تراجع الاحتجاجات النقابية لصالح الافتراضية بالمغرب.. ضعف أم تحوّل؟

الرباط ـ الاستقلال | منذ عام واحد

12

طباعة

مشاركة

لم يعد يسمع الشارع المغربي حسا ولا ركزا للنقابات رغم تدهور المعيشة اليومية للمواطنين وارتفاع أسعار أغلب المواد الأساسية، لكنها ما زالت ماضية في غيابها عن ساحة الاحتجاج بصورة لافتة.

وفي 2020 و2021، علقت النقابات أسباب غيابها على مشجب جائحة كورونا، فلم تعد تحتج ولا تحتفل بعيد العمال العالمي مطلع مايو/ أيار، "احتراما لحالة الطوارئ الصحية والإجراءات الاحترازية".

لكن، ها قد عادت الحياة اليومية ومختلف الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إلى وضعها الطبيعي ما قبل جائحة كورونا، فأين اختفت النقابات؟ أم أن شمسها قد أفلت؟

زخم مفقود

وتراجع حضور النقابات العمالية في المشهد الاحتجاجي، خاصة الشعبي، يأتي بشكل غريب تزامنا مع توقيعها اتفاقا مع حكومة عزيز أخنوش للرفع من الدعم المخصص لها بـ30 بالمئة.

هذا الاتفاق الذي تم توقيعه في 30 أبريل/نيسان 2022 بالعاصمة الرباط، وصفه مراقبون آنذاك بأنه "شراء للضمائر"، و"شبهة ترقى إلى رشوة". 

وأمام انحسار الاحتجاج النقابي وتراجع ارتباطه بهموم المواطنين وآمالهم، يلاحظ تصاعد الاحتجاجات الشعبية العفوية وارتفاع وتيرة الاحتجاج الافتراضي في الأيام الأخيرة.

عصام الرجواني، أستاذ علم الاجتماع بجامعة ابن طفيل بالقنيطرة، المهتم بدراسة الحركات الاجتماعية، رأى أن مسألة تراجع الفعل النقابي المؤسساتي تتجه إلى أن تكون ظاهرة عالمية.

وأضاف لـ"الاستقلال"، أن المنظمات الجماهيرية سواء كانت أحزابا أو نقابات، أضحت تفقد بشكل تدريجي مواقعها التقليدية لصالح فاعليات جديدة بعيدا عما اعتدناه من أشكال الانتظام التقليدي. 

وتابع "ولعل هذا الأمر مرتبط في العمق بتحولات ثقافية وسياسية تجاوزت حدود المثالية التي تشكل هوية النقابات والأحزاب السياسية التقليدية"، مبينا أن الأمر هنا مرتبط بطفرة على مستوى الوعي السياسي على أرضية تحولات جيلية مكتملة الأركان".

وإضافة إلى ما سبق، قال الرجواني، "نجد الأثر البنيوي لإستراتيجية الفصل بين النقابي والسياسي والذي أدى في المحصلة لتبعية العمل النقابي وأولوياته لأجندة الفاعل السياسي ومنطقه الخاص".

 وبخصوص النموذج المغربي، رأى أن "أفق العمل النقابي لم يعد يغري مخيال ووجدان فئات واسعة بالنظر للسقف الذي تستظل به النقابات، والذي لا يستجيب لتطلعات فئات اجتماعية واسعة".

وأردف أن "هذا الأمر أفقد هذه المنظمات جاذبيتها السياسية، ما أفقدها دورها الحيوي في تدبير الصراع الاجتماعي، وهو الأمر الذي لعبت فيه الدولة نفسها دورا سلبيا من خلال تدجين النقابات والمؤسسات الحزبية، بالشكل الذي أدى إلى تراجع دورها التأطيري لصالح صيغ وأشكال جديدة".

تراجع أم تحول؟

وإذا كان الرجواني يعد أن تراجع الفعل النقابي المؤسساتي يتجه لأن يكون ظاهرة عالمية، فإن إسماعيل حمودي أستاذ العلوم السياسية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس، يرى بالمقابل أنه من الصعب الجزم بتراجع الفعل الاحتجاجي النقابي. 

ويضيف حمودي لـ"الاستقلال"، أن الظاهر هو أن الفعل النقابي بالمغرب يعرف نوعا من التحول، مبينا أن سمات هذا التحول تتجلى في أنه أصبح احتجاجا مشتتا، فئويا وموسميا.

ويوضح أن السمة الأولى (مشتت) تعني تلاشي السمة المركزية التي كانت تطبع الاحتجاجات النقابية في الثمانينيات والتسعينيات، حين كانت القيادة المركزية هي التي تقود الاحتجاجات.

ويتابع أنه أصبح من النادر أن تقود القيادة النقابية احتجاجات مركزية، مستدركا: غير أن الملاحظ أن الأذرع النقابية في الأقاليم والجهات حاضرة في الفعل الاحتجاجي المناطقي. 

أما السمة الثانية، يقول حمودي، فهي أن الاحتجاج النقابي أصبح فئويا ولم يعد احتجاجا عابرا للفئوية يحتج على سياسة عمومية في مجموعة من القطاعات الحكومية، بل أصبح الأطباء يحتجون وحدهم والأساتذة يحتجون وحدهم، وأحيانا هذه الفئوية تتأسس خارج النقابات. 

ويضيف أن السمة الثالثة هي أنه أصبح احتجاجا موسميا لحظيا ومتقطعا، يكون ناتجا عن سبب ما وفي حال انتفاء السبب يرتفع الاحتجاج النقابي. 

ويعد حمودي أنه من الطبيعي في ظل هذه السمات التي أصبحت تطبع الاحتجاج النقابي أن تدفع المجتمع للبحث عن بدائل أخرى وأشكال جديدة للاحتجاج.

ويسجل أنه في هذا الإطار يأتي الاحتجاج الرقمي عبر استثمار التكنولوجيا في الفعل الاحتجاجي، مسجلا أنه احتجاج في حالة تزايد بالمغرب.

ويشير أستاذ العلوم السياسية إلى أن الاحتجاج الرقمي بالمغرب كانت فيه لحظات بارزة معبرة وقوية من قبيل حملة المقاطعة سنة 2018.

وفي 20 أبريل/نيسان 2018، دشن نشطاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي بالمغرب مقاطعة ثلاث شركات مغربية، "إفريقيا غاز للمحروقات"، و"سيدي علي للمياه المعدنية"، و"سنطرال دانون" للحليب ومشتقاته، ما أدى إلى انخفاض أسهم هذه الشركات في البورصة.

وما يميز الاحتجاج الرقمي، حسب حمودي، هو أنه عابر للفئات وللشرائح الاجتماعية والأيديولوجيات، حيث يشارك فيه الناس عبر هواتفهم.

لذا من الصعب أن تعرف الفئة العمرية أو المهنية أو الأيديولوجية للأفراد المحتجين، وبالتالي فإن الاحتجاج الرقمي يلغي التمايزات التي تكون حاضرة في الاحتجاج النقابي الفئوي، يضيف حمودي.

ويلفت إلى أن الاحتجاج الرقمي، متقطع، عفوي وغير منظم، أي أنه عبارة عن رد فعل على سياسات أو قرارات عمومية، وبمجرد ما يتحقق الهدف أو النتيجة يختفي ويتلاشى كما بدأ أول مرة.

إعلام جديد

من جهته، ذكر أستاذ علم الاجتماع عصام الرجواني، أن الإعلام الجديد ساهم بشكل كبير في تشكل فاعليات جديدة خارج الأنساق والأطر التقليدية.

وأضاف أن الإعلام الجديد ساهم في خلق إمكانيات جديدة للتواصل والتنسيق لم تكن متاحة فيما مضى بالنسبة للحركات الاجتماعية التقليدية، واستثمار إمكانات التعبئة من أجل الفعل والتقاء الإدراك وخلق التوافق ونزع الطابع المحلي عن الأحداث والوقائع المحلية.

وقال الرجواني إن "التعبئة الافتراضية تتصف بالمجانية، والسهلة، واللامحدودية، وغياب القانون، وتجاوز خطاب وسقف النخب، إضافة إلى الفردانية".

وأشار إلى أن عولمة الاتصالات والشبكة العنكبوتية أسهمت في التأسيس لإعلام مجتمعي حقيقي ملتزم بقضايا المجتمع بما هو إعلام ترافعي ومناصر ومواطن.

وتابع: كما ساهمت أيضا في تغيير الثقافة المرجعية السياسية المهيمنة في المجتمع خاصة في ظل التفلت من احتكار الإعلام الموجه.

وأشار  الرجواني إلى أن التدفق العفوي لثقافة الاحتجاج والاعتراض عبر التكنولوجيات الجديدة للإعلام والتواصل أعاد تعريف عدد من المقولات والمفاهيم.

ومضى يقول: من ضمنها الفضاء العمومي حيث نقله من المستوى الدعائي، الذي يخدم الدولة ويشرعن سلوكياتها من خلال سيطرتها على وسائل إنتاج المعنى، ونتحدث هنا عن الإعلام الرسمي، إلى المستوى النقدي بأن صار الفضاء العمومي الافتراضي يمارس سلطة نقدية على الواقع.

يضاف إلى هذا المستوى، وفق الرجواني، الشرط الديموغرافي المرتبط أساسا بخصوصية فئة الشباب التي لها القدرة على ولوج وتطويع الإعلام الجديد والاستفادة من إمكاناته، في ظل ما تعرفه هذه الفئة من إشكالات على مستوى الاندماج الثقافي والسياسي والسوسيواقتصادي.

أزمة ثقة

وأمام عجز النقابات وباقي هيئات الوساطة عن الاستجابة لنبض الشارع المغربي فإن ذلك يفتح المجال أمام احتجاجات شعبية عفوية "غير مؤطرة" قد تنذر بمخاطر كبيرة خاصة أمام غلاء المعيشة والارتفاع القياسي لأسعار المواد الأساسية ما يفتح الباب أمام ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الشعبية. 

أستاذ العلوم السياسية حمودي، عد أن الاحتجاج العفوي هو رد فعل على سلوكات تتسم بالشطط في استعمال السلطة أو رد فعل عن انقطاع أو رداءة خدمات عمومية.

وأضاف أنه احتجاج عفوي بطبيعته، لأنه رد فعل على قرار معين وعفويته مرتبطة بالحاجة لتحسين الخدمات العمومية واستباق مثل هذه التوترات والاحتجاجات التي قد تقع، واستباق أي تدهور أو تدن في الخدمات العمومية التي تهدد السلم الاجتماعي. 

وأرجع تصاعد وتيرة الاحتجاج العفوي إلى تراجع فعالية الوسائط من أحزاب ونقابات ومجتمع مدني، مؤكدا أن هذا الأمر يعبر عن أزمة ثقة في هذه المؤسسات الوسيطة.

وشدد حمودي، على أن ما يزيد في تعميق أزمة الثقة هو أن هذه المؤسسات الوسيطة لا تكلف نفسها القيام بالدور المنوط بها على الوجه الأكمل، وهذا مشكل كبير. 

وخلص إلى أن ضعف الوسائط يجعل السلطة في مواجهة مباشرة مع المواطنين، وعد أن أي انفجار اجتماعي قد يخلق أزمة كبيرة في غياب أو ضعف هذه الوسائط السياسية والاجتماعية والمدنية.

بدوره، نبه أستاذ علم الاجتماع الرجواني، بالقول "صرنا اليوم أمام فعل عفوي يطرح المطالب الاجتماعية والسياسية والثقافية للمجتمع في شكلها الخام في ظل عجز تام لكل الوسائط عن تحويل هذه المطالب لصيغ قابلة للمعالجة".

وأوضح الرجواني أن آلية التحويل السياسي التي من المفروض هنا أن تضطلع بها النقابات والأحزاب السياسية مفقودة ومعطوبة، مما ينذر بتحول دراماتيكي على مستوى تدبير الصراع الاجتماعي.

وسجل أن النقابات والأحزاب السياسية لم تعد لها القدرة اليوم على تحويل الطلب الاجتماعي المتصاعد إلى أرضيات جديدة للتفاوض الاجتماعي والسياسي، وذلك بالنظر إلى ضمور مخيالها السياسي وارتباطها بالأولويات الظرفية للأنظمة والحكومات على حساب ما هو إستراتيجي.