرز العلامات التجارية اللبنانية، ويعود تاريخ تأسيسها الى عام 1948. 

واستغلت الأزمة المالية الخانقة التي تعرضت لها شركة الرفاعي للحصول عليها بثمن بخس. 

ليس ذلك فحسب، إذ أنشأت مجموعة "CMA - CGM" مركزاً للخدمات الرقمية عام 2019 في بيروت. 

وبحسب الحاج حسن فإن المركز هدفه تلبية حاجات الشركة وتطوير المشاريع الرقمية للمجموعة. 

وتنقل عن الشركة أنها "نجحت في توفير 800 وظيفة في عامين، حيث أصبحت تضم نحو 1000 موظف في لبنان". 

وتشير إلى أن مجموعة "CMA - CGM" تسعى أيضاً لشراء أسهم من شركة "طيران الشرق الأوسط" الرسمية اللبنانية. 

ومحاولتها الاستثمار في توسعة مطار رفيق الحريري في بيروت، وهو المطار الوحيد في البلاد. 

وكذلك سعيها لشراء صحيفة "لوريان دو جور" الفرنسية، وهي الصحيفة الوحيدة الناطقة باللغة الفرنسية، والتي تعد وسيلة إعلامية مهمة ومفضلة عند قسم واسعة من النخب اللبنانية، وبخاصة المسيحية منها.