السيسي يهدم تراث مصر.. كيف تصدى الشعب لبلدوزر "فضة المعداوي"؟

إسماعيل يوسف | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في عام 1988 عرض التلفزيون المصري مسلسل "الراية البيضا" للسيناريست الراحل أسامة أنور عكاشة، الذي رصد في حلقاته الدرامية تغول مظاهر القبح على الجمال بهدم مبان تراثية وتاريخية ليحل محلها أخرى خرسانية صماء.

عكاشة ختم المسلسل بمشهد جلوس المدافعين عن الحضارة والتراث من المثقفين والطلاب والأساتذة وغيرهم على الأرض لمنع مرور بلدوزر المليونيرة "فضة المعداوي"، تاجرة السمك، وهو يتجه لهدم فيلا الدكتور مفيد أبو الغار الأثرية بالإسكندرية، حسب أحداث المسلسل.

الآن، وبعد 33 عاما على هذه الاستغاثة، عاد المصريون ليقفوا ضد معاول نظام عبدالفتاح السيسي التي تهدم ملامح أثرية وفنية وتراثية ثقافية مصرية بدعوى التطوير أو توسيع الطرق، بينما الهدف سياسي واقتصادي، وفق متابعين.

الهدف السياسي، هو إخلاء طرق وتمهيدها لتسهيل الوصول إلى عاصمة السيسي الإدارية (المنطقة الخضراء) في صحراء طريق السويس، عبر سلسلة كباري عشوائية ينفذها الجيش المصري.

أما الهدف الاقتصادي فيتعلق بالبيزنس، بتحديد رسوم لعبور الكباري يجمعها الجيش، وبناء مطاعم وكافيتريات أسفل الكباري يشرف عليها الجيش أيضا، وبيعها، وهو ما يجري أيضا بكثافة على شواطئ المدن الساحلية ونهر النيل.

بلدوزر السيسي

المصريون أطلقوا على بلدوزر السيسي الذي يقوم بالهدم واقتلاع الأشجار والحدائق والمباني وحتى المقابر الأثرية، اسم "بلدوزر فضة المعداوي"، نسبة إلى الشخصية الشعبوية الضحلة التي ظهرت في المسلسل، وسعت لهدم قصر أثري لبناء برج سكني.

لكن "بلدوزر فضة المعداوي" الجديد وصل إلى محطة أزعجت كل المصريين، عقب الكشف عن بناء كوبري علوي بجوار "كنيسة البازيليك" أو "البارون" الأثرية، التي بنيت عام 1913 كنسخة مصغرة لكاتدرائية أيا صوفيا بإسطنبول (قبل تحولها لمسجد)، ويشوه معالم المنطقة التاريخية.

بلدوزر السيسي اصطدم هذه المرة بغضب شعبي أوسع وحملات رفض بدأت تتحدث عن مخططاته التدميرية وفشل مشاريعه وهدم المعمار والتراث التاريخي وغياب التخطيط، ما دفعه للإبطاء.

في يوليو/ تموز 2020، فوجئ المصريون بالبلدوزرات الحكومية تقوم بالمرور فوق جثمان التاريخ في منطقة مقابر المماليك الشهيرة، أقدم جبانات العالم المبنية على الطراز المملوكي، وإزالة مباني وأسوار مقابرها، لإنشاء كوبري علوي من وسط القاهرة حتى شرقها (حيث العاصمة الإدارية).

كان التبرير الرسمي هو أن المقابر ليست مسجلة كمنطقة أثرية، برغم أن تاريخها يعود لنحو 5 قرون، وتضم رفات العديد من رموز مصر، من العز بن عبد السلام، حتى العهد الملكي ومشاهير حديثة مثل الروائي إحسان عبد القدوس.

هدم المقابر كان ضمن سلسلة من أعمال الهدم بالبلدوزر لمئات البنايات والقصور التاريخية وتدمير حدائق وقطع أشجار عمرها مئات السنين، لبناء عشرات الكباري العلوية، التي تصب في العاصمة الإدارية.

تدريجيا، تحوّلت مناطق تراثية تاريخية إلى خرابات.. طال البلدوزر رفات قبر المقريزي نفسه، مؤرخ مصر، الذي حفظ تاريخ القاهرة الإسلامية، وامتد التخريب، المرتبط بالبيزنس، لكورنيش الإسكندرية الذي غيبته كازينوهات القوات المسلحة الخرسانية وحجبت البحر عن المصريين.

سبق هذا كله، في 12 فبراير/شباط 2019، هدم "وكالة العنبريين" – نسبة إلى عطر العنبر- في شارع المعز بالقاهرة القديمة، والتي يرجع تاريخها إلى عصر السلطان قلاوون، وحوّلها العثمانيون إلى وكالة لصانعي العطور.

غياب التخطيط العمراني السليم وحلول مظاهر القبح في مشاريع الكباري العلوية، جعل آلة القتل الذي لا يتوقف في مصر للبشر، تنتقل لتدمير تاريخهم ومستقبلهم ومبانيهم وآثارهم، وحتى قبورهم التاريخية، وجرف أمواتهم، ومعه تصاعد الرفض، وفق مراقبين.

السيسي، الذي أعلن عدة مرات أنه لا يؤمن بما يسمى "دراسات الجدوى" ومن ثم التخطيط، ويسير على دربه مسؤولي حكومته، قام ببناء عشرات الكباري في حي مدينة نصر، ومصر الجديدة شرق القاهرة لتمهيد الطرق إلى منطقته الخضراء (العاصمة الإدارية).

وخلال 4 شهور، تمت إزالة 390 ألف متر مربع من المساحات الخضراء، في حي مصر الجديدة، واقتلاع النخيل وأشجار الفيكوس القديمة لتوسيع طريق السيارات بتكلفة 48 مليون دولار، وفقا للصفحة الرسمية لمحافظة القاهرة على فيسبوك.

"أيا صوفيا مصر"

كان الكوبري الذي تم الإعلان عن بناؤه في حي مصر الجديدة، بالقرب من مقر رئاسة الجمهورية (قصر الاتحادية)، ليمر بجوار أشهر كنيسة تاريخية بُنيت على طراز كنيسة أيا صوفيا البيزنطية، ناقوس خطر نبه المصريين للجريمة التي تحدث يوميا.

الكنيسة التي حضرت ملكة بلجيكا وبعض الأساقفة والأمراء والأميرات مراسم افتتاحها عام 1913، وتتبع الكنيسة الكاثوليكية حاليا، ستتحول من تحفة فنية، إلى أعمدة خرسانية تحيط بها، وأسفل كباريها مطاعم وكافيهات ستشوه جمال المنطقة التاريخية.

ما يُبني ليس جسرا واحدا، لكنه مشروع يتضمن ما لا يقل عن 6 جسور تربط بين مصر الجديدة وطريق السويس الذي يؤدي إلى العاصمة الإدارية، ويشرف الجيش على بنائه.

وعلى طريقة "فيلا أبو الغار"، تكاتف أهالي المنطقة وأطلقوا "مبادرة تراث مصر الجديدة"، لرفض بناء الكوبري وقالوا إنه سيحول "جمال" منطقة أثرية لها طابع معماري فريد إلى "قبح" من الأعمدة الخرسانية.

ووفق بيان المبادرة في بيان 3 فبراير/ شباط 2021، فإن الجسر الجديد "سيدمر المنطقة التراثية والحي العريق وسيكون له خسائر ثقافية وصحية، ويقضي علي أكبر وأهم منطقة تراثية مسجلة بقرار من رئيس الوزراء في يناير/ كانون الثاني 2014".

وأشار البيان، إلى أن مشروع الكوبري مخالف لقانون حماية المناطق التراثية، لأن حي مصر الجديدة مسجل كمنطقة تراثية من الفئة "أ".

تضامنت شخصيات وجمعيات وأحزاب، واعترضوا على "الاعتداء على المعالم الحضارية للبلاد"، وأشاروا إلى أن منظمة اليونسكو يمكن أن تنقل اسم مصر من قائمة التراث العالمي إلى "قائمة التراث المهدد" نتيجة ما يجري.

قبلها دشن نشطاء هاشتاغ (مصر_الجديدة) الذي احتل صدارة تويتر بمصر عدة أيام، بالإضافة إلى هاشتاغ (لا_مساس_لقلب_مصر_الجديدة_التراثية) على أمل أن يتكاتف المصريون ويقفون في مواجهة بلدوزر السيسي.

كالعادة، لم يهتم وزير السياحة والآثار، وقال في تصريح بمجلس النواب 4 فبراير/ شباط 2021، ان كنيسة البازيليك "ليست أثرا"، زاعما أن "الأثر هو البناء الذي مر عليه 100 عام منذ عام 1883 وقت صدور القانون الخاص بالآثار"، ما يعني ضمنا الموافقة على إحاطتها بالكباري العلوية.

ثقافة البيزنس 

وفي ظل عدم وجود أي مشاريع إنتاجية واعتماد اقتصاد السيسي على الضرائب والرسوم والجباية التي يجري جمعها من الشعب، أطلق البعض "ثقافة البيزنس" على مشاريع السيسي.

كافيهات حديثة تجذب الشباب وتعطل المرور بسيارتهم، بُنيت أسفل الكباري العلوية، ويجري الترويج لها في الصحف الرسمية بدعوى أنها "فيو" رائع بينما روداها يستنشقون عوادم السيارات المارة بجوارهم.

شاطئ نيل القاهرة تم تجريف جزء كبير منه بدعوى بناء "ممشى أهل مصر"، لكن فوجئ المصريون ببناء كافيهات خرسانية وسط المياه تقتطع قرابة 10 بالمئة من مساحة النهر.

غالبية الكباري الجديدة على الطرق أصبح لها رسوم بعضها باهظة بالنسبة للموظفين الذين يرتادونها يوميا للوصول إلى أعمالهم، ومساحات الأشجار والحدائق الخضراء تقلص وجري تجريفها بشدة لصالح مباني وأعمدة خرسانية صماء شوهت معالم القاهرة التراثية القديمة المميزة.