الهوية السورية بين 2011 و2020.. التغيرات والانقسامات ومظاهر التشظي

12

طباعة

مشاركة

المحتويات

تمهيد

أولاً: دلالات الهويّة اصطلاحًا ولغةً

ثانيًا: محددات الهوية

ثالثاً: الهوية الوطنية السورية تحت سلطة نظام الأسد

رابعاً: تشتُّت الهُويّات في سوريا بعد الثورة بين الانتماء والمظاهر

الهوية الكردية وإعادة الإنتاج

البحث عن "إمارة الإسلام" بين المحلّي والعالمي

إنتاج الهوية الجهادية

العلويّة السياسيّة

علونة الجيش

العلويّة الديموغرافية

تعزيز الهوية في زمن الثورة

خامساً: توصيات على طريق الخروج من الشتات

خاتمة


تمهيد

تعيش سوريا منذ عام 2011. حالة من تصاعد الأزمات المختلفة بدءًا من الحالة الاجتماعية والفكرية والميدانية، وصولاً إلى الحالة السياسيّة وتعريف الدولة السورية، ومدى انطباق الهويّة الفرديّة والطائفية والدينيّة مع واقع "سوريا".

يحضر النقاش في الهوية بشكل ملحٍّ أثناء الأزمات المعقّدة، وهو ما لاحظه المفكر الفرنسي "جان ماري بونوا" في أن البحث عن مفهوم الهوية الخاصة والتخندق خلف الانعزال وتأكيد الاختلاف ضمن هويّات متعددة عائد للنزاعات المفروضة على الفرد/الجماعة، ما يستدعي الإلحاح على التمايز بهويّة خاصة مقابل الهويّات الأكثر عموميّة[1].

يمكن القول: إن استطالةَ الصراعات في الحالة السورية بالتوازي مع ظهور مختلف الجماعات المؤدلجةِ محلّيًّا أو بشكل عابر للحدود مع تشابك الملفّات على الأرض وتوسّع التدخّلات الدولية والإقليميّة، دفع مكوّنات المجموعات العرقية والدينيّة في سوريا للبحث/تبنّي تعريفات خاصّة للفرد/الجماعة، سواء في إطار المنظور الوطني أو العرقيّ أو الفكريّ.

ورغم أن النظام السوريّ رسّخ مفهومًا قوميًّا/أيديولوجيًّا لتعريف سوريا وهوّيتها العامّة، إلا أنه في الوقت ذاته جعل أجهزة السلطة الأمنيّة والعسكرية والاقتصاديّة بيد فئة طائفيّة، دون الدفع لإظهار "قيادات" طائفيّة في البلاد على النحو الذي تفتت إليه الحالة اللبنانية، وذلك بهدف ضمان تحكّمه ببنية القوى السورية ومنعها من التشظّي العنيف، ما يُدخل البلاد في حالة من العنف المستمر.

لقد كان لتداخل الأحداث في الثورة السورية وانعكاساتها المباشرة، أثرًا كبيرًا في تقسيم الفئات الشعبية ضمن خانات محددة أيديولوجيّة وعرقيّة، لتتمظهر هذه التقسيمات ضمن مربعاتٍ منعزلة عن بعضها البعض، بالتوازي مع البحث عن تعريفات جديدة عن هويّة المندرجين في هذه الفئات تكون أكثر انعكاسًا لمرآة الواقع وإشباعًا للعاطفة.

تسعى هذه الورقة لعرض أبرز التغيرات والانقسامات التي طرأت على "الهوية" السورية في سياق تغليب الانتماءات العرقية والفكريّة، كمظاهر للتشظّيات التي باتت تحكمها، ودورِ هذه التحكّمات بالدفع نحو خيارات سياسيّة معيّنة مستقبلاً.

أولاً: دلالات الهويّة اصطلاحا ولغة

لا يمكن أن نجد لهذا المصطلح تعريفًا دقيقًا يسبر أغواره ويحدّد كامل معالمه، فهو مصطلح ينتمي للعلوم الإنسانية المتطوّرة، والخاضعة لعوامل التغيّر والتركيب المستمرة، كما أن المفاهيم العامّة تعاني من مشكلة التعريف وتحديد المعنى باختلاف الزمان والمكان، أو اختلاف المنطلقات الفكرية التي تتناول المفهوم أو المجال المعرفي والعلمي في البحث والدراسة.

من المؤكّد أن الهوية مصطلَح لا يُستغنى عنه، إلا أنه في الوقت نفسه غير واضح؛ نظرًا لتعدد أوجهه وعدم انضباط طرق قياسه بموازين محددة[2]، إضافة لكونه "بالغ التنوّع في دلالاته"[3]

لا تفيد كلمة "الهَويّة" الدلالة الفلسفيّة للمصطلح، فهي في اللغة: المنخفَض من الأرض، والمطمَأَنُّ إليه[4]، أما "الهُويّة" بدلالتها المتعارَف عليها؛ فهي حديثةٌ في الاستخدام اللغوي[5]، ولعل اضطرار بعض المترجمين لهذا المصطلح عائد لمحاولة ربط المحمول بالموضوع من خلال الضمير "هو" بمعنى "الهوية" الدالة على حقيقة الشيء من حيث تميُّزه عن غيره.

يعرَف مبدأ "الهوية" في المنطق بأنه يُطلق على "الموجود بما هو ذاته"، ولذلك فإن هذا المبدأ يُهيمن على الأحكام والاستدلالات المنطقية، بناء على أنه يُميز بين الشيء وما سواه، وبين الأصل وما يلحق به كعوارض ليست أصلية فيه، وبذلك تدلّ الهوية على الوجود المحض للموجود، فتكون مرادفةً له[6]، من ناحية، وتكون "الأمرَ المُتَعَقَّل" من حيث امتيازه عن الهويات الأخرى، إلا أن هذا الامتياز مخصوص بالخصوصية والاختلاف لا بالتفاضل، بمعنى أن نفي الخصوصيّة هو نفيٌ لمحض الوجود المستقل[7].

ويندرج لفظ "الهوية" المقصود به "البطاقة الشخصية" ضمن المفهوم العام منطقيًّا؛ حيث يقصد به "النعت الشخصي"، وهو حالة الكينونة بحد التطابق التام أو التشابه المطلق مع وصف الشيء المادي أو الشخص الإنساني[8].

يمكن التأكيد على أن الهوية بشكل عام تدور حول تمييز "الشيء" عن غيره، مما يجعله شخصًا، أو جماعة، أو طائفة، معروفة ومتعينة، بشكل متميّز عن غيره[9].

يتم استخدام مصطلح "الهوية" في محطات متداخلة كالثقافة والانتماء والقومية والتراث والأصالة، فيعبّر عنها جميعًا من خلاله؛ نظرًا للتداخل الذي يشوب هذه المصطلحات[10]، وهذا يدلّ على أن الهوية من المفاهيم الحديثة التي ترتبط بالوجود والذات والتراث الثقافي، وترتبط كذلك –من وجه آخر- بالتعدد والتنوع والاختلاف والتغيير[11]، أو بالتشابه والتماثل والثبات الاجتماعي في صيغها المختلفة ومستوياتها المعرفية المتنوعة، وكذلك في سياقاتها المتعددة التي تنتج وعيًا اجتماعيًا يثير تساؤلات تقترب بالهوية من حيث دلالاتها وأبعادها ومكوناتها الأساسية وعلاقاتها بما هو ثابت ومتغير من عناصرها، ومن حيث هي وعي متوتر وملتبس في علاقتها مع مكوناتها من جهة ومع الآخر من جهة ثانية[12]

تستدعى "الهويّات/الهويّة" ضمن سمات مادية ومعنوية، وتتكوّن من جانبين أحدهما موضوعي، ويرتكز على سمات لغوية ودينية وعرقية وتاريخية، أما الذاتي، فهو تفعيل خاصية الارتباط مع الآخر المتشابه، والانفصال عن الآخر المختلف؛ بناء على تأكيد الروابط الموضوعية، وبالتالي فهي عمليّة اصطفائية.

يمكن تعريف الهوية بالمستوى العام في سوريا بأنها: إحساس الفرد أو الجماعة بخصائص معيّنة تجعل منهم كينونة مستقلّة متميزة عن الجماعات الأخرى، ويعدّ الاندفاع لتعزيز خصائص الاختلاف والتشهير بها والانتماء لها نتيجة طبيعية لمحاولة الابتعاد عن الانتماء العام، ولعوامل التركيز على الوعي والإدراك ضمن إطار الهوية الجديدة؛ حيث تتعزز "السمات المميزة لطابع الفرد أو الجماعة بالمعاني ذات الدلالة العميقة لوجودهم"[13].

فالهوية الخاصة بناء على ذلك "مركَّب من العناصر المرجعية المادية والاجتماعية والذاتية المصطفاة، التي تسمح بتعريف خاص للفاعل الاجتماعي، والهوية بالنسبة للفاعل الاجتماعي، أي: أنها نتاج عمليات غرس "النواة الهوياتية" وتعميق الإحساس بالهوية الذي يمنح الكائن الاجتماعي التماسك والتوجه الدينامي على نحو شمولي[14].

يُقدَّم مفهوم الهوية في علم الاجتماع على أنه حقلٌ متعدد الجوانب، فالهوية بشكلٍ عام تتعلق بفهم الناس وتصورهم لأنفسهم، ولما يعتقدون أنّه مهم في حياتهم، ويتشكّل هذا الفهم انطلاقًا من خصائص محددة تتخذ مرتبة الأولوية على غيرها من مصادر المعنى والدلالة، كالجنس والتوجه الجنسي، والجنسية الوطنية، والمنطلقات الإثنية، والطوائف الدينية، والطبقة الاجتماعية.. إلخ[15].


ثانيًا: محددات الهوية

في حال مقاربة موضوع الهويّة من المنطلق الفلسفي المحض الذي يعرّف مفهوم الهويّة بناء على قضية الماهية وخصائص الشيء المحددة التي لا يَخرج عنها موجود، فإن هوية الفرد هي وجوده، ويَتحدّد هذا الوجود بعناصر أخرى كاللون والعرق والدين، ومن ثمّ فإن هوية الفرد الخاصة تنطلق من وجوده.

إلا أن هويّة الجماعة من عوامل أخرى تميزها بصورة عامة عن الجماعات البشرية الموجودة، ورغم وجود تشابه جزئي بين الجماعات البشرية، إلا أن وجود وعي داخل الجماعة بوجود كينونة خاصة بهم متمايزة عن الآخرين هو العامل الأساسي في تحديد الهوية المستقلة بشكل تمثل فيه الإرادة البشرية السبب الرئيس في التعريف والوصف.

تُعطي العناصر المادية والمعنوية خصائص معينة، وتُحدّد صورة عامة عن جماعية معينة، إلا أن تشكيل الوعي ودفع الإرادة لاختيار تخصيص يخالف المجتمعات المحيطة، بعدِّه الممثل الحقيقي للذات، وفق أسس ومعايير متنوعة بالإضافة إلى الظروف التاريخية وعوامل خارجية وداخلية.

تؤدّي الهوية بالنسبة للذات الفردية أو الجماعية دورًا من اتجاهين، حيث إنها: تميّز الذات عن غيرها على الصعيد الخارجي وتكون موضع اعتزازها، إضافة إلى السعي لضبط الأفراد المندرجين ضمنها للانصهار في رؤىً معينة لتعريف الذات –على اختلاف الجماعات-، أي أن الهوية تستدعى لتحقيق التشابه والتجانس والاندماج داخل الذات الجماعية وبين أفرادها.

تعمل الأطراف -التي تسعى لتكريس هوية ما- لاستبعاد كل الصفات والخصائص التي لا تعتز بها الهوية، على المستوى الداخلي والخارجي، وذلك بناء على معتقدات وأفكار وأيديولوجيات معيّنة، تستغَلُّ لتحديد العناصر التي يجب أن تكون موضع انتماء واعتزاز وما هو غير ذلك.

إضافة إلى ذلك: فإن الآخر، بما هو اختلاف عن الذات، أحد محددات الهوية؛ حيث إنها تُبنى على أساس الصورة المتخيّلة أو المصنوعة أو المختارة، إلا أن هذا يحتاج اعترافًا من الآخرين بذلك، ومن ثمّ تدخل الهويات في حالة استقطاب، بين القبول والرفض ومحاولة الاندماج أو الانفصال، والشعور بالانتماء المشترك أو الإقصاء والاختلاف.

تشترك الهويات بالشعور لانتماء عام، سواء كان ثقافيًّا كالدين، أو عرقيًّا كالقومية، أو جغرافيًّا كالدولة، أو رمزيًّا كالمعاني المجردة كقدسيّة السلام ورفض العنف والاستبداد، وبناء على ذلك يكون الشعور بالانتماء المشترك بين أعضاء المجتمع الهوياتي أمرًا أساسيًّا في صناعة الوعي بالذات والآخر، ومقدار المساحة المشتركة بينهما، وهذا يعني أن الهوية تقع أيضًا في الجانب الواعي من التفكير، وكذلك في الجانب الرمزي من الشعور، وتؤثر من خلاله في الجوانب اليومية للفرد أو الجماعة[16].


ثالثاً: الهوية الوطنية السورية تحت سلطة نظام الأسد

لم يكن وصول حزب البعث للسلطة نتاج حراك ديمقراطي في سوريا، وإنما كان نتاج انقلاب عسكريّ في سياق صعود الأحزاب القومية في البلدان العربية؛ حيث تصاعدَت نزعة القومية عمومًا أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

وجاء سياق المناداة بالقومية العربية ردًّا على سياسات التتريك أواخر حقبة الدولة العثمانية، وما تلا ذلك من انفصال عنها، ومحاولة تأسيس الدولة القومية للعرب، إلا أن تقسيم البلاد العربية تحت أشكال مختلفة من القوى الاستعمارية منع ذلك.

لم يكن الحراك القوميّ العربيّ مؤدلجًا ضد القوميات الأخرى في البداية، إلا أن وصول الأحزاب القومية بصبغتها الاشتراكية الاستبدادية إلى السلطة أدخل المجتمعات المحلّيّة في استقطاب الثنائيات بين اليمين واليسار، ومناصري الدولة القطرية والقومية، والجماعات السياسية الدينية والعرقية.

في هذا السياق، كانت أفكار حزب البعث تروّج لسوريا التي هي جزءٌ من وطنٍ قومي أكبر، والقطر السوريّ ما هو إلا نتاج تقسيم "سايكس بيكو"، إلا أن ترسيخ منظومة الحكم البعثية أخرجته من سياق الشعارات إلى سياق الولاء للسلطة[17].

وباتت الهوية الوطنية حقًّا خاصًّا لمن لا يعارض الأسد، فمعارضوه "خائنون للوطن" سواء كانوا إسلاميين أو يساريين أو من قوميّات معينة، وموالوه أبناء سوريا التي باتت تسمّى في الإعلام الرسمي بـ "سوريا الأسد".

لم تقطع سلطة البعث -قبل الأسد وبعده- العلاقة مع البنى التقليدية للمجتمع، ولم تظهر عن توجّه رسميٍّ للمحاصصة الطائفية، وإنما كانت تعطي جميع المكوّنات تمثيلاً معيَّنًا في السلطات الثلاث.

واستغل النظام تشتت الولاءات بين الجماعات الخاصة –عرقية أو دينية- وبين المجتمع من ناحية وبين السلطة ومعارضيها من ناحية أخرى، وذلك بهدف قمع الآخرين الذين لا يخضعون لرؤية النظام وسلطته، كحملات النظام ضد جماعة الإخوان في الثمانينيات، وضد انتفاضة القامشلي –الأكراد- في 2004، وضد المتظاهرين المطالبين بإسقاط النظام في حقبة الثورة السورية بعد 2011.

عمل النظام على ترسيخ صورة "النسيج المتلاحم" للتعريف بالهوية الوطنية السورية دون الخوض في تفاصيل هذا النسيج، إضافة إلى تجاهل تمايزاته العرقية والدينية والفكرية.

استطاع النظام تمرير رؤيته تلك عبر أذرعه الرسمية كالإعلام المكتوب والمقروء والمرئي، إضافة إلى سطوة أجهزته الأمنية، بالتوازي مع تحالف النظام عبر مختلف مؤسساته مع البنى التقليدية للمجتمع، والطبقة المحلية الغنية التي ترتبط بالنظام بعلاقات القرابة والدعم المتبادَل، ما جعل من ترسيخ النظام للاستبداد أمرًا بدهيًّا مقابل عدم تغيير بنية المجتمع إلى نحو يفتّت تماسكه "العضوي"[18]

تعرّضت بنية النظام لعملية هيكلة جديدة مع وصول بشار الأسد إلى السلطة، إلا أن هذه العمليّة لم تغير من طبيعة التعريف العام للهوية السورية، كما أنها لم تُغير من مبدأ التعامل مع النسيج السوري، والقائم على الولاء وعدم المعارضة.

إلا أن الهيكلة ركّزت على تجيير ثروات البلاد ومقدراتها بيد العائلة الحاكمة والمرتبطين بها، ما أخرج الدولة من الإشراف على الإنتاج ودعم الاقتصاد إلى حالة من الانتكاس الحكومي وتنامي نفوذ الأفراد، ما دفع المكونات السورية للعودة إلى بناها الاجتماعية والدينية للبحث عن الأمان والطمأنينة، ما يفسر المعضلة التي أوجدها النظام بتفجير الهويّات في حقبة ما بعد الثورة.

ورغم ترسيخ البعث لخطاب الاستبداد، إلا أنه لم يصنع "زعامات تحاصصية" في سوريا، كما هو الحال في لبنان، إذ يُهدّد ذلك الولاء له، وهو ما جرى في حقبة ما بعد الثورة؛ حيث باتت الهوية جزءًا من التحاصص وديناميّة من ديناميات تفجير الانتماءات.


رابعاً: تشتُّت الهُويّات في سوريا بعد الثورة بين الانتماء والمظاهر

سعى النظام وحلفاؤه مع حالة الحراك الميداني في سوريا -منذ أواخر عام 2011- لإنتاج توجّه لتأسيس حركات راديكاليّة، وكان ذلك السعي هو أحد خطوات إضعاف وتشويه حالة الثورة؛ فقد كانت هذه الحركات تتأكّد من الحضور الذاتي لها برفض وإقصاء الآخرين، وكان من جملة ذلك التنظيمات المسلحة ممثلة بتنظيمي "القاعدة" و"تنظيم الدولة"، إضافة إلى الأحزاب القومية الكردية كـ"حزب الاتحاد الديمقراطي" الذي استغل الحرب على "تنظيم الدولة" لترسيخ إدارته الذاتية التي تشمل مناطق شمال سوريا وشرقها في ظل استمرار الحرب القائمة منذ 10 سنوات.

أظهرت الأحوال الميدانية -والسياسية كذلك- الشروخ والانقسامات في المجتمع السوري الذي اتضح للعيان في حقبة ما بعد الثورة؛ حيث بدأت تتآكل هويّة الانتماء الجامعة لسوريا، لصالح ترسيخ هويات متعددة بتعدد الجماعات والقوميات والطوائف.

تستعرض الورقة الحالية ثلاثة نماذج لتشتت الهوية الوطنية السورية إلى هويات أصغر، بدءًا من السعي لترسيخ هوية "كرديّة" و"علوية" و"جهاديّة" متمايزة عن النسيج السوريّ، المنتمي -في غالبيته- للهوية السورية المحافظة بشكل عام.

ترسيخ "الهوية الكردية" بين توسيع السيطرة والسعي نحو الانفصال

تضيف المسألة الكردية بُعدًا إشكاليًا لمعضلة الهوية التي تفجرت مع الثورة السورية؛ حيث قدّمت الأخيرة –على نحو متوقع- مروحةً من الفرص لأكراد سوريا لتحقيق أهدافهم التي تتراوح ما بين المعتدلة والجذرية.

وكغيرهم من مكوّنات المجتمع السوري، لم ينتج الأكراد حالة متجانسة ولم يصادقوا على برنامج سياسي موحد، وكانوا عرضةً لعملية مستمرة من الانقسام، ويبدو -على ضوء ذلك- أن الهوية الكردية قد تعرضت لعملية إعادة إنتاج عنيفة من قبل أصحاب مشاريع سياسية ولاعبين متعددين وظّفوا القوة الماديّة والرمزية لصياغةِ هويةٍ من شأنها المساعدة على فرض سيطرتهم.

ومع توسّع رقعة الاحتجاجات واستمالة النظام حزب الاتحاد الديمقراطي للوقوف معه برزت أحلام كثير من الشباب القوميين لتحقيق "كردستان الكبرى" التي تضم أجزاء من العراق وشمال سوريا وشرق تركيا وغربي إيران، وصدرت لذلك تسميات جديدة لشمال سوريا تمثلت بإقليم "روج آفا" وانتشرت صور رئيس حزب العمال الكردستاني "عبد الله أوجلان"، والدعوة لأفكاره حول الأمة الكردية وحكم "الشعوب" لنفسها في مناطق انتشار الحزب.

سيطرت قوات "قسد" التي يمثّل حزب الاتحاد الديمقراطي عمادها على أهم مدن شرقي سوريا، كالرقة ومنبج ودير الزور، والحسكة، وعملت على تهجير أكثر من 100 قرية وبلدة وتجريف كثير منها[19].

وترافق ذلك مع ترويج إعلاميّ كبير على وسائل التواصل الاجتماعي حول الأصول السكانية لهذه المناطق، وكون الأكراد الساكن الأول لها في التاريخ، وأنّ العرب طارئون عليها ومحتلون لها بدعم من سياسات حزب البعث. وأفضى ذلك لظهور نداءات من قبل جهات مختلفة تطالب بالانفصال عن سوريا.

تصاعدت إجراءات "قسد" بالتشديد على قدوم السوريين إلى مناطق سيطرتها، وطلبها وجود كفيل كرديّ لكل من يودّ الإقامة فيها[20]، إضافة إلى منح العناصر الكردية المنتمية لحزب العمال الكردستاني أفضلية على العرب والأكراد السوريين المعارضين لسياسات "قسد".

في سياق تفعيل الهوية الكردية الخاصة، فقد تم تعديل أسماء المدن الشهيرة في المنطقة إلى أسماء كردية، مع تجريم عدم الاعتراف بحقيقة هذه الأسماء، بالتوازي مع العمل على بث الكره للعرب تحت ستار مقاومة "تنظيم الدولة"، باعتبارها "ميليشيات عربية"[21].

أصبح حزب "الاتحاد الديمقراطي" بمنزلة المنقذ لوجود الأكراد في ظل الفوضى والأوضاع غير الآمنة التي يعيشونها والمرشحة للاستمرار في حقبة ما بعد الأسد، ورغم أن الحزب لم يحظ بالشعبية بين سكان رأس العين الذين كانوا ميالين أكثر نحو المجلس الوطني الكردي، إلا أنه الآن مدعوم من أغلب سكانها لأنه يدافع عنهم ضد "تنظيم الدولة" ويلبي حاجاتهم اليومية[22].

الهوية الكردية وإعادة الإنتاج

قام حزب الاتحاد الديمقراطي برفد خطابه وأنشطته بمضامين كردية عميقة، كما تلاعبَ برموز خاصة بالتاريخ الكردي لأجل تعزيز الهوية الكردية وفق تكتيك يبدأ من الأعلى وينتهي بالأسفل.

على سبيل المثال انتشرت بورتريهات وصور مؤسس حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان باعتباره أيقونة القومية الكردية التي تظهر باستمرار في التجمعات الحاشدة التي ينظمها حزب الاتحاد الديمقراطي، كما أن محتوى اللافتات التي ترفع في مناطق سيطرته تكون في الغالب مكتوبةً بالكردية.

إضافة إلى ذلك، استثمر الحزب في فرض تدريس اللغة الكردية، وتغيير المناهج في مناطق سيطرته لتعزيز الرؤى التي يؤمن بها ونشرها خارج نطاق الحزام الكردي، كمناطق العشائر العربية جنوبي الحسكة وفي الرقة ودير الزور.

كما استثمر حزب الاتحاد الديمقراطي في تجمعاته الجماهيرية ميزاتٍ أخرى للرموز الكردية كالعادات والأعراف التقليدية والموسيقى.

علاوةً على ذلك، فإن الأعلام الكردية وأعلام الحزب وحدها التي يُلوّح بها بينما لم يتم الاعتراف بعلم الثورة السورية في مناطق سيطرته، وبذلك بدا أسلوب عمل حزب الاتحاد الديمقراطي متسقاً مع جدول أعماله دون أن يترافق ذلك مع اهتمامٍ بالثورة التي عمّت سوريا[23].

ومن الأمور الحيوية التي ركّز عليها حزب الاتحاد الديمقراطي: تأسيسه لأدوات تواصل خاصة به للترويج لرؤيته، فللحزب مثلاً موقع إلكتروني ينشر أخبارًا ومقالات معنية بالشؤون الكردية في سوريا، ويعتمد خطاباً لتشجيع الهوية الكردية مثل الإشارة إلى المناطق الكردية في سوريا بـ"غرب كردستان" مع إغفال أي ذكر لسوريا.

وتحت عنوان "أخبار روج آفا"، يُظهر موقع الحزب الإلكتروني الأحداث التي تجري في مناطق سيطرته الممتدة من دير الزور جنوبًا إلى القامشلي شمالاً ومنها إلى منبج غربًا وتل رفعت وعفرين شمال غربي سوريا[24].

إضافة إلى ذلك، أنتج الحزب عددًا كبيرًا من الأغاني الداعمة لمشروعه الطارئ في سوريا؛ حيث كانت معظم تلك الأغاني باللغة الكردية، إلا أنه أنتج أغاني باللغة العربية والسريانية في بعض الحالات تماشيًا مع توسيع نطاق جمهوره المستهدَف.

يُظهر تحليل نصوص الأغاني العشر الأكثر شهرة لحزب الاتحاد الديمقراطي أن الكلمات الخمس الأكثر تكرارًا هي: وحدات حماية الشعب YPG، الأبطال أو الأسود، الحلم يتحقق، الشعب الكردي، الثورة أو الانتفاضة؛ حيث تمثل كل واحدة منها رمزية أساسية في سرديّة الحزب ودعايته، فوحدات حماية الشعب هي العمود الأساسي لقوات الحزب، وهم الأبطال الذين يحققون حلم الأكراد بوطن قومي، والسبيل إلى ذلك هو الثورة على الاستبداد[25] –العربي-.

بناءً على هذا التحليل فإن الثورة السورية سهّلت الطريق للبدء ببناء هوية كردية متمايزة ومنفصلة عن عموم الوطن السوري، وترافق ذلك مع وجود العوامل الآتية:

  1. الفاعلون على الأرض، ويتمثل ذلك بحزب الاتحاد الديمقراطي الذي سعى لإعادة إنتاج الهوية الكردية على نحو يخدم أهدافه، إضافة إلى الفاعلين الآخرين كالمجلس الوطني الكردي الذي لم يستطع السيطرة على مساحات تساعده على فرض وجوده أمام حزب الاتحاد الوطني، إلا أن كِلَي الطرفين استغلوا الرمزيات الكردية كالفلكلور واللغة والتاريخ والأحلام بالوطن الخاص لتعضيد الهوية الكردية على حساب الهوية الوطنية السورية.
  2. انتهاج التغيير من الأعلى إلى الأسفل: ويتحقق ذلك بأساليب "قسد" بفرض الأجندة التعليمية والفكرية للحزب في مناطق سيطرته وإن لم تكن فيها عائلات كردية، ما يثير صداماتٍ محتملة حول الهوية مستقبلاً، في سياق عمليات إنتاج الهويات داخل سوريا.

البحث عن "إمارة الإسلام" بين المحلّي والعالمي

لم تكن بوادر البحث عن تطبيق الشريعة بالمنظور الجهاديّ قد طفا على السطح حتى ظهور نوعين من الجماعات الجهادية في سوريا، أولهما محلّي، وهو ما تعرّض للتحوّل في خطابه عدة مرات، إلا أن الجماعات الجهادية العالمية لم تتعرض للتحوّل في الخطاب بقدر التحولات القسرية التي أصابت هياكلها جرّاء المعارك التي أقيمت ضدها[26].

تطوّر خطاب حركة أحرار الشام وجماعة جيش الإسلام نحو الاندماج مع الهوية الوطنية السورية[27]، وكذلك نلاحظ هيئة تحرير الشام تنحو لتعزيز الهوية المحلية مقابل رفض السمة الجهاديّة المعولمة التي تصنّف على أساسها ضمن قائمة الإرهاب[28].

في المقابل فإن خطاب "تنظيم القاعدة" و"تنظيم الدولة" -بدرجة أكثر جذرية وتطرفًا- ما زال يدور حول بناء دولة الشريعة ومحاربة العدو البعيد –والقريب لدى تنظيم الدولة- إضافة إلى إطلاق أحكام الردة والتكفير ضد الحكام –وعموم مواليهم من المسلمين لدى تنظيم الدولة-.

إنتاج الهوية الجهادية

لضمان طاعة المجنّد لجماعته فإنه لا بد من إخراجه من الدوائر التي يؤمن بها وتشكيل هوية جديدة يتعرّف من خلالها لواقع الصراع في سوريا، وقد تمّ ذلك من خلال عدد من الخطوات:

  • تعريف المخالف: حيث يوضع "الآخرون" ضمن خانات محددة، كـ"المرتد" و"النصيرية" و"الصحوات" و"الصليبي"، وتقتضي هذه المصطلحات دلالات تتركّز على إباحة قتل الفرد أو المجموعة، وقتال الخصم وأخذ أمواله بالعنف، لانطباق واحدٍ من هذه الصفات عليه.
  • الدمج في جماعة "الجهاد": ويكون ذلك عبر الانخراط المباشر مع مجموعات المتدربين ضمن معسكرات الجماعة، حيث تشكِّل المعسكرات الدعوية ضمن التنظيمات الجهادية ميدانًا أساسيًّا لتشكيل هويّة المنتسبِ للجماعة، ففيها يلقّن –إلى جانب المهارات العسكرية والبدنية- مقولات المراجع الجهادية كالمقدسي وأبي قتادة الفلسطيني، أو أبي علي الأنباري –من شيوخ "تنظيم الدولة"-.

وتختزَل خطوات الدمج بالعبارات التي تعرّف العنصر بنواقض الإيمان، ومبادئ "التكفير" وأسس الدعوة التي تحملها المجموعة التي ينتسب لها، وكذلك تشكل قضية التمدد نحو دول أخرى وإنشاء شبكة من الموالين فيها، واستهداف تلك الدول، أو قبول الدخول في عملية التفاوض معها، فارقًا بين المحلّي والعالمي في الجماعات الجهادية.

  • بناء الرمز: ففي الحين الذي كانت الجماعات الجهادية المحليّة تركّز فيه على بناء فضاء التضحية والإقدام والشجاعة -ضمن معسكراتها وخطبها وأناشيدها- لإعلاء "كلمة الله وتحكيم الشريعة في سوريا"، كانت معسكرات وخطب وكلمات وأناشيد تنظيم الدولة تركّز التضيحة والإقدام والمواجهة لبناء الدولة الإسلامية وامتدادها إلى مختلف البلدان ومحاربة "أمم الكفر" لنصرها وبقائها.

استطاعت "جبهة النصرة" و"تنظيم الدولة" تجيير عملية "صناعة الهوية الجهادية" لصالح قتالها ضد الفصائل المنافسة لها، وقد ظهر ذلك جليًّا في عملية مواجهة قوات "تنظيم الدولة" لفصائل "الجيش الحر"، حيث وجّهت لهم الاتهامات المباشرة بالردة واغتصاب "نساء المهاجرين" في دفع مباشر لهويّة "المجاهد" المهاجر الذي يجب أن يدافع عن عرضه ودينه أمام هجوم "المرتدين"، وكذلك استغلّت "جبهة النصرة"، تهمة التآمر مع الغرب لتفكيك الجبهة للقضاء على حركة "حزم"، وكذلك استغلت تهمة "العمل على تسهيل مسار أستانة والحل السياسي، لتفكيك حركة نور الدين الزنكي، وقد نجح الأمر -في عمقه- لوجود العنصر المتحفّز للقضاء على الآخرين تحت الوصف الذي يقدّم له.

العلوية، من هويّة "الحاكم" إلى هويّة "الحكم"

يمكن اعتبار القرن الرابع الهجري البداية الفعلية لظهور الطائفة العلوية، وقد كان انتقال "الحسين بن حمدان الخصيبي" –358 هـ- المدفون في حلب[29] سببًا أساسيًّا في انتقال المذهب من العراق إلى حلب[30]، ومنها إلى جبال الساحل في فترة لاحقة، حيث استوطن "العلويون" في جبال أنطاكيا والإسكندرونة واللاذقية، وأسهمت عمليات الهجرة في حقبة الانتداب الفرنسي وحقبة حكم الأسد بانتقال أعداد كبيرة إلى ريفي حمص وحماة بصورة أساسية.

كان لمراسيم الظاهر بيبرس دور في إبعاد العلويين عن المناصب الرسمية في عهد المماليك، كما أن الصورة الذهنية التي ترسّخت لدى العامّة حول كفر "العلويين" وتعاونهم مع الصليبيين إبان حملاتهم على الشرق الإسلامي، زادت من اندفاع العلويين نحو العزلة.

ودفعت حملة كسروان العلويين واستقرار العثمانيين في بلاد الشام للعيش في جبال الساحل، وكان أسلوب إخفاء المعتقدات العلوية عن الأبناء حتى بلوغ سنّ معيّن أحد أبرز أسباب تناقص معرفة العلويين بعقائدهم، إلا أن هذا الإخفاء للمعتقدات كان شكلًا من أشكال المقاومة.

فالسرية والباطنية سمة تميز الهوية الرئيسة للعلويين حتى في سوريا المعاصرة، وقد كانت السياسة الفرنسية في حقبة الانتداب سببًا في بدء انبعاث الطائفة نحو السلطة مرة أخرى؛ حيث كانت دولة العلويين أحد أهم الأقاليم التي أقامها الفرنسيون خلال الانتداب.

حاول زعماء الطائفة العلوية ثني الفرنسيين عن إدماجها في دولة سوريا، إلا أن وصول العلويين للسلطة واندماج أعداد كبيرة منهم داخل الجيش وحزب البعث، دفعهم للتأكيد على أنهم "عرب" وأن هويتهم العربية هي الأساس لوصولهم إلى الحكم في سوريا[31].

كان لوصول الأسد إلى السلطة دور أساسيٌّ في تعزيز حضور العلويون في مفاصل السلطة، سواء الاقتصادية أو الأمنية أو العسكرية، وقد تعزّزت هويّة العلويّين بمركّباتها الطائفية والباطنية، وقد كان ذلك باديًا في الانتشار الديموغرافي المحدَث للطائفة في سوريا، أو في استدعاء الرمزيّات الشيعية التي تعزز من تلاحم الجماعة إبّان الحرب المندلعة في سوريا منذ 10 سنوات.

العلويّة السياسيّة

أشار المفكر صادق جلال العظم، إلى أن الصراع في سوريا سيبقى مستمرًّا ما لم تسقط العلويّة السياسيّة، مشبِّهًا إياها بالمارونية السياسيّة التي كان سقوطها سببًا في إنهاء حالة الاقتتال الأهلية في لبنان[32].

تتركّز الهويّة السياسية "للطائفة" بإيمانها بحق "الأسد" بتكوين سلالة عائلية حاكمة في سوريا، أي أنّ وعي الطائفة العلوية لم يتمركز حول استعصاء الطائفة في بناء الدولة وإنما بمركزية الشخص في الوصول للسلطة بمعنى: أن تمحورها حول رأس النظام الأب ثم الابن، لا بوصفه قائدًا سياسيًا تتحقق من خلاله عملية العصيان بالسلطة، بل باختلاط واندماج ذلك مع المعتقد الديني العلوي الذي رأى في رأس النظام قائدًا يصل في درجته إلى مرتبة التقديس، ما يجعل هذه الحالة متجاوزة لحالة استبطان العصبية القوميّة والطائفية في أحشاء الدولة، بل تترافق مع باطنية سياسية دينية تنمو فيها باعتباره نوعاً من الباطنية الدينية العلوية[33]

علونة الجيش

مع كل الجدل المصاحب لنظرية العلوية السياسية والأخذ والرد بين رافضٍ للفكرة أو متفق معها، إلا أن الأمر كان يتضح لكل سكان سوريا بأن النظام بنى نفسه على الأساس الطائفي العلوي، ولم تقتصر تلك الفكرة على الأمور السياسية والحكم والمناصب السيادية، وإنما تعدّتها للدخول في تصفية المؤسسة العسكرية لتصبح محكومةً بالعصبية العلوية؛ سواء كانت عشائرية أو عائلية أو دينيّة.

ورغم أن الجيش السوريّ يضم العديد من الطوائف ويعدّ العنصر السنّي الأكثر عددًا ضمن مجنديه، إلا أن "الحالة العلوية" تسيطر على مراكز القرار والقيادة والتحكم بكل الموارد واتخاذ القرارات، حيث يسيطر الضباط العلويون على 100% من أهم 40 منصبًا قياديًا في الجيش السوري، بالإضافة لاحتفاظ بشار الأسد بقيادة الوحدات النوعية ضمن أبناء القرداحة أو ممن ينتمون لعشيرته أو لعشيرة أخواله".

كما يشغل الضباط العلويون المنحدرون من محافظة اللاذقية 23 منصبًا قياديًا من المناصب الـ40، ومن ضمن تلك المناصب: القائد العام، وزير الدفاع، الحرس الجمهوري، الوحدات الخاصة، الفرقة الرابعة، بالإضافة لعدد آخر من الفرق والمناصب.

في حين يشغل الضباط المنحدرون من محافظات طرطوس 7 مناصب وحمص 6 مناصب حماة 4 مناصب، واقتصر التوزع الجغرافي بشكل عام على ضباط من 4 محافظات فقط هي (اللاذقية - طرطوس - حمص - حماة) من أصل 14 محافظة سورية.

الأساس الأهم في ترفيع هؤلاء الضباط وتعيينهم في مناصبهم يتجاوز المهنيّة، بل هو ترفيع طائفيٌّ حينًا، وعشائريٌّ حينًا آخر، وعائليٌ في أحيانٍ أخرى، خصوصًا أن تعيين هؤلاء الضباط قد تم بشكل مباشر من بشار الأسد، ما يعزز من فرضية سيطرة الطائفة على الجيش وتحويله من أداة للدولة إلى هويةٍ للطائفة فيتحول الجيش العربي السوري رسميًا إلى الجيش العلوي السوري[34].

العلويّة الديموغرافية

تنقسم العمارة في سوريا إلى عدة أصناف، وهي: العمارة العسكرية وتضم كل المباني الحكومية والقصور الحكومية والمنشآت العسكرية والتماثيل الضخمة، والعمارة المدنية التي تضم المجمعات السكنية والأسواق والمباني الخدمية، ويلاحظ أنها بالمحصلة أدوات للهيمنة على جوانب الحياة في سوريا بهدف إنتاج مجتمع الأسد ذي الصبغة الواحدة التي تفرضه قائدًا أوحدًا باقيًا إلى الأبد.

شرَعَ حافظ الأسد في بناء مجموعة من الأحياء السكنية الجديدة حول العاصمة دمشق، بهدف توطين العدد الكبير من القادمين الجدد إلى العاصمة، من عمال حزبيين وضباط الجيش، في سياسة هجرة داخلية لتغيير النسيج المجتمعي في المدينة، بهدف ملئها بموالين له، لضمان مجتمع "متجانس" وفق الرؤية الاستبدادية التي يكرسها الأسد، ولعدم تشكيل مجتمعات حقيقية صلبة في مواجهة الحكم الشمولي، وفكرة "القائد إلى الأبد".

أنشئت في دمشق، تجمعات سكنية خاصة بالعسكريين وعائلاتهم مثل ضاحية الأسد في حرستا عند المدخل الشمالي لمدينة دمشق، التي أُمر في البدء ببنائها عام 1982، وتوجد حتى الآن عند مدخلها لافتة تقول إنها هدية حافظ الأسد إلى الضباط العسكريين، ومساكن السومرية التي بناها رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد وقائد سرايا الدفاع المسؤولة الأساسية عن المجازر التي ارتكبت في ثمانينيات القرن الماضي، فيما يعرف بأحداث الثمانينيات.

كانت الأرض التي بُنيت عليها هذه المساكن ملكًا لأهالي معضمية الشام في الغوطة الغربية، إلا أنها حملت اسم ابن رفعت الأسد "سومر"، وسكنها عناصر سرايا الدفاع وضباطها، وباتت تعرَف باسم "مساكن السومرية".

كُرّس التوزيع الديمغرافي في بعض هذه الأحياء على أساس طائفي؛ حيث امتاز بعضها بأن معظم سكانها علويون مثل حي الزهور التابع لمنطقة الشاغور، وأخرى سكانها من الدروز مثل جرمانا التي تتمركز جنوب شرق دمشق، وبعضها من الشيعة مثل السيدة زينب جنوب دمشق.

ووفق هذا المخطط من العمارة العسكرية والمدنية تفتّت دمشقُ مجتمعيًا، إضافة إلى صناعةِ مجتمعات طائفيّة داخلها بالتوازي مع تشويه صورة المدينة معماريًا وعمرانيًا بانتشار الأحياء العشوائية التي تشذّ عن الهوية الثقافية القائمة للمدينة الممتدة لمئات السنين[35].

تعزيز الهوية في زمن الثورة

كانت الحالة الحالية السبب الأبرز لإظهار الهوية العلوية بِعدِّها انتقامًا من الأكثرية، وتأكيدًا على الهيمنة المطلقة لمصير سوريا، فكانت المجازر المرتكبة ضد الأطفال والمدنيين في حزام القرى العلوية في حمص وحماة والساحل "الحولة- تريمسة- البيضاء- الحفّة" أداةً لتفريغ المنطقة من أهلها، وشحن العداء الطائفي.

تمظهرت هذه الهوية العميقة بمظاهر عدّة، كانبعاث الأناشيد العلوية التي تمجّد الأسد وتستهزئ بالرموز الإسلامية[36]، خاصة أنشودة "المدّ العلويّ تفجّر، والحلم الأمويّ تكسّر[37]" التي كانت تذاع بصوت مرتفع على سيارات متنقلة في دمشق وحلب، إضافة إلى بثّها على بعض حواجز في هذه المدن[38].

بالتوازي مع المظهر الغنائي، يلاحَظ تنامي الاعتزاز/الاحتقار لدى الأطفال في مدارس الساحل، حيث بات أبناء النازحين -من المدنِ التي عرِف اشتراكها بالثورة- محطّ سخرية بأنهم "غرباء" و"أبناء الإرهابيين" و"كلاب الناتو" وأن سوريا ستبقى "بيدهم ويد الأسد"[39].

وبالتوازي مع تأكيد مضامين الهوية العلوية قامت المليشيات الإيرانية بعمليات تشييع ممنهجة في البلاد بدءًا من الدعوة للتجنيد في سوريا باسم الدفاع عن المقدسات الشيعية، وصولًا لاستقطاب السكان المحليين لتغيير عقائدهم والتديّن على مقتضى التمذهب الإيراني، إضافة لبناء المقامات الدينية وتشكيل مليشيات سوريا على الأساس الطائفي وإغراء الطلاب بالتعليم المجاني في إيران وتقديم رواتب شهرية للمتشيعين الجدد، مما جعل من عملية الإعلان عن المضامين الخفيّة للهوية العلوية أمرًا أكثر يسرٍ من ذي قبل.

لم تكن الثورة سببًا في صناعة الهويّة العلوية؛ إذ إن مقوّماتها كانت قد صيغت على امتداد حكم الأسد الأب والابن، إلا أن استدعاء الشحن الطائفي ههنا مردّه البحث عن التلاحم في داخل الطائفة، ورفد صفوف المقاتلين حول الأسد بأعداد مستمرّة.

فالنظام لا يقمع بمؤسساته الأمنية المُطيّفة أصلاً، وإنما يستنفر المجتمعات التي تؤمن بأبديّته في الحكم ويمنحها السلاح بدعوى الدفاع عن مناطقهم، إلا أنها كانت أداة للجذب والغرق في دم الآخر؛ سواء كانوا أطفالاً أو نساءً أو مقاتلين.

لقد حدّدت مجريات المعارك وهمجيّة القصف مهمّات المجندين، ليتبين أن الأجندات التي ينفذونها تحدد لهم هويتهم كعلويين، واستغلال انعكاسات الاندفاع نحو الموت لتحقيق مطامع رأس النظام السوري والقيادات المحيطة به.


خامساً: توصيات على طريق الخروج من الشتات

لا يمكن إنكار حالة التعدد العرقية والثقافيّة وتشابك هاتين الخصيصتين مع بعضهما في الواقع السوري، إضافة إلى إفراز كلٍّ من هذه التقسيمات خليطًا معقّدًا من "المظلومية" المقرونة بالمصالح والأيديولوجيا والمطالبات الملحّة بتحقيق الذات والاعتراف بالهوية "الثقافية" والسياسية للجماعة رغم تأثر القوميّات والجماعات الإثنية الأخرى بهذا الأمر، ما يحتّم على المفكّرين والمؤثرين توجيه الرأي العام للاجتماع على أسس مشتركة تتيح تقديم التنازلات المتبادلة من قبل الجميع.

بناء على ذلك، فإن الدراسة تقترح التوصيات الآتية على أنها تشكّل إطارًا/إشارات للخروج من حالة التشظّي في تعريف الهوية الوطنية السورية:

  • التأكيد على أن الهوية منتَج اختياريٌّ قائم على مجموعة من التمايزات الثقافية والعرقيّة، إلا أنها ليست اختلافات جوهرية وإنما هي حصيلة اختلاف "التعريف"، إضافة لامتداد الزمن الذي تكرّست فيه تعريفات أخرى "استبدادية" أدمجت السوريين ضمن نطاق قسريٍّ من الأيديولوجيا عبر ممارسات تشاركت فيها المؤسسات الأمنية والإعلامية والتربوية، بناءً على منطق تمييزي ودفعها لحالة من التصارع "المكبوت" الذي يتيح لها الانفجار في حال رُفع الضغط عنها.
  • إن المحكّ الأهم لتعزيز الانتماء للوطن السوري أو للهوية الأوسع وهي الهوية العربية عمومًا يتمحور حول الوصول لحلٍّ لواقع الصدام والتقسيم الفعليّ بين مكونات سوريا، وذلك بإطلاق عملية سياسيّة وتنموية، بالتوازي مع إطلاق عملية لتحقيق العدالة الانتقالية، والبدء بعملية إعادة الإعمار وعودة المهجّرين لمنازلهم، إضافة لترسيخ قضية الحوار ونبذ العنف، وأحقية الإنسان بالتعبير عن الرأي في إطار الاحترام المتبادل.
  • وضع برنامج نظريٍّ وقانوني لتعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان في سوريا، بالتوازي مع تجريم تحقير الآخر بناءً على قوميته أو طائفته أو ثقافته، والتأكيد على احترام المكوّنات السورية لبعضها مع الإقرار بحقها في التعبير عن ثقافتها والاعتزاز بلغتها دون التعدّي على بعضها البعض.
  • العمل على تكوين نظرية ثقافية منفتحة لتعريف الهوية الوطنية السورية، بناء على المشاركة والتعدد دون إغفال التنوع الإثني والمذهبي والديني، بالتوازي مع ابتكار آليّة جديدة من النظام الإداري في شكل الدولة، قائم على الاستجابة للحساسيات الثقافية والمناطقية وغيرها.
  • ينبغي الاهتمام بشريحة الشباب والاقتراب منهم ودفعهم للتعرف للتنوّع السوريّ وإقناعهم بالقدرة على الوصول لواجهة العمل الوطني وامتلاك زمام المبادرة لتغيير حالة التشظّي، بعدِّهم الحامل الأوّل لمشروع الثورة والخاسر الأوضح إثر الانكسارات التي عايشته، كما أنهم الأقدر على تطبيق الثقافة المؤسسة للرؤية الوطنية الجامعة، استنادًا إلى معرفة الذات والآخر من خلال قراءة الخصوصيات في إطار التحولات والشروط الموضوعية.

خاتمة

  • تعود هشاشة الوعي بالهوية الوطنية السورية الجامعة إلى عوامل مختلفة، أبرزها: آليات إنتاج الهوية في حقبة حكم البعث الذي رسّخ صبغ الفضاء العام بالأيديولوجيا القومية، كما عمل حكم الأسد على ترسيخ نمطيّة حكم تحالفات الاستبداد "الطائفي" مع مختلف الطبقات السورية، ما ساهم في إنتاج هويات متعددة خامدة.
  • لم تصمد الهوية الوطنية الجامعة التي نادت بها جموع المتظاهرين من مختلف دياناتهم وأعراقهم وطوائفهم في سوريا، إلا أن المحاصرة العنيفة للخيار الشعبي إضافة إلى التطييف المتعمّد للصراع من قبل السلطة أولاً، ثم السلفيّة الجهادية والرغبات الانفصالية الأيديولوجية ثانيًا بالتوازي مع ضياع الرؤية الوطنية لدى مؤسسات المعارضة ما أسهم في تخندق أطراف الصراع خلف توجهات طارئة باتت تعمل –بمجموعها- على ترسيخ هويات جديدة تتماهى مع قواعدها الفكرية والعرقية والطائفية كالهوية الجهادية والانفصالية والعلوية.
  • لقد أسهم تشابك الملفات المختلفة من إستراتيجيات الدول الإقليمية والعالمية في إطالة الصراع السوري، إضافة إلى تعزيز تشظي الهويات المحليّة وتغليبها مقابل تلاشي الهوية العامة التي تضمن اندماج مختلف أطياف الشعب السوري في إطار شامل دون إقصاء للآخرين.

الكلمات المفتاحية