ستصل للركود.. لماذا تدعم أميركا الدولار القوي رغم الأضرار الواسعة؟

علي صباحي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

في خضم حرب تجارية وصراع نفوذ بين البلدين، اتهمت الولايات المتحدة قبل ثلاث سنوات الصين بالتلاعب بسعر صرف عملتها لتعزيز نمو اقتصادها، لكن مع توالي أزمات عالمية صحية وأمنية وطاقية في المرحلة التالية أصبحت أميركا هي من يوجه إليها هذا الاتهام.

ورغم أن الصين وأميركا اتفقتا على نفي تبني هذا التوجه، معلنين التزامهما بقيم التداول الحر للعملات وسعر الصرف الذي تحدده السوق، فإنهما يختلفان في طبيعة أهدافهما.

فبينما كانت بكين تحاول التغلب على الرسوم الجمركية الأميركية المفروضة عليها منتصف عام 2019 في حقبة الرئيس السابق دونالد ترامب، تخوض واشنطن حاليا حربا ضد نسب التضخم العالية التي تعدها قادمة من الخارج ولا تعكس طبيعة النشاط الاقتصادي المحلي.

لكن المثير في الأمر، أن كثيرا من المراقبين يشككون في جدوى النهج الأميركي المتمثل في تشديد السياسة النقدية عبر الرفع المتواصل لسعر الفائدة من أجل كبح جماح التضخم.

ويرون أن الدولار القوي الناتج عن هذه السياسة سيلحق أضرارا أكبر بالاقتصاد الأميركي والعالمي وسيشعل حرب عملات بالعالم.

نار التضخم

وكشفت وزارة العمل الأميركية في 13 يوليو/تموز 2022، ارتفاع مؤشر أسعار المستهلكين (التضخم) في الشهر الذي سبقه بنسبة 9.1 بالمئة على أساس سنوي في تقدم واسع النطاق، مؤكدة أنها أكبر زيادة منذ نهاية عام 1981.

وتسارع التضخم في الولايات المتحدة في يونيو بأكثر من المتوقع، دفع دوائر اقتصادية عديدة للتأكيد على أن استمرار ضغوط الأسعار سيبقي مجلس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) على مسار رفع أسعار الفائدة، ما يعني تعزيز سعر الدولار.

وفي اليوم التالي، كشفت وكالة "بلومبيرغ" الأميركية، ارتفاع مؤشر الدولار إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، كما عزز المستثمرون الرهانات على رفع الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي في وقت لاحق من يوليو.

مؤشر "بلومبيرغ" الفوري للدولار، الذي يقيس العملة الأميركية مقابل سلة من عملات الأسواق المتقدمة والناشئة، صعد بنسبة 1.2 بالمئة إلى 1304.55 نقاط، مدفوعا بمزيج من رفع أسعار الفائدة، والطلب المتزايد على العملة كملاذ آمن، ومخاوف الركود.

وفي نفس اليوم، تدهور سعر صرف عدة عملات رئيسة أمام الدولار، في مقدمتها اليورو الذي تساوى مع الدولار لأول مرة منذ أكثر من عقدين، بعد أن عانت العملة الأوروبية من تراجع سريع وكبير بنسبة بلغت نحو  12 بالمئة في النصف الأول من 2022.

وذلك نتيجة لضغوط متعددة، في مقدمتها الحرب الروسية في أوكرانيا، التي ضاعفت من آثار أزمة الطاقة الناجمة عن جائحة كورونا، فضلا عن المخاطر المتزايدة بشأن احتمالية قطع موسكو صادرات الغاز، ما يقرب منطقة اليورو أكثر إلى الركود.

من جانبه، أكد رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم باول، في 22 يونيو 2022، أن البنك المركزي سيواصل رفع أسعار الفائدة لترويض التضخم، وأقر بأن الركود في الولايات المتحدة "محتمل".

ورفع الاحتياطي الفيدرالي أسعار الفائدة بـ75 نقطة أساس في يونيو، وهي أكبر زيادة منذ عام 1994، لتصل إلى النطاق المستهدف من 1.5 إلى 1.75 بالمئة، وأكد باول أنهم على الأغلب سيفعلون الشيء نفسه مرة أخرى خلال يوليو.

وقال باول في شهادته نصف السنوية أمام اللجنة المصرفية بمجلس الشيوخ: "من الواضح أن الاتجاه المتصاعد للتضخم كان مفاجئا، ويمكن أن تكون هناك المزيد من المفاجآت. لذلك سنحتاج إلى التحلي بالذكاء في الاستجابة للبيانات الواردة والتوقعات المتطورة ".

وأضاف أن مسؤولي الاحتياطي الفيدرالي يتفقون على أنه قد تستمر الحاجة لرفع أسعار الفائدة لفترة أطول لمنع ارتفاع التضخم من أن يترسخ، حتى لو أدى ذلك إلى تباطؤ الاقتصاد الأميركي.

انزعاج دولي

وهذه السياسة النقدية المتشددة تزعج بشدة الأسواق الناشئة وحتى المتقدمة، لأنها تزيد من تكاليف الاقتراض وتؤجج تقلبات الأسواق المالية، وتمهد الطريق إلى حرب عملات مضادة عبر رفع الفائدة أيضا في تلك البلدان من أجل الحفاظ على وضع الأسعار.

وفي الشهور الثلاثة الأخيرة، رفعت كل من الهند وماليزيا وسويسرا وبريطانيا أسعار الفائدة بشكل مفاجئ، كما تدخلت نيودلهي وهونغ كونغ لدعم سعر الصرف، كما وصل الين الياباني إلى أدنى مستوى له في أكثر من عقدين.

وأشارت صحيفة نيويورك تايمز الأميركية إلى هذا المشهد خلال تحليل نشرته في 16 يوليو، حمل عنوان "الدولار قوي للغاية، يدفع العالم إلى الأسفل".

وأكدت أن "قيمة الدولار هي الأقوى منذ جيل، مما يقلل من قيمة العملات في جميع أنحاء العالم ويزعج النظرة المستقبلية للاقتصاد العالمي لأنه يقلب كل شيء من تكلفة العطلات في الخارج إلى ربحية الشركات متعددة الجنسيات".

وذكرت أن الطريقة الرئيسة لقياس قوة الدولار هي فهرسته مقابل سلة من عملات الشركاء التجاريين الرئيسين مثل اليابان ومنطقة اليورو، ومن خلال هذا المقياس، وصل الدولار إلى أعلى مستوياته في 20 عاما، بعد أن زادت قيمته أكثر من 10 بالمئة هذا العام، وهي حركة ضخمة جدا.

وأضافت أنه نتيجة تحركات الاحتياطي الفيدرالي بسرعة وقوة أكبر من معظم البنوك المركزية حول العالم، انخفض الين الياباني إلى أدنى مستوى خلال 24 عاما مقابل الدولار وانخفض اليورو إلى مستوى التكافؤ لأول مرة منذ عام 2002.

كما فقدت عملات البيزو الكولومبي والروبية الهندية والزلوتي البولندي والراند الجنوب إفريقي كثيرا من قيمتها أمام الدولار خاصة خلال الأشهر الستة الأخيرة.

وقد أثيرت مسألة قوة الدولار المتزايدة في اجتماع وزراء مالية مجموعة الدول السبع الكبرى في 18 مايو/أيار 2022 بمدينة بون بألمانيا.

وادعت وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، ردا على أسئلة بشأن صعود الدولار المتواصل، أن "الولايات المتحدة ملتزمة بسعر صرف تحدده السوق".

وأضافت يلين أن تشديد السياسة النقدية الأميركية وعزوف المستثمرين عن المخاطرة هما عاملان في مصلحة الدولار، لكن "النظام الأفضل" هو أن يكون هناك سعر صرف تحدده السوق.

وتابعت: "الدولار ملاذ عالمي آمن. ونشهد تدفقات لرؤوس الأموال، ومن الطبيعي أن تدفع (العملة الأميركية) للصعود في الأوقات التي تزيد فيها الشكوك الاقتصادية، وعليه أعتقد أن ارتفاعها شيء يمكن تفهمه".

لكن هذه التصريحات لم تقنع كثيرا من المحللين الاقتصاديين الذين بدؤوا الحديث عن إمكانية اتفاق الدول الكبرى على التلاعب بسعر صرف العملات كي تتراجع أميركا عن سياستها، كما حدث في اتفاق بلازا عام 1985.

ويقصد بهذا الاتفاق تدخل حكومات فرنسا، وألمانيا الغربية، واليابان، وبريطانيا لتغيير سياسة رفع الفائدة الأميركية (بلغت 20 بالمئة) التي تسببت في قوة الدولار بشكل كبير، من أجل خفض التضخم إبان حقبة الرئيس الأميركي رونالد ريغان.

واتفقت الدول الأربع مع أميركا على خفض قيمة الدولار أمام الين الياباني والمارك الألماني من خلال التدخل بأسواق صرف العملات في 22 سبتمبر/ أيلول 1985 في فندق بلازا بمدينة نيويورك.

حملة مضادة

وفي هذا الإطار يقول الخبير الاقتصادي ستيفن ميلر، إن الوضع الحالي يثير الذكريات بشأن "اتفاق بلازا"، وهو موقف جرى اتخاذه على أساس الاعتقاد بأن الصعود الهائل في تقييم الدولار سيلحق الضرر بالاقتصاد العالمي.

وأضاف ميلر في 19 مايو، أنه "ربما يكون أحد الخيارات المتطورة التوصل لنوع من التدخل المنسق بين الدول على شاكلة اتفاق بلازا، فالأسواق تدرك أن البنوك المركزية في وضع صعب عندما تمتلك فقط وسيلة للتأثير عبارة عن أسعار الفائدة التي تقوم بزيادتها"، وفق بلومبيرغ.

ومع ذلك، استبعد ميلر أي تدخل وشيك خلال المرحلة الحالية أو في الأجل القريب، لأن قوة الدولار تترك الواردات أقل كلفة بالنسبة لأميركا، وهي ميزة جذابة خلال حقبة تتسم بالتضخم المرتفع.

لكن الخبير بمصرف "دويتشه بنك" الألماني آلان روسكين، قال إنه في حال تراجع سعر صرف اليورو إلى ما دون 0.90، مقابل الدولار، فربما "يطلق ذلك أجراس الإنذار"، بحسب الوكالة الأميركية.

فيما رأى المحلل في مجموعة "غولدمان ساكس" الأميركية زاك باندل، أن الصعود المضطرب لسعر صرف الدولار ربما يكون بمثابة تغيير في قواعد اللعبة.

وأضاف أن صعود الصين في الأسواق العالمية يمثل عاملا مؤثرا آخر، فعلى الأرجح ستحتاج بكين إلى الموافقة على أي تحرك منسق تنفذه البنوك المركزية، لكن اليوان لا يجري تداوله عند المستويات التي تحتاج لمثل هذا التدخل في الوقت الراهن.

بينما أعربت الخبيرة البريطانية جين فولي عن استغرابها أن تقدم واشنطن على شيء ضد مصالحها، متسائلة: "لماذا سيشدد الاحتياطي الفيدرالي من الظروف المالية من جهة ومن ثم يخفضها من جهة ثانية بالتدخل ضد الدولار؟"

رغم ذلك، ربما يتغير هذا التردد في حالة حدوث انكماش للاقتصاد الأميركي وتسبب قوة الدولار في تعثر قطاعات مثل التوظيف والتجارة، في ظل احتمالية حدوث ركود اقتصادي في 2023 بأكثر من 30 بالمئة، بحسب استطلاع أجرته "بلومبيرغ" في 19 مايو.

وفي هذا الصدد نقلت عن الخبير جاك ماكنتاير قوله: "هل من الممكن أن يحدث ذلك؟ نعم، ربما، خاصة في حال دخلت أميركا حالة من الركود وألحق الدولار القوي الضرر بسوق العمل.. لا يعد ذلك أمرا وشيكا. أتوقع أن يتراجع الدولار خلال مرحلة ما، لكن لا يمكنك قول إن ذلك لن يحدث مطلقا".

ويقصد بالركود هبوط النمو الاقتصادي عندما يفوق الإنتاج الاستهلاك، ما يؤدي إلى كساد البضاعة وانخفاض الأسعار، ومن ثم يصعب على المنتجين بيع المخزون، لذلك ينخفض معدل الإنتاج، ما يعني بدوره أيدي عاملة أقل، وارتفاع نسبة البطالة.

وأفضل علاج للخروج من الركود هو رفع الإنفاق الحكومي الاستهلاكي، ما ينقل البلاد إلى حالة نمو، أو تخفيض الفائدة عبر المصرف المركزي، ما يسمح للمنتجين بإمكانية تحمل دين أكبر ويخفض أيضا جاذبية الادخار ما يرفع نسبة الاستهلاك، ومن ثم نمو الاقتصاد.

وتوقع "بنك أوف أميركا" في 13 يوليو، حدوث "ركود معتدل هذا العام في الولايات المتحدة". وأشاروا إلى أن الإنفاق على الخدمات يتباطأ وأن التضخم المرتفع يحفز المستهلكين على خفض الإنفاق.

وقال في تقرير إن "تزامن عدد من القوى تسببت في إبطاء الزخم الاقتصادي بسرعة أكبر من المتوقع". وهذه العوامل تشمل التضخم الناجم عن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة، الذي يحد من القدرة الشرائية للأسر، فضلا عن الظروف المالية الصعبة، وارتفاع معدلات الرهن العقاري.

وتوقع البنك انخفاض الناتج المحلي الإجمالي في أميركا خلال الربع الرابع بنسبة 1.4 بالمئة على أساس سنوي، ليتبع ذلك زيادة بنسبة 1 بالمئة في عام 2023. وهو ما قد يرفع معدل البطالة بمقدار 1 نقطة مئوية إلى حوالي 4.6 بالمئة.

سلاح ذو حدين

ورغم أن الصعود السريع للدولار منذ بداية العام يعده خبراء كثيرون سلاحا ذا حدين، إذ يعود بفوائد وأضرار على الاقتصاد الأميركي، يؤكد آخرون أنه حتى اللحظة يصب بمصلحة أميركا إلى حد كبير، لذا تواصل تبني هذا النهج.

ويؤكد خبراء دوليون أن التاريخ الاقتصادي الحديث يزخر باستغلال الدول سعر صرف عملاتها لانتزاع استثمارات أكبر في سنداتها من الدول الأخرى. لذا لم يسم "سلاح" سعر الصرف بهذا الاسم عن عبث.

وتقوم سياسة الدولار القوي حاليا على استغلال نقاط ضعف في البلدان الأخرى لإحداث تغييرات بمعدلات سعر الصرف الخاصة بهم أمام عملتهم المحلية لفرض تعديلات من قبل حكوماتهم وبنوكهم المركزية لصالح الدولار.

وهذا ما يبدو جليا عند النظر للمشهد الاقتصادي حاليا، إذ تباطأ نمو الاقتصاد الصيني بشكل حاد في الربع الثاني من 2022، نتيجة الخسائر الهائلة الناجمة عن عمليات الإغلاق واسعة النطاق بسبب فيروس كورونا في الصين، وهو أمر يشير إلى ضغط سيستمر على مدى الأشهر المقبلة.

وأكدت صحيفة وول ستريت جورنال في 11 يوليو، أن إصابات كورونا ترتفع بالصين بشكل يثير قلق المستثمرين من تكرار الإغلاق الذي فرضته مدن مثل شنغهاي لمدة شهرين والذي أربك سلاسل التوريد العالمية.

وفي نفس اليوم، قالت صحيفة نيويورك تايمز، إن إستراتيجية الصين للقضاء على المرض تأتي مع عواقب اقتصادية واجتماعية، حيث تؤدي إلى إغلاق المجمعات السكنية أو الأحياء أو حتى مدن بأكملها لأيام أو أسابيع للتخلص حتى من بعض الحالات.

كما أن الاتحاد الأوروبي يمر بمنعطف أمني واقتصادي خطير في ظل التغير المفاجئ الذي طرأ على سياساته بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وسعيه لوقف اعتماده الكبير على واردات الطاقة الروسية، ما يجعله في مرحلة ضعف تقربه أكثر من الركود.

أميركيا، يؤكد ما يعرف بـ"معدل المرور" (Pass Through Rate) الذي يقيس تأثير تحريك سعر صرف العملة على معدل التضخم، أنه رغم الخسائر التي ستتعرض لها الشركات الأميركية التي تعتمد على تصدير منتجاتها للخارج بسبب الدولار القوي، فإنه بالمجمل يصب الأمر في المدى القريب بصالح القدرة الشرائية للمواطن الأميركي.

ولا سيما مع تدني كلفة المنتجات نتيجة ازدهار القطاع الصناعي المحلي، في ظل تمتع أميركا بالفعل بموارد طبيعية كاملة على عكس غالبية الدول الأوروبية والآسيوية.

وهو ما يؤكده المسؤولون الأميركيون في الحزبين الديمقراطي والجمهوري من أن التضخم المتصاعد حاليا يرجع إلى عوامل خارجية، في مقدمتها أزمات الطاقة والغذاء وسلاسل التوريد والإغلاقات الصينية، لذا يدعمون هذا التوجه.