مظفر النواب.. شاعر عراقي هجا الحكام العرب فعاش مغتربا 40 عاما

يوسف العلي | منذ عامين

12

طباعة

مشاركة

"اشتهر بهجاء الأنظمة العربية بسبب فلسطين، ولقب بالثائر"، ذلك هو الشاعر العراقي، مظفر النواب، الذي قضى 40 عاما من حياته مغتربا، ثم وافته المنية في 20 مايو/أيار 2022 بإحدى مستشفيات دولة الإمارات عن عمر ناهز 88 عاما، بعد صراع طويل مع المرض.

وعلى وقع موسيقى الشرف وبأجواء من الحزن، استُقبل جثمان الشاعر العراقي الكبير، في مطار بغداد بحضور سياسي كبير، بعد يوم من وفاته، حيث نقل جثمانه بالطائرة الرئاسية وأقيمت له مراسيم رسمية بحضور رئيس الوزراء، مصطفى الكاظمي.

شاعر شعبي

بقي لقب "الثائر" ملاصقا له حتى ساعة تشييعه إلى مثواه الأخير، حيث اندلع احتجاج شعبي لمحبيه ضد حضور رئيس الوزراء العراقي ومستشاريه، ورددوا هتافات كان من بينها "مظفر للشعب مو للحرامية"، وكذلك "شلع قلع كلكم حرامية"، تعبيرا عن استيائهم من إهمال الشاعر طيلة مدة مرضه.

وحمل حرس الشرف نعش النواب الذي كلل بالورود، بينما رفع أحدهم صورة له بالأبيض والأسود، ومن هناك نقل إلى مقر اتحاد الأدباء والكتاب العراقيين، حيث تجمع المئات من الأشخاص من أجيال مختلفة بانتظار وصول جثمان النواب، قبل أن يوارى الثرى في مدينة النجف.

وقال وزير الثقافة العراقي، حسن ناظم، في 21 مايو 2022 إن "جثمان الشاعر الكبير مظفر النواب سيدفن في النجف حسب وصيته"، مبينا أن "الشاعر أوصى بالدفن في النجف بجوار والدته".

وأوضح ناظم، في تصريحات صحفية، أن "النواب ألهم العراقيين بالمواقف المبدئية ضد الظلم والاضطهاد، وأشعاره ستبقى خالدة بيننا"، مضيفا "اليوم يعود جثمان الشاعر إلى وطنه بعد سنوات من الغربة، وسيبقى علامة كبيرة ورمزا سيلهمهم على الدوام".

فيما قال المتحدث باسم اتحاد الأدباء والكتاب في العراق، عمر السراي، إن هذا "الاستقبال الكبير لا يعني الأدباء فقط بل يعني المواطنين، فهو شاعر شعبي وليس شاعر نخبة".

ولفت إلى أن "النواب يمثل موقفا لدى المتظاهرين والثوريين وعند جميع محبي الوطن الحقيقيين، يمثل موقف عدم الاصطفاف مع السلطة لمقارعة الطغيان والديكتاتورية".

من جهته، قال الكاتب والروائي السوري، إبراهيم الجبين، إن مظفر النواب "ميت منذ 2005"، وذلك حين توفيت والدته، إذ كانت سيدة بغدادية "فريدة من نوعها" وعازفة بيانو وهي من ربته على تذوق الفنون.

وكان النواب هو أحد أبطال رواية "عين الشرق" التي كتبها الجبين وتحدث في بعض أجزائها عن جوانب "حياة النواب غير المعروفة" بالنسبة للكثيرين وعلاقته مع والدته.

"الجبين" أوضح خلال تصريحات له في 20 مايو 2005، أنه عندما التقاه آخر مرة كان يشكو من صدمة مستمرة في حياته وهي السبب في رحيله اليوم، مشيرا إلى أن "النواب كان قويا جدا جسديا ويهتم بصحته كثيرا، لكن وفاة والدته كان لها الأثر الأكبر في وفاته اليوم".

وأضاف أن "النواب أصيب مباشرة بصدمة بعد سماع نبأ وفاة والدته، وهذه الصدمة حسب وصفه وتعبيره اختارت أضعف ركن من أركان جسمه، وهو جهازه العصبي".

بعد تلك الحادثة الحزينة على قلب النواب تم تشخيص إصابته بمرض الشلل الرعاشي وظل عليلا منذ ذلك الوقت.

ووفقا للجبين: "هو مات من تلك اللحظة، ولم يعد مظفر الذي اعتدنا عليه، الإنسان الفرح حتى في قصائده الحزينة تتلمس الفرح والاحتفال بالمحبوب والتفاؤل ولا يوجد عنده يأس.. فقدانه لوالدته دمر روحه من الداخل".

شيوعي التوجه

ولد مظفر النواب في العاصمة بغداد عام 1934 وهو سليل عائلة "النواب" التي كانت تحكم إحدى الولايات الهندية الشمالية قبل احتلال بريطانيا للهند عام 1858.

واختارت عائلة النواب النفي إلى العراق بعدما قاومت بكل قوتها الاحتلال البريطاني وعارضته.

يوصف النواب بالشاعر اليساري، فيما اشتهر بقصائده المنتقدة للأنظمة العربية، ما جعله يقضي سنوات عديدة من حياته وراء القضبان وفي السجون والتشرد.

كانت أسرة النواب ثرية وأرستقراطية تتذوق الفنون والموسيقى، وكان قصر العائلة المطل على نهر دجلة مقصد الشعراء والفنانين والساسة، لكن مظفر عاش فقيرا ويدعم الفقراء والمغبونين وناهض الاستغلال والاستعمار وساند الفقراء والبسطاء.

درس النواب الآداب في جامعة بغداد، وتابع دراسته في جامعة "فانسان" الفرنسية حيث حصل على شهادة ماجستير حول موضوع "القوى الخفية في الإنسان".

بدأ يكتب الشعر وهو في القسم الثالث من الطور الابتدائي، لكن بفضل التشجيع الذي تلقاه من قبل مدرسه، نما شعره وكبر وأصبح أيضا ينشر قصائده في المجلات الجدارية المدرسية.

انخرط مظفر النواب في الحزب الشيوعي العراقي وعمل في صفوفه، لا سيما بعد الإطاحة بالنظام الملكي عام 1958.

لكنه اضطر فيما بعد إلى مغادرة العراق باتجاه الاتحاد السوفيتي مرورا بإيران في أعقاب الانقلاب الذي أطاح برئيس الوزراء عبد الكريم قاسم عام 1963، حيث تعرض الشيوعيون واليساريون لحملات اعتقال واسعة من القوميين العرب الذين وصلوا إلى الحكم بانقلاب نفذوه في العام نفسه.

لكنه لم يستطع الوصول إلى الاتحاد السوفيتي؛ إذ اعتقلته المباحث الإيرانية "السافاك" وقامت بتعذيبه قبل أن تعيده قسرا إلى العراق. 

بعد إعادة "النواب" إلى بغداد، حكمت عليه محكمة عسكرية بالإعدام، بسبب هروبه إلى إيران وكتابته قصيدة "البراءة" (يشيد فيها بالأم)، إلا أنه تم تخفيف الحكم إلى السجن المؤبد بمساع حثيثة من وجهاء شيوخ بعض القبائل.

وفي لقاء صحفي مع موقع "جدلية" العراقي عام 2017، قال "النواب" عن تلك المحاكمة: "عندما أعادوني إلى بغداد، أحالوني على المجلس العرفي، ولم تكن محاكمة، بل تقف ويطلبون منك أن تشتم الحزب الشيوعي، وإن لم تشتم، يحكم عليك، وإن شتمت تحصل على البراءة".

وأضاف: "وضعوني في البداية لكي يؤثروا على 120 شخصا، وقالوا لي: اشتم، فقلت لهم: كلا، قالوا: اشتم كل الأحزاب، فقلت: لا".

وأوضح النواب: "هم أرادوا أن يؤثروا على موقف البقية على أساس أن انهياري سيضعفهم، فأخذوني إلى غرفة جانبية وحكموا علي بثلاث سنوات، بسبب قصيدة البراءة!".

وأودع النواب في سجن "نقرة سلمان" الشهير جنوبي العراق، والذي هرب منه وبقي متواريا عن الأنظار حتى عام 1969 عندما أصدر عفو عن المعارضين، وعاد إلى وظيفته في وزارة التربية.

مناصر لفلسطين

عرف مظفر النواب في أوائل السبعينيات بشعره السياسي المعارض حيث كان ينتقد بقوة الأنظمة العربية، الأمر الذي جلب له العديد من المشاكل، وتعرض لمحاولة اغتيال في اليونان عام 1981، ليقضي نصف عمره ما بين مطارد وهارب. 

عاش في دمشق والقاهرة وبيروت والجزائر والخرطوم وحتى في سلطنة عمان وفي إريتريا والفيتنام وبريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، ليودع الحياة في إمارة الشارقة بالإمارات، بعد أن تدهورت صحته جراء معاناته من مرض "الباركنسون".

وبعد منفى طويل، عاد النواب إلى بلده الأصلي العراق عام 2011 في صحة متدهورة، واستقبله آنذاك الرئيس جلال الطالباني الذي أشاد بعمله وشعره ووصفه بـ"الرمز في الإبداع والنضال".

اهتم كثيرا بالقضية الفلسطينية وكتب عنها عشرات القصائد، منها قصيدة (القدس عروس عروبتكم) التي هاجم فيها القادة العرب بألفاظ حادة، وبسببها منعته معظم الدول العربية من دخول أراضيها، فكان يلقب بـ"شاعر القصيدة المهربة".

في عام 1976 أثارت قصيدة "تل الزعتر" عن أحداث مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين في لبنان موجة غضب جديدة ضد الشاعر العراقي، مما اضطره للترحال من جديد وانتقل إلى ليبيا.

دأب على انتقاد قمم جامعة الدول العربية، فكان يكتب قصيدة عقب كل قمة يهاجم فيها المواقف السياسية لقادة المنطقة، ومن هذه القصائد "دوامة النورس الحزين" و"القمة الثانية" و"تكاثرت القمم".

ومن قصائده أيضا، وتريات ليلية، الرحلات القصية، المسلخ الدولي وباب الأبجدية، بحار البحارين، قراءة في دفتر المطر، الاتهام، بيان سياسي، رسالة حربية عاشقة، اللون الرمادي، في الحانة القديمة، جسر المباهج القديمة، ندامى، اللون الرمادي، الريل وحمد، أفضحهم، زرازير البراري.

أبكى صدام

في عام 1968، وبعد صعود حزب "البعث" إلى السلطة في العراق، وإصداره عفوا عاما عن السجناء السياسيين، التقى الشاعر النواب بالراحل صدام حسين، الذي كان يشغل حينها منصب نائب رئيس الجمهورية.

عن هذه الحادثة، قال النواب في مقابلة متلفزة عام 2005، إن "اللقاء استمر لنحو ساعتين إلا ربعا في بغداد، حيث أبلغه صدام أن الشيوعيين يجب أن يتعاونوا مع البعثيين، وعرض عليه تولي منصب رسمي لكنه رفض، وبعدها غادر العراق ولم يعد إلا مرة واحدة عام 2011، ثم سافر ثانية".

وفي السياق، قال الروائي السوري، الجبين، إن "النواب أبلغه ذات مرة أن أحد المقربين من صدام حسين، انشق عن النظام وروى كيف كان الرئيس الراحل يستمع لقصائد النواب الشعبية ويبكي".

وتابع الجبين: "هذه الحادثة (بكاء صدام) أثرت بمظفر كثيرا كون أحد ألد أعدائه والذي حكم عليه بالإعدام، يستمع لأشرطته الممنوعة في العراق ويبكي متأثرا".

وعن موقفه من الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، حيث أقام النواب سنوات من عمره في دمشق، قال الجبين إن "النواب يؤكد أنه رفض مقابلة حافظ الأسد رغم أنه كان يعيش في دمشق، في ظل نظام سياسي ديكتاتوري وشمولي".

وأضاف الجبين أن "النواب قبل الضيافة والبقاء في سوريا، لكنه رفض الدعوة الرسمية، التي جاءته لزيارة القصر الجمهوري ولقاء الأسد".

وأشار إلى أن النواب كان "يتمتع بطاقة هائلة يريد تفريغها بالشعر والسياسة والعمل النضالي ومناوءة الأنظمة الديكتاتورية".

ويرى أن "النواب أثر كثيرا على الشعر العربي، بمستوى لا يقل عن تأثير الشاعر السوري الكبير نزار قباني، بل ربما أكثر، لأنه كان يكتب بالفصحى والعامية معا".

وختم الجبين حديثه بالقول: "أنا لست حزينا اليوم لوفاته، لأني مدرك تماما أن تأثيره باق ومستمر وسيصل أكثر لمن عرفه ولمن لم يعرفه من الأجيال القادمة".

وبرحيل مظفر النواب، يكون العراق والعالم العربي قد فقدا آخر أحد أكبر شعراء العصر، فيما يفقد الفقراء والمستضعفون واحدا من أهم الأصوات المدافعة عنهم والتي تحمل أوجاعهم.