محاولات باهتة لإحيائها.. ماذا عن أسباب تعثر السينما الفلسطينية؟

خالد كريزم | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"فلسطين في السينما"، كتاب نُشر في 2006 يجمع ما رصدته الكاميرا بالأراضي المحتلة في نحو 800 فيلم، وهو إنتاج مهول، تراجع بشكل خطير في السنوات الأخيرة، لتصبح الأفلام التي تروي الأحداث المأساوية هناك، تعد على أصابع اليد.

تغطي الأفلام الروائية والتسجيلية التي تناولها الكتاب الفترة المصيرية من سنة 1911، أي منذ زمن الحكم العثماني، مرورا بعهد الانتداب البريطاني وكذلك زمن النكبة والتشريد وقيام ما تسمى دولة إسرائيل عام 1948 وما تعرض له الشتات الفلسطيني حتى عام 2005.

كان الهدف من الكتاب هو أرشفة تاريخ السينما الفلسطينية، لئلا يتعرض هذا الجزء الحيوي من الذاكرة للضياع والفقدان، لا سيما وأن قسما مهما من الأرشيف الفلسطيني كان مصيره التلف أثناء الغزو الإسرائيلي للبنان 1982، في محاولة لمصادرة التاريخ بعد الأرض.

أسباب الغياب

ومع الانتكاسة التي تعرض لها الأرشيف الفلسطيني وطمس إسرائيل للحقائق، برزت محاولات لإعادة إحياء السينما، لكنها ما زالت باهتة منفية كاللاجئ الذي يناضل لإثبات وجوده، ويسعى للعودة إلى أراضيه التي هجر منها عام 1948.

والسبب في ذلك، يعود بحسب المخرج السينمائي الفلسطيني عمار التلاوي إلى عدم وجود وعي كاف بشأن أهمية إنتاج هذا النوع من الأفلام، إضافة إلى غياب التمويل، وحالة الانقسام الداخلي التي تعيشها الساحة الفلسطينية.

ويقول التلاوي لـ "الاستقلال": "لا يوجد مستثمرون في مجال السينما من أصحاب رؤوس الأموال، فهي صناعة مستقلة بذاتها مثل أي صناعات أخرى، لذلك تبقى التجارب السينمائية في فلسطين فردية".

يتفق معه الإعلامي والباحث في السينما والتلفزيون يوسف حمدان بقوله: "تجاهل حقيقة غياب التمويل العربي والفلسطيني للأفلام الفلسطينية، عمّق الإشكالية".

ويضيف لـ "الاستقلال": "لا أحد يستطيع أن ينكر أن الأفلام فن في عالم الصناعة، وصناعة في عالم الفن وهي تتطلب من جانب الإنتاج آلية مالية داعمة لها، ومن جانب الاستهلاك أرضية وبنية تحتية ومشاهد يتفاعل مع المشهد الثقافي، فالسينما مقاولة ثبت ضعفها فلسطينيا".

وساهم تدمير "إسرائيل" لدور السينما وإغلاق بعضها، وتحول الكثير منها إلى صالات للحفلات والمطاعم في غياب الأفلام، حيث أن تلك الدور كانت منتشرة في أغلب المدن الفلسطينية في عشرينيات القرن الماضي.

وأشهرها "روكسي" في القدس، الكرمل في حيفا، والحمراء في يافا، والأهلي في عكا، والسامر والنصر في غزة، والسلام في رفح، والعاصي في نابلس، وسينما جنين في جنين، والوليد في رام الله، والأندلس في طولكرم.

ومن أسباب ضعف الاهتمام بالسينما، من وجهة نظر حمدان، أن "وزارة الثقافة الفلسطينية أصبحت مجندة للترويج والدفاع عن مشروع أوسلو وقيام السلطة وانخرطت بهذا الأمر".

ويقول: "الجهود تبعثرت في مضامين الأفلام وغاب الدعم الرسمي الفلسطيني عنها، حيث أن الأفلام التي تتحدث عن الصراع مع الاحتلال لا تحظى بقبول السلطة أو حتى التمويل الدولي، أما تلك التي تتناول التعايش والسلام فقد تجد طريقها لذلك".

ويوضح أن هناك مجموعة من الأفلام تحاول أن توجد حالة من التعايش والسلام مع الاحتلال الإسرائيلي، وهذه تتلقى دعم وزارة الثقافة، يقابلها طرف آخر ينتقد هذا المسار، كما فعل إيليا سليمان في فيلم "يد إلهية" الحائز على جائزة مهرجان "كان" عام 2002.

نظرة تاريخية

ومع حصول "يد إلهية" على الجائزة، بدأت السينما الفلسطينية بشق طريقها نحو المهرجانات العالمية، وطرح نفسها بقوة على الساحة الفنية، بل إنها باتت تحصد جوائز وترشيحات لا تنتهي في كافة المهرجانات العالمية الكبرى وفي فئات مختلفة من الفيلم الروائي إلى الوثائقي.

وبالحديث عن تاريخها، انطلق قطار السينما في فلسطين من القدس عندما التقطت عدسة الأخوين الفرنسيين لوميير مشاهد لفيلم قصير أسمياه "مغادرة القدس عبر قطار" عام 1896. ظهر في التسجيل القصير رجال على رصيف المغادرة يرتدون بذلات رسمية في زمن العثمانيين.

جاء الأخوان لوميير (أول صانعي السينما في التاريخ) إلى فلسطين بعد 6 سنوات من بدء الحركة الصهيونية عملها في فلسطين، وكانت القدس آنذاك تزداد مساحتها بوتيرة متسارعة نظرا لتزايد أعداد السكان من المسلمين والمسيحيين واليهود الذين تجاوزوا جدران المدينة القديمة. سجل الأخوان عددا آخر من المشاهد ظهرت جميعها في الفيلم الوثائقي "قصة أرض فلسطين".

لكن، دخلت فلسطين عمليا إلى الإنتاج السينمائي بعد زيارة الملك سعود بن عبدالعزيز إلى القدس عام 1935، حيث لحقه من مكان إلى آخر داخل فلسطين، شاب من يافا هاو للتصوير يُدعى "إبراهيم حسن سرحان"، ليصوره في اللحظات المهمة برفقة الحاج أمين الحسيني المفتي العام للقدس (1895 - 1974).

ثم توالت خطوات "سرحان" في هذا الطريق، إلى أن أسس "أستوديو فلسطين"، وأنتج أفلاما روائية وإعلانية أخرى حتى نزح للأردن عام 1948.

صورة لإبراهيم سرحان أثناء تصوير الفيلم الأوّل له عام 1935

ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية عام 1965 وبدايات الكفاح المسلح، كانت العدسة رديفة للبندقية وناقلة للحراك الثوري، وكان أول فيلم روائي تنتجه الثورة هو "عائد إلى حيفا" (عن رواية غسان كنفاني)، للمخرج قاسم حول الفلسطيني من أصل عراقي.

لم تكن انطلاقة السينما الفلسطينية متأخرة كثيرا عن الغرب، فحسب كثيرين، نشأت بعد تدشين حركة المقاومة خارج الحدود لمعايشة حياة الشعب الفلسطيني حيث بدأت في عرض كفاحه المسلح بالمخيمات وكتائب الفدائيين، لكنها أصيبت بانتكاسات عديدة.

محاولات الترميم

اجتهد الفلسطينيون في استعادة المقاطع والأفلام المشتتة لدى أفراد ودول ومؤسسات بعد اجتياح بيروت، فالمتاح من الأفلام المؤسِّسة للسينما الفلسطينية المعاصرة قليل، ويحتاج إلى ترميم وتجميع وحفظ.

وفي الذكرى السبعين للنكبة عام 2018، عملت مجموعة بحثية من جامعة "شيفيلد هالام" في إنجلترا باسم "تداخلات إبداعية" على ترميم وترقيم 5 أفلام من سينما الثورة الفلسطينية، بإشراف أناندي رامامورثي، الباحثة في ثقافات ما بعد الكولونيالية (الاستعمار).

يقول الروائي الفلسطيني سليم البيك: "الأفلام الآن متوفرة بصيغتها المرمّمة، وهي جزء من التراث السينمائي الفلسطيني المستَعاد، المساهِم كذلك في تكوين الراهن من هذه السينما، هوية وسياقات وموضوعات".

والأفلام الخمسة هذه عُرضت مؤخرا في "مهرجان سينما فلسطين الدوحة" تحت عنوان "تداخلات إبداعية: سينما الثورة الفلسطينية"، وهي: "زهرة المدائن" 1969، "فلسطين في العين" 1976، "الهوية الفلسطينية" 1983، "النداء العاجل" 1973، "وهج الذكريات" 1972.

ويمكن القول: إن محاولات الترميم وإظهار الحق الفلسطيني بدأت باكرا، منذ أن عاد المخرج ميشيل خليفي إلى الناصرة بعد قضائه 10 سنوات في بلجيكا، ليشرع بتصوير أول فيلم وثائقي له بعنوان "الذاكرة الخصبة"، تزامنا مع خروج الفلسطينيين من بيروت متجهين نحو تونس التي ألقى فيها محمود درويش مرثية "مديح الظل العالي" معلنا انتهاء مرحلة وحلول أخرى.

وسرعان ما تحول خليفي إلى رمز لهذه المرحلة التي ضمت مخرجين آخرين منهم إيليا سليمان، وهاني أبو أسعد، ومي مصري، وعلي نصار، ورشيد مشهراوي، وغيرهم، وهم الذين عرفوا بمخرجي السينما المستقلة وسينما ما بعد الثورة، لكنها بقيت في مجملها جهودا فردية لم تشكل في يوم من الأيام سوقا لصناعة السينما الفلسطينية.

ويرجع ذلك إلى عدد من الأسباب، منها قلة الإمكانيات وشح الموارد وضعف الخبرات وعدم وجود ثقافة سينمائية كافية لتبني لها جمهورا وفيا يدعمها، إضافة إلى ضعف حركة النقد السينمائي.

واقع السينما

واليوم تعيش فلسطين ذات المشكلة، حيث لا يوجد إنتاج سينمائي حقيقي، برأي عمار التلاوي، الذي يقول: "الإنتاج مصدره جهود ذاتية لا تكاد تذكر ولا ترتقي للمستوى المطلوب مقارنة بحجم قضية شعب محتل".

لكن الباحث يوسف حمدان يختلف مع هذا الرأي، قائلا: "هناك إنتاج فلسطيني خالص في العام يتراوح من 10 إلى 12 فيلما، وهذا المعدل بالنظر إلى حجم دولة فلسطين ومشاكلها، هو معدل جيد، لكن إذا أردنا أن نتحدث عن مناسبته لقضية شعب محتل، فهذا أمر مرتبط بعوامل أخرى".

وتلك العوامل تتمثل بظروف الإنتاج وصناعة الأفلام وطبيعة دعم السلطة الفلسطينية وأولوية الثقافة لديها وسبل التمويل، "كل ذلك يؤثر في عدد الأفلام، لكن بالمجمل فإن ما تنتجه فلسطين من حيث الكم معقول جدا، أما مسألة المضمون والجودة والمنافسة فلها حسابات أخرى".

أما سبب عدم انتشار الأفلام التي تتناول القضية الفلسطينية، فمرده وفق التلاوي إلى "ضعف الإنتاج مقارنة بما هو موجود على الساحة العالمية"، مبينا أن الأفلام الفلسطينية "تبقى ذات لون وطابع واحد دون محاولة تغيير أو إضافة حالة من الإبداع تشجع الجمهور على الإقبال عليه رغم وصول بعضها إلى المهرجانات العالمية".

لكن هناك من يعتقد بوجود طفرة سينمائية فلسطينية، يقودها عدد من المخرجين العالميين والمحليين، وأنها حققت اختراقا ملحوظا بين حين وآخر في مهرجانات السينما العالمية، كمهرجان كان، وحفل الأوسكار السنوي. ووصلت 7 أفلام فلسطينية إلى العالمية هي: "يد إلهية، الزمن الباقي، جنين جنين، الجنة الآن، أمريكا، عمر، سجل اختفاء".

ويقول حمدان الذي أجرى دراسة بحثية عام 2015 في جامعة قرطاج التونسية، ونال عليها درجة الماجستير في السينما: إن "ما نسبته 23% فقط من الأفلام الفلسطينية تتحدث عن الصراع ومواجهة الاحتلال، وهذه النسبة قليلة، ولذلك فإن مسألة الانتشار لها علاقة بهوية الأفلام".

وتوصل حمدان في رسالته البحثية إلى أن "هناك معايير للمنافسة على العالمية مرتبطة بجودة الإنتاج والمضمون"، مبينا أن "كثيرا من الأفلام رفضت في المهرجانات الدولية بسبب هويتها، أو عدم انسجامها مع شروط المسابقة، حيث أن الأفلام الفلسطينية التي تتحدث عن المقاومة والقضايا الوطنية تشكل النسبة الغالبة".

سبل الإحياء

إحياء السينما مرتبط بإعادة تشكيل حالة الوعي الفلسطينية المشتتة، من وجهة نظر التلاوي، الذي يقول: "الأمر يبدأ بمعرفة أهمية هذا السلاح الفتاك القادر على إحداث حالة من التغيير بشكل غير مسبوق في صناعة القرار وتشكيل الرأي العام".

ويرى المخرج السينمائي أننا "بحاجة للاستثمار في هذا الكنز المدفون في شوارع وأزقة وحارات فلسطين التي تعج بآلاف القصص التي تعتبر مصدر إلهام للكثير من كتاب الأفلام التي ممكن أن تصنع فارقا في السوق المحلي والعالمي".

ويتابع: "نحتاج إلى مستثمرين في هذا المجال كبقية الاستثمارات الأخرى، ناهيك عن الدور الرئيسي التي تتحمله وزارة الثقافة الفلسطينية وغيابها عن أهمية هذا الموضوع، كما تتحمل جزءا كبيرا منه أيضا الفصائل الفلسطينية بالداخل والخارج التي تهدر سنويا ملايين الدولارات على مؤتمرات ومهرجانات ذات تأثير محدود جدا".

أما يوسف حمدان، فيرى ضرورة تنظيم المؤسسة الرسمية للمشهد الثقافي بـ"التشريعات القانونية وتوفير الدعم الرسمي لتهيئة بيئة إنتاجية حاضنة للثقافة الفلمية، وتأهيل البنية التحتية التي تؤدي لتعزيز ثقافة الفرجة، وتأهيل الكوادر الشبابية الفلسطينية أكاديميا ومهاريا، من خلال مراكز المجتمع المدني والمناهج التعليمية".

وبدورها، تسرد المخرجة السينمائية سهى عراف عدة خيارات قد يلجأ إليها الفلسطينيون للحصول على تمويل: إما خارجي، أو عبر "مساهمات خاصة"، أي أن المخرج يستغني عن راتبه، أو يأخذ قرضا من البنك أو مساعدة من عائلته، أو يتوجه إلى أصحاب رؤوس الأموال، ليحصل على مبلغ مالي مشروط بإعادته عندما يُنتَج الفيلم.

لكن للأسف، تتابع المخرجة الفلسطينية في مقال لها نشر العام الماضي: "لا تستطيع السينما الفلسطينية في أغلب الحالات أن تُعيد المبلغ، لأنها لا تربح كثيرا في دور العرض، فضلا عن اقتسام الموزعين والشركاء الأجانب لأغلب مدخول الأفلام، لذلك نرى أن أغلب رجال الأعمال الذين شاركوا في دعم الأفلام الفلسطينيّة، لم يُعيدوا الكرة مرة أخرى".

ولذلك فهي تقترح الإنتاج المشترك، عبر توفير مبلغ يغطي ما نسبته 30 – 40%، ويكون من صناديق محلية أو تمويلا خاصا، "ودون توفّر هذا المبلغ لن تضع أي دولة أجنبية قرشا واحدا في أي فيلم فلسطيني".

وتقول عراف: "هناك 4 صناديق فاعلة في المجال يمكن الاستفادة منها ولكن بشكل محدود وهي: صندوق (الدوحة)، صندوق (آفاق) في لبنان، صندوق (القطان)، والصندوق الثقافي التابع لوزارة الثقافة الفلسطينية، التي تمول أفلاما بنسب قليلة جدا".