ابتلعهم البحر واغتالهم الإعلام.. لماذا يقتل السيسي الهاربين من الفقر مرتين؟
.jpg)
مأساة موت الشباب على طرق الهجرة غير النظامية، أصبحت من أكثر ما يؤرق المصريين في تاريخهم الحديث، حتى بات الشعراء يدونون القضية في أدبياتهم.
من هؤلاء الشاعر المصري المعاصر، فاروق جويدة، الذي ألقى عام 2008، قصيدته الشهيرة "هذه بلاد لم تعد كبلادي" بسبب مأساة غرق مركب رشيد الذي راح ضحيته عشرات من المصريين.
ومما قاله فيها: "قد كان آخر ما لمحت على المدى.. والنبض يخبو صورة الجلاد، قد كان يضحك والعصابة حوله.. وعلى امتداد النهر يبكي الوادي، وصرخت والكلمات تهرب من فمي.. هذه بلاد لم تعد كبلادي".
فزوارق الموت المهترئة على ضفاف المتوسط لا ترحم المصريين الذين يفرون من بلادهم إلى المجهول هربا من الفقر، وبحثا عن حياة كريمة.
كارثة "تلبانة"
ونكأ غرق شبان مصريين واختطاف العشرات في طريق الهجرة غير النظامية الجرح في الحادثة التي جرت في 23 أغسطس/ آب 2021، وفتح التساؤلات عن سر إقدام الشباب على ذلك المسلك الوعر، الذي تتزايد فيه فرص الموت على الحياة.
كان هذا اليوم حزينا وصعبا على أهالي قرية تلبانة بمركز المنصورة، محافظة الدقهلية (شمالي مصر)، بعد الإعلان عن غرق مركب كان يقل نحو 70 من أبناء القرية، فى رحلة هجرة غير نظامية، ووفاة 11 شخصا من شباب وأطفال القرية.
النقطة الأصعب أن الإعلام التابع للسلطة بقيادة رئيس النظام عبدالفتاح السيسي والأجهزة الأمنية، شن حملة تشويه مروعة ضد هؤلاء الشباب، تحت ذريعة أن البلاد مليئة بفرص العمل، ومعدلات البطالة تتلاشى، ونسبة الفقر بين المصريين تقل، وهو ما تكذبه الإحصائيات الرسمية الصادرة عن المؤسسات الحكومية.
ما ألقى مزيدا من الضوء على الرحلة المنكوبة، أن مستخدمي مواقع وسائل التواصل الاجتماعي، نشروا فيديو يظهر فيه المهاجرون قبيل موتهم، متكدسون بأعداد كبيرة فوق مركب صغير رث، وهم يحتفلون بنجاحهم في الخروج للبحر، ويعبرون عن فرحتهم وتفاؤلهم.
ووجهوا حينها الشكر لرجل يدعى "أبو سمرة"، كان هو الضالع في تنظيم الرحلة المميتة، ولم يكونوا يعلمون أنهم على بعد دقائق معدودة من النهاية.
وعلى وقع الفاجعة هرع الأهالي إلى مركز نقطة شرطة تلبانة، يتسابقون فى تحرير المحاضر بفقد أبنائهم لحصر المتغيبين، ومخاطبة وزارة الخارجية للبحث عنهم، وسط هتافات، منها "عايزين (نريد) عيالنا (أولادنا) عايزين عيالنا".
وسرعان ما تبين وفاة من توفى فيما بقي مصير الآخرين مجهولا.
واتضح من أقوال الأهالي أن أحد سماسرة الهجرة غير النظامية من أبناء القرية، وبمعاونة شقيقه أقنع الشباب بالسفر إلى إيطاليا عن طريق ليبيا، مستغلا حالة الفقر والبطالة، ومن ثم حصل على مبلغ مالي يقدر بنحو 30 ألف جنيه (1900 دولار) من كل شاب، للسفر عبر القوارب من البحر المتوسط.
ويذكر أن "تلبانة" بحسب هيئة الإحصاء المصرية، هي أكبر قرى الجمهورية من حيث تعداد السكان، بما يتجاوز 109 آلاف نسمة، وتمتلك 40 ألف صوت انتخابي، ومعروفة بكثرة شبابها المهاجرين إلى الخارج، سواء إلى دول الخليج، أو الدول الأوروبية.
جلد إعلامي
لم يراع الإعلام المصري الموجه من قبل السلطة، حالة الحزن والفاجعة التي حلت بأهالي قرية "تلبانة" وجلدوهم بألسنة حداد، تحت دعوى أن مصر مليئة بالمشاريع وفرص العمل.
وفي 29 أغسطس/ آب 2021، خرج الإعلامي المقرب من النظام، أحمد موسى منفعلا، خلال حلقات برنامجه على قناة صدى البلد، موجها رسالة إلى الشباب.
وقال موسى: "أنت فاكر بره هتبقى (ستكون) طيار، في كل الدول الأوروبية هناك مآسي وبطالة عشان كورونا، بلدك أولى بيك (بك) ومشروعاتها أولى بيك، مشروع حياة كريمة يخلق ملايين من فرص العمل، محدش عند فرص عمل زي الموجودة في مصر".
أما الإعلامي نشأت الديهي، فخرج عبر قناة "TeN" بتساؤلات إلى الشباب، قائلا: "أنت بتهاجر ليه؟ يقولك أنا الدنيا اسودت في وشي (وجهي) في مصر؟ وانا بقوله لا تعالى الدنيا مش سوده وفيه مشروعات وفرص عمل".
في المقابل غرد الصحفي المصري جمال سلطان، عبر حسابه بموقع "تويتر"، قائلا: "وفاة 11 شابا مصريا من قرية تلبانة بمحافظة الدقهلية غرقا قبالة سواحل ليبيا، في رحلة هجرة غير شرعية، شباب مصري لا يعرف السياسة، فقط يبحث عن قوت يومه، عن حياة كريمة، فقد الأمل أن يجدها في مصر، فأصبح يرى المخاطرة بالموت أرحم من البقاء في دولة السيسي!"
وفاة 11 شاب مصري من قرية تلبانة بمحافظة الدقهلية غرقا قبالة سواحل ليبيا، في رحلة هجرة غير شرعية ، شباب مصري لا يعرف السياسة ، فقط يبحث عن قوت يومه ، عن حياة كريمة ، فقد الأمل أن يجدها في مصر ، فأصبح يرى المخاطرة بالموت أرحم من البقاء في دولة السيسي !
— جمال سلطان (@GamalSultan1) August 27, 2021
وفي 21 أغسطس/ آب 2021، كشف الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء "حكومي" أن عدد الشبـاب في الفئة العمرية من 18 إلى 29 سنة، بلغ 21.3 مليون نسمة بنسبة 21 بالمئة من إجمالي التعداد السكاني.
وذكر أن معدلات البطالة بـين الشـباب وصلت إلى 15.4 بالمئة هذا بشكل عام، بينما بلغ معدل البطالة بين الشباب الحاصلين على مؤهل جامعي فأعلى إلى 33.3 بالمئة.
وفي 3 ديسمبر/ كانون الأول، أعلنت وزيرة التخطيط المصرية، هالة السعيد، أن نسبة الفقر في البلاد وصلت إلى معدل 29.7 بالمئة، وقد حدد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء خط الفقر في الإحصاء الجديد عند 857 جنيها شهريا (54 دولارا).
وقال الجهاز الحكومي في 12 أكتوبر/تشرين الأول 2020: إن "50 بالمئة من الأسر تلجأ إلى الاستلاف من الآخرين لسد نفقاتها واحتياجاتها، وتلجأ إلى الاعتماد على أرخص أنواع الأغذية، وتخفيض استهلاكها من اللحوم والطيور والأسماك"، ما يدلل على مدى تدني المستوى المعيشي للأسر المصرية.
حبل الإنقاذ
الصحفي المصري بصحيفة "أخبار الدلتا" المحلية، محمد مجدي، قال: إن "أكثر منطقة في مصر يخرج منها الشباب هاربين إلى أوروبا في رحلات الموت عبر المراكب المهترئة، هي منطقة الدلتا (شمالي مصر) وهي أكثر المناطق كثافة سكانية أيضا".
وأضاف مجدي لـ"الاستقلال" أن "كثيرا من الشباب يعرفون أن احتمالات موتهم غرقا قائمة، بل ويرون أقرانهم قد غرقوا من قبلهم، ومع ذلك يأخذون الخطوة، هربا من الفقر والعالة".
فالهجرة بالنسبة لهم حبل النجاة الأخير الذي يمكن أن ينتشلهم وعوائلهم إلى حياة كريمة، ولا بد من الإشارة أن الشباب هم الفئة الأكبر، كما يقول.
لكن المفاجأة أن هناك أطفالا لم يتجاوزوا 13 عاما يخوضون غمار تجربة الهجرة غير النظامية، وقليلا من كبار السن، الذين لم يحالفهم التوفيق في حياتهم.
وتابع: "الفقر والعطالة عن العمل وعدم وجود فرص حقيقية للشباب، تدفعهم إلى طريق الهروب من مصر، لأي مكان، وما يفعله الإعلام جريمة أخرى في حقهم، لأن هؤلاء اختاروا العمل والمحاولة، وبذلوا ما في وسعهم، لم يتجهوا إلى طريق المخدرات أو البلطجة أو مسالك السوء الأخرى".
"لماذا يتم القسوة عليهم بعد مماتهم؟!"، يتساءل مجدي الذي يضيف: "يكفي ما رأوه في حياتهم، وفقدان أعمارهم في ريعان الشباب، فهؤلاء يمثلون ثروة مصر الحقيقية الضائعة".
وأوضح: "الدولة اختارت مكافحة الهجرة غير النظامية، وهذا الأمر لا يتوقف على المهربين أو الذين يسهلون عملية الخروج وسماسرة البشر، ومن يتقاضون الأموال، لكن تبدأ من إيجاد حلول حقيقية للشباب، وتوفير فرص عمل واستغلالهم إلى ما فيه مصلحة البلاد".
وختم: "ما من أحد يحب أن يهجر أهله وبلده إلى المجهول، إلى بلاد لا يعرف لغتها ولا أهلها، وفرص عودته أقل كثيرا من فرص نجاته ونجاحه، ولكن الفقر يدفع إلى كل هذا وأسوأ، فبدلا من جلد الشباب، لا بد من منهجية مختلفة لاستيعابه".
المصادر
- "بلدك ومشروعاتها أولى بيك".. أحمد موسى عن غرق مركب هجرة غير شرعية لإيطاليا
- «مأساة تلبانة».. مصرع 11 و59 مفقودًا من شباب القرية فى هجرة غير شرعية لإيطاليا
- More than 600 Egyptians and Moroccans land on island of Lampedusa
- هل تراجع معدل الفقر في مصر فعلاً كما تقول الحكومة؟ هذا ما يقوله الخبراء
- تعرف على نسبة الشباب فى مصر ومعدل البطالة فى 20 رقم