مدارس الأئمة والخطباء.. روح تحفظ تركيا المسلمة وشبح تخشاه المعارضة

رامي صباحي | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

لم يتوقع كثيرون أن "نكتة" قيلت قبل شهور من قبل مغنية على خشبة مسرح في أحد أحياء مدينة إسطنبول التركية، ستعيد إلى البلاد صراعا قديما ترجع جذوره إلى القرن التاسع عشر، بل وحتى سيتجاوز الأمر مئات آلاف الكيلو مترات ليعلق عليه ساسة أجانب.

هذا ما حدث مع مغنية البوب غولشان الشهيرة بـ"مادونا تركيا"، عندما كانت تتحدث مازحة مع فرقتها الموسيقية على المسرح أن السبب وراء "انحراف" أحد أفراد الفرقة هو أنه من خريجي مدارس الأئمة والخطباء.

ورغم أن هذه الحفلة التي صدر بها هذا التعليق نظمت في أبريل/نيسان 2022، فإن هذا المقطع ظهر على منصات التواصل الاجتماعي التركية في الأسبوع الأخير من أغسطس/آب، مفجرا ضجة كبيرة لأيام بين الجماهير، ولا سيما المحافظة منها، إذ أعاد إلى أذهانهم شبحا ظنوا لسنوات أنه تلاشى.

ضجة كبيرة

وعلى خلفية المطالبات الشعبية المتزايدة بالتحقيق معها، أطلق مكتب المدعي العام في إسطنبول تحقيقا ضد غولشان بتهمة "تحريض الناس على الكراهية والعداء والإذلال"، بموجب المادة 216 من قانون العقوبات التركي، وجرى القبض على المطربة في 25 أغسطس.

وغولشان مطربة بوب شهيرة في تركيا وتبلغ من العمر 46 عاما، ودائما ما تثير جدلا في البلاد بسبب ملابسها الفاضحة التي ترتديها في حفلاتها، فضلا عن توجهها المعادي للقيم والداعم للشذوذ الجنسي.

وأثار القبض على غولشان انقساما في البلاد، إذ رأى محافظون أن تصريحاتها إهانة لملايين من خريجي هذه المدارس وتعيد البلاد إلى "عقود الظلام التي كان يُهاجم فيها الإسلام وتُتهم رموزه مثل الأذان والحجاب والمدارس الدينية بالرجعية والانحراف".

في حين وصف تيار آخر يزعم الانفتاح والتحرر هذا الإجراء بأنه "رجعي ومبالغ فيه"، مدعين أن حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان لا تتبنى نفس النهج "القاسي" تجاه مقترفي أي جرم من أنصارها المحافظين.

وبعد أربعة أيام من توقيفها، أطلقت السلطات التركية سراح غولشان، بعد اعتراض قدمه محاميها إلى "محكمة الجنايات الابتدائية"، مع إبقائها "قيد الإقامة الجبرية"، وفق وكالة الأناضول الرسمية.

وفي 12 سبتمبر/أيلول 2022، أعلن إيميك إمري محامي غولشان  أن جرى رفع الإقامة الجبرية عنها لكن مع حظر مغادرتها للبلاد، فضلا عن ضرورة زيارتها لمركز الشرطة أسبوعيا.

وغولشان كانت قد اعتذرت قبيل القبض عليها عبر تويتر لكل من شعر بأن كلماتها أساءت إليه، مؤكدة أنه كان عليها استخدام أسلوب آخر، وادعت في الوقت ذاته أن "البعض استغلوا نكتة" قالتها قبل شهور "لإثارة الانقسام في المجتمع".

ولتبرير سقطتها، قالت في التحقيق الذي نشرته صحيفة "خبر ترك" في 3 سبتمبر، إن أحد العازفين في فرقتها يسمى "معراج إمام"، وخلال حماسها بالحفل، قالت للفرقة مازحة "ارفعوني على أكتافكم وسط الجمهور".

لترد عليها الفرقة، "فليرفعك إمام"، فردت عليهم بتلك الجملة، معربة عن خشيتها من "انحرافه".

وبينما دعت أحزاب المعارضة في أكثر من بيان للإفراج الفوري عن غولشان، أعرب أردوغان الذي يعد نفسه من خريجي مدارس الأئمة والخطباء، عن تضامنه مع المنزعجين من تصريحات المطربة مثيرة الجدل.

وقال أردوغان في خطاب شعبي في 29 أغسطس، دون ذكر اسم غولشان، "أرى أن الاستفزازات ضد أخوتنا ووحدتنا، قد بلغت أبعادا خطيرة لدرجة استهداف أماكن عبادتنا ومدارس الأئمة والخطباء".

وأضاف أن "أولئك الذين يهينون القيم المقدسة لأمتنا لن يتمكنوا من الإفلات من المحاسبة سواء أمام ضمير شعبنا أو أمام القانون".

اهتمام غربي

ورغم أن حادثة توقيف غولشان أمر محلي ومرتبط بخلفيات عميقة في التاريخ التركي، فقد قوبلت بمتابعة كبيرة من قبل أبرز وسائل الإعلام الغربية، التي اجتمعت على مهاجمة الرئيس أردوغان.

وفي أميركا، جاءت في مقدمة مهاجمي موقف السلطات التركية، وكالة بلومبيرغ، وصحيفة نيويورك بوست، وقناتا "أي بي سي نيوز"، و"سي إن إن".

ومن أوروبا، هاجمت أردوغان أيضا صحيفة الغارديان البريطانية، ووكالة يورونيوز الأوروبية، وقناة "دويتشه فيله" الألمانية.

وادعت وكالة بلومبيرغ أن "توقيف غولشان يأتي في إطار جهود حكومة أردوغان لتعزيز دعم قاعدته الشعبية الدينية المحافظة قبل الانتخابات المقبلة في يونيو/حزيران 2023".

"سي إن إن"، من جانبها، زعمت أن "استهداف غولشان من قبل الجماعات التركية المحافظة يأتي بسبب ملابسها المسرحية الكاشفة ودعمها لمجتمع الميم (الشواذ)".

وقالت إن مدارس الأئمة والخطباء، التي تدرس محتويات دينية إلى جانب المناهج التركية، نمت بصورة لافتة في العقدين الأخيرين خلال حكم حزب العدالة والتنمية المحافظ.

من جانبها، قالت الغارديان إن أردوغان والعديد من أعضاء حزبه الحاكم الإسلامي هم من خريجي المدارس الدينية، التي أنشئت في الأصل لتدريب الأئمة، لكن ازداد عددها في عهده، الذي وعد أنه سينشأ فيه "جيلا تقيا".

ونقلت عن المغني التركي الشهير تاركان قوله: "نظامنا القانوني، الذي يغض الطرف عن الفساد واللصوص والذين يستخدمون الدين لاستقطاب المجتمع من خلال أفكارهم المتعصبة قد ألقى القبض على غولشان".

وكان مثيرا أيضا أن واشنطن انضمت لوسائل إعلامها، ونقلت وكالة رويترز الدولية عن متحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية، دون تسميته، تنديده بالخطوة التركية إزاء المطربة غولشان.

وقال المتحدث في 29 أغسطس، إن "الولايات المتحدة لا تزال قلقة من الجهود المبذولة في تركيا لتقييد حرية التعبير عن طريق الرقابة والمضايقات القضائية".

هذه المتابعة الغربية الحثيثة تؤكد أن الأمر لا يتعلق فقط بنكتة أو معضلة حرية التعبير، بل يتجاوز إلى جرح دام في تركيا منذ عشرات العقود، ويساهم بشكل كبير في رسم الخريطة الأيديولوجية والاجتماعية في البلاد.

علاقة حساسة

فعلاقة الدين بالدولة من أبرز المسائل الحساسة في نفوس الأتراك، سواء في عهد الدولة العثمانية حاملة راية الخلافة الإسلامية، أو في حقبة وريثتها بعد الحرب العالمية الأولى، الجمهورية التركية العلمانية الحديثة.

وهو ما ينطبق على ملف مدارس الأئمة والخطباء التي تمتد جذورها إلى العهد العثماني، وكانت مسرحا لأبرز التغيرات الجوهرية التي شهدها المجتمع التركي بالتزامن مع مخاض تأسيس الجمهورية العلمانية.

وعن هذه الجزئية، يقول كتاب "ثانويات الأئمة والخطباء.. الحقائق والأساطير"، للكتاب روشان تشاكر، وعرفان بوزان، وبلقان طالو، إنه "قبل تأسيس الجمهورية التركية، كان المجتمع العثماني يلبي احتياجه من رجال الدين عبر المدارس والمكاتب والتكيات الدينية".

ويضيف: بدأ الجدل يتصاعد حول طرق تنشئة رجال الدين في العقود الأخيرة من العهد العثماني، وقبل تأسيس الجمهورية بسنوات، كان النظام التعليمي ومنظومة القيم قائمة على أساس (تنشئة إنسان مسلم صالح).

ويستدرك: لكن مع تعزيز العلاقات مع الدول الغربية المتقدمة، التي مهدت لإصدار الإصلاحات الدستورية التي عرفت بـ"التنظيمات"، شُرع في تأسيس مدارس مناهجها قائمة على الأسس الغربية.

ومرت التنظيمات بمرحلتين، الأولى عرفت بـ"التنظيمات الخيرية"، وبدأت عام 1839 واستمرت حتى 1876، وتشمل عصري السلطان عبد المجيد الأول والسلطان عبد العزيز الأول.

والمرحلة الثانية تعرف بالمشروطة وتشمل عصر السلطان عبد الحميد الثاني، من عام 1876 إلى 1908.

ويوضح الكتاب أن المؤسسات التعليمية التركية انقسمت حينها إلى جزءين:

- تعليم وفق أسس دينية، ويشمل مكاتب الصبيان (أساسي)، والمدارس (جامعي).

- تعليم وفق أسس غربية، ويشمل المدارس العسكرية والمهنية (مثل المؤسسة الهندسية للقوات البحرية ومكتب العلوم الحربية)، والمؤسسات التعليمية العامة (الرشدية ومكاتب العموم الأدبية).

واستمر الوضع هكذا حتى عام 1913، الذي يعد البداية الحقيقية لما عرف لاحقا بمدارس الأئمة والخطباء، إذ أسست لتخريجهم عبر الدمج بين مدارس الواعظين ومدارس الإرشاد، وكان لهؤلاء دور بارز في المجتمع.

ومع الوقت بدأت تتضاءل أهمية مدارس الأئمة والخطباء، مع تزايد التهم الموجهة لها من قبيل "الرجعية، وعدم مواكبة العصر"، فضلا عن وصفها من قبل تيارات تدعي الانفتاح بأنها من أهم أسباب انحدار الدولة العثمانية وخسارتها معظم أراضيها.

ومع تأسيس الجمهورية التركية في 1923 على أنقاض الدولة العثمانية وإلغاء الخلافة، بدأ مسلسل انهيار سريع لمدارس الأئمة والخطباء وكل مظاهر التدين في تركيا، لصالح القيم والمؤسسات العلمانية الجديدة.

وانخفض عدد المدارس من 29 إبان تأسيس الجمهورية، لتصل إلى اثنتين فقط عام 1929، ثم ألغيت بالكامل عام 1930، بحجة "عدم الإقبال عليها"، لا التضييق الممنهج ضدها وكل المحافظين.

صحوة مفصلية

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية، وانضمام تركيا إلى التكتل الغربي الداعم للقيم الديمقراطية التعددية، انتقلت البلاد من سلطة الحزب الواحد (الشعب الجمهوري) إلى التعددية الحزبية.

فجرى تأسيس الحزب الديمقراطي لينخرط في الانتخابات عام 1950، ويفوز بها، ويصبح رئيس الحزب عدنان مندريس الذي وعد بإصلاحات جوهرية رئيسا للوزراء.

وعقب شهر واحد من انتخابه، أعاد مندريس تلاوة الأذان باللغة العربية بدلا من التركية، وبدأت المساجد تستعيد دورها، بعد الصورة السيئة التي ألحقت بها لعقود، فسمح بتعليم القرآن وإلقاء المواعظ من جديد.

وفي سنة 1951 أعاد مندريس فتح مدارس الأئمة والخطباء، في خطوة كانت لها رمزية كبيرة في نفوس الشعب التركي، ما زاد من شعبيته بصورة كبيرة.

وفي أحد خطاباته، قال مندريس "لم نوفر الغذاء للمحتاجين أو نصلح المزارع، ولم نشق الطرق وننشئ السدود فقط، وإنما وفرنا الغذاء المعنوي وفتحنا مدارس الأئمة والخطباء".

لكن الاهتمام بالدين ورموزه لم يرق لجنرالات الجيش الذين كانوا يرون أنفسهم أوصياء على الدولة، وفي 27 مايو/أيار 1960، نفذوا ضد مندريس أول انقلاب عسكري في تاريخ الجمهورية التركية.

واعتقل مندريس وعدد من قيادات حزبه، وفي 17 سبتمبر/أيلول 1960 نُفذ حكم الإعدام بحقهم. ووصف الانقلابيون سياسة الرجل وما حققه من إنجازات معنوية بـ"العقلية الرجعية".

وعن هذه الفترة، يقول كتاب "الأئمة والخطباء.. الحقائق والأساطير"، إن مدارس الأئمة والخطباء، واجهت بعد مندريس مخاطر الإغلاق مرتين، وتشكلت لجان لإلغائها في حكومة جمال غورسال (الأولى بعد الانقلاب) لكن لم يجر التنفيذ.

بينما أعلنت حكومة عصمت إينونو (الثانية عقب الانقلاب)، أنها لن تبقى بالسلطة ما دامت مدارس الأئمة والخطباء مفتوحة، لكن لم ينُفذ ذلك. وفي الوقت ذاته لم تُؤسس مدارس جديدة، غير الـ19، الموجودة بالفعل.

وشهدت الأئمة والخطباء رفاهية نسبية مع انضمام نجم الدين أربكان زعيم حركة "ملي غوروش" ذات التوجه الإسلامي إلى حكومة ائتلافية سنة 1974، إذ سمح للخريجين من تلك المدارس بمواصلة مسيرتهم التعليمية في مؤسسات التعليم العالي.

ورغم انقلاب 1980، واصلت مدارس الأئمة والخطباء مسيرتها في إعداد الأجيال المتمسكة بدينها وقيمها، إلى جانب المناهج العلمية الحديثة.

لكن زادت الضغوط عليها وعلى سائر الرموز الدينية الأخرى وتصاعدت الاتهامات بـ"الرجعية والانحراف" مع تشكيل أربكان حكومة عام 1996، لتنتهي تلك المضايقات بانقلاب عسكري عام 1997.

نجم ساطع

ومع صعود تلاميذ أربكان إلى الحكم عبر حزب العدالة والتنمية عام 2002، شهدت تركيا مرحلة جديدة من الانفتاح العام لجميع الفئات دون تهميش، وجرى تدشين مشروعات تنموية عديدة، في مقدمتها التعليمية.

إذ كان إصلاح التعليم محورا أساسيا في رؤية أردوغان ورفقائه، فتبنت حكومات العدالة والتنمية المتتالية نهجا قائما على الارتباط بالقيم والمحافظة عليها وإعادة التقدير لمدراس الأئمة والخطباء من جديد فزاد الإقبال عليها ما انعكس على عددها داخل البلاد وخارجها.

ومن أبرز معالم هذا التغيير، تأكيد وكالة الأناضول التركية خلال تقرير لها في 16 مايو 2019، أن "مدارس الأئمة والخطباء باتت ماركة تركية في مختلف أنحاء العالم".

وأوضحت أنه يوجد في تركيا 13 مدرسة أئمة وخطباء دولية تحتضن طلابا قادمين من شتى دول العالم، ومناهجهما تُدرّس حاليا في 54 مدرسة بـ22 بلدا.

فيما كشف "وقف الديمقراطية الاجتماعية" التركي في تقرير شامل نشره في يوليو/تموز 2020، عن أوضاع مدارس الأئمة والخطباء، أن عددها بلغ 3 آلاف و394 في عموم البلاد.

وعن هذا التغيير، قال الرئيس أردوغان إن "تاريخ الأئمة والخطباء هو نفسه أيضا تاريخ نضال شعبنا من أجل الحق والقانون والحرية والعدالة".

كما أن مدارس الأئمة والخطباء منذ تأسيسها كانت بمثابة حجر الاختبار الذي يظهر معيار الديمقراطية في هذا البلد، بحسب أردوغان

وأضاف في كلمة ألقاها في 15 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 في ندوة بمناسبة الذكرى السبعين لإعادة فتح مدارس الأئمة والخطباء في تركيا، أنها "رمز للنضال المقدس الذي تسير كل خطوة فيه بصبر وصدق وعزيمة". 

ومضى أردوغان مؤكدا: "كلما رفعت الوصاية عن الإرادة الوطنية، فُتح الطريق أمام مدارس الأئمة والخطباء، وكُسرت الأغلال التي قيّدت أبوابها".

وأوضح أن "شهرة مدارس الأئمة والخطباء بدأت في تجاوز حدودنا خلال السنوات الأخيرة. هذه المدارس التي تقدم الدروس الاجتماعية والعلمية إضافة إلى الدينية، تعد من خلال نموذج التعليم النظامي مثالا جميلا يحتذى به في العالم الإسلامي". 

وكشف أن "ألفا و200 طالب من أكثر من 89 دولة مختلفة يتلقون تعليمهم في المرحلة المتوسطة والثانوية في هذه المدارس بتركيا. وكلما سطع دور مدارس الأئمة والخطباء ازداد عدد الطلاب في بلدنا والعالم أيضا".