آلاف الفرنسيين من "الأقدام السوداء".. لماذا تخشى الجزائر تجنيسهم؟

12

طباعة

مشاركة

منح الجزائر رسميا جنسيتها لنجل المناضل الفرنسي الراحل موريس أودان، الذي قتل تحت التعذيب على يد أبناء جلدته، إثر تضامنه مع ثورة التحرير الجزائرية في خمسينيات القرن الماضي، أعاد ملف التجنيس الشائك في الجزائر إلى الواجهة مجددا.

بيار أودان الذي تحوز والدته الجنسية الجزائرية، تأخر هو في الحصول عليها، نظرا للتعقيدات القانونية والإجرائية المرتبطة بحصول الأجانب خاصة من الفرنسيين على الجنسية.

ملف المطالبة بحصول من عرفوا بـ"الأقدام السوداء" على الجنسية الجزائرية، يبرز إلى السطح من حين لآخر، فمن ناحية المبدأ، ترفض الجزائر الموافقة على مثل هذه الطلبات.

تخشى الجزائر من نوايا الفرنسيين المعروفين بـ"الأقدام السوداء"، خشية استغلال بعضهم لجواز السفر الجزائري لأغراض سياسية أو أهداف مشبوهة تضر بالأمن والسيادة الوطنية، ومن بينها المساعي لاسترجاع الأراضي المغتصبة في الجزائر خلال فترة الاستعمار.

الأقدام السوداء

يطلق اسم"الأقدام السود" على المستوطنين الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين المولودين أو الذين عاشوا في الجزائر مثل الإيطاليين والإسبان والمالطيين بالإضافة لليهود خلال فترة الاحتلال الفرنسي للجزائر.

ترجع تسمية "الأقدام السوداء" حسب المؤرخين الجزائريين إلى لون أحذية الجنود الفرنسيين الذين دخلوا الجزائر للمرة الأولى عام 1830، والتي كانت سوداء، لكن البعض يربط هذا الاسم بالمزارعين من المستوطنين الذين كانوا يعصرون العنب بأقدام حافية لإنتاج العصير والخمور.

هذا الاسم تحول بعد ذلك إلى تعبير فرنسي يشير إلى المستوطنين الفرنسيين المولودين أو الذين عاشوا في الجزائر خلال فترة الاستعمار، وبقي منهم نحو 200 ألف في الجزائر، خلافا للاعتقاد السائد بأن كل الأوروبيين هربوا جماعيا من الجزائر بدءا من صيف 1962، خوفا من الاعتداء عليهم. 

حسب الصحفي بيار دوم صاحب كتاب "لا حقيبة ولا نعش، الأقدام السود الذين ظلوا في الجزائر"، فإنه "منذ نصف قرن عندما نتحدث في فرنسا عن رحيل فرنسيي الجزائر تتبادر إلى الذهن فكرتان هما أنهم غادروا كلهم الجزائر سنة 1962 وأنه لم يكن لديهم الخيار، فإما الحقيبة (الرحيل) أو النعش (الموت)، والحقيقة أن ذلك خاطئ".

استيطان إحلالي

منذ احتلال فرنسا للجزائر عام 1830، كانت مساعي الاحتلال لجعل الجزائر فرنسية، حيث كان المشروع الاستعماري قائما على إحلال شعب فرنسي في الجزائر، بل تعدى الأمر ذلك إلى تطبيق مشروع استيطان أوروبي، بعد مصادرة الأراضي الجزائرية لإقامة مشاريع استيطانية فيها، بهدف إخضاع الأغلبية الجزائرية للأقلية الأوروبية، وتكريس الثقافة واللغة والعادات الفرنسية والأوروبية، والقضاء على كل أشكال المقاومة التي قد يبديها الجزائريون تجاه الاستعمار الفرنسي.

انقسمت الهجرة إلى الجزائر إلى قسمين، القسم الأول يسمى بمرحلة الاستيطان العسكري، والتي تراوحت بين الاحتلال الضيق الذي اتسم بالحذر نظرا لعنف المقاومة التي أبداها الجزائريون تجاه الاستعمار وكان ذلك بين عامي 1830 و1835.

ومنذ 1835، بدأ الاحتلال الشامل، الذي تميز بقدوم عدد كبير من أبناء الطبقة البرجوازية الفرنسية والأوروبية في مرحلة أخرى، وزعت عليهم الأراضي التي جرى الاستيلاء عليها من أصحابها الحقيقيين.

أما القسم الثاني من الهجرة فتمثل في الاستيطان المدني بين عامي 1870 و1900 وتميز باستقدام مستوطنين أقل برجوازية، وتدفقت على الجزائر أعداد كبيرة من عاطلي فرنسا وقطاع طرقها، ليتحولوا فجأة إلى ملاك أراض وأسياد في الجزائر.

اتفاقيات إيفيان

ثورة تحرير الجزائر التي اندلعت في 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954، فرضت على الاحتلال الفرنسي التوصل لاتفاق لإنهاء احتلاله للجزائر.

وقعت الحكومة الجزائرية المؤقتة ونظيرتها الفرنسية يوم 18 مارس/آذار 1962 اتفاقيات إيفيان لإنهاء الاحتلال، ونصت على اختيار الأقدام السوداء خلال 3 سنوات بين نيل الجنسية الجزائرية أو الاحتفاظ بالفرنسية واعتبارهم أجانب، وكان قادة جبهة التحرير يرفضون الجنسية المزدوجة للأقدام السوداء.

ويعد ملف الأقدام السوداء من الملفات الشائكة بين الطرفين الفرنسي والجزائري لأنه مرتبط بالذاكرة، وتتهم بعض المراجع التاريخية هذه الفئة بالتورط في جرائم تعذيب وقتل ضد الجزائريين خلال فترة الثورة، وخلال السنوات الأخيرة رفع العديد منهم قضايا في المحاكم الجزائرية للمطالبة باسترجاع أملاكهم بالجزائر.

لكن وعلى الرغم من كل ذلك، يرى قادة هذه الفئة أنهم مهجرون من الجزائر بالقوة، حيث لازالوا يطالبون بـ"الجنسية الجزائرية "لأنهم يعتبرون مغادرتهم للجزائر، في تلك الفترة "هجرة مؤقتة". 

صحيفة لوباريزيان الفرنسية ذكرت في أيلول/سبتمبر 2015، أن "في باريس مايزال يعتقد هؤلاء الفرنسيون الذين غادروا الجزائر نحو فرنسا، بأنها هجرة مؤقتة (رغم مرور 53 سنة)، ومقتنعون ومُصممون على طلب الجنسية الجزائرية".

ويطالب هؤلاء الفرنسيون الذين غادروا الجزائر بعد 1962، إلى جانب رغبتهم في الحصول على الجنسية الجزائرية، باسترجاع ممتلكاتهم التي تركوها وراءهم "أملاك وعقارات".

وتحولت هذه القضية من مطلب شخصي لمن يوصفون بـ"الأقدام السوداء"، إلى مطلب رسمي لباريس رفعته للسلطات الجزائرية في ديسمبر/كانون الأول 2014، ضمن 25 ملفا تباحث فيه الوزير الأول (رئيس الحكومة) حينها عبد المالك سلال، خلال زيارته إلى باريس مع السلطات الفرنسية.

أملاك مزعومة!

أقام أصحاب الأقدام السوداء في السنوات الأخيرة مئات القضايا أمام المحاكم الجزائرية، للمطالبة بطرد عائلات جزائرية من منازلها، وتسليم هذه البيوت لهم.

في المقابل يرى الجزائريون أن القانون أنصفهم حين شدد على أن كل فرنسي يتمتع بجميع حقوقه في حال لم يغادر الجزائر لمدة تتجاوز العامين من 1962 حتى 1964، وفي حال مغادرته فإن هذه الأموال تدخل ضمن الأملاك الشاغرة التي تعود للدولة.

أما الذين تنقلوا بين الجزائر وفرنسا خلال العامين وأرادوا بيع ممتلكاتهم، فتم ذلك بموجب تصريح، كما قامت الدولة الجزائرية بعد الاستقلال بتعويضهم مرتين، حيث قدمت هذه التعويضات للحكومة الفرنسية.

إلا أن جماعات يمينية متطرفة في فرنسا، قامت بتأسيس منظمات للدفاع عما اعتبرته حقوق "الأقدام السوداء"، حيث تم تأسيس "الاتحاد من أجل الدفاع عن حقوق الفرنسيين المطرودين من الجزائر ومن بلدان أخرى".

كما أقام نحو 1000 من "الأقدام السوداء" بإيعاز من اليمينيين دعاوى للحصول على تعويضات استنادا إلى قانون فرنسي ينص على أن ما قدمته الحكومة الفرنسية لهم من أموال هو مجرد "تسبيق" لحقوقهم.

مساومة وابتزاز

وتستغل فرنسا كل حدث أو مناسبة تاريخية، لإثارة هذا الملف في منظمة الأمم المتحدة للضغط على الحكومة الجزائرية، وردت الهيئة الدولية بلائحة تؤكد أن الجزائر سيدة على جميع ما يوجد في أراضيها.

"الأقدام السوداء" باتت قضية للمساومة، تارة من خلال تصويرهم على أنهم ضحايا عنف الثوار الجزائريين، وللابتزاز تارة أخرى عبر مطالبتهم بممتلكاتهم التي تركوها في الجزائر بعد استقلال البلاد.

انتقل ضغط "الأقدام السوداء" إلى صفحات الكتب والجرائد، حيث وصف كتاب "65 شخصية تشهد"، الصادر عن دار "هيغو وشركائه" بالعاصمة الفرنسية باريس، الجزائر بأنها الأرض الأصلية للأقدام السوداء، والتي انتزعت منهم بالقوة، ما جعل الملف يفسد العلاقة بين البلدين مرارا.

لكن ظل موضوع ممتلكات الأقدام السوداء معلقا سنوات بسبب غياب النصوص القانونية، وخرجت الحكومة الجزائرية عن صمتها وأعطت أمرا لكافة المحافظات العقارية بإلحاق العقارات والممتلكات المقصودة ضمن ممتلكات الدولة من أجل حماية التراث العقاري الجزائري، بعد أن كانت في خانة الإهمال والتلاعب من طرف أصحاب المصالح والسماسرة الذين استغلوا الفراغ القانوني.