"البازار" المتنقل في تركيا.. فكرة بدأها العثمانيون فكيف استمرت؟

"بازار" تعني بالتركية "السوق"، وتتميز تركيا بوجود أسواق أسبوعية متنقلة تسمى "البازار"، تغطي من خلال وجودها في أماكن معينة وأيام محددة على مدار الأسبوع، كل مناطق وأحياء المدن التركية.
مثلت هذه البازارات ظاهرة اقتصادية أسهمت في رفد اقتصاد البلد، فخلقت آلاف من فرص العمل، وأسهمت بارتفاع الحركة الشرائية لدى المواطنين، ووفرت خيارات سلعية واستهلاكية أوسع لذوي الدخل المحدود، خصوصا من الطبقتين المتوسطة والأدنى، ووفرت موردا اقتصاديا للدولة.
تمتاز البازارات التركية في كونها توفر معظم الاحتياجات للأسر المستهلكة تحت سقف واحد، فتحوي عدة أجنحة تعرض فيها الخضروات والفواكه الطازجة، بالإضافة إلى الأسماك، والأجبان، والبهارات، والحبوب، والمنتجات العضوية غير المعالجة باللقاحات والمواد الكيميائية (Organic) كالبيض الريفي والبقوليات ومشتقات الألبان.
كما تتضمن الأسواق أجنحة تباع فيها الملابس، والأقمشة، والمنسوجات اليدوية، والتحف التقليدية، والأواني المنزلية، والمواد البلاستيكية، ومعظم ما يحتاجه المستهلك خلال الأسبوع، أو حتى على الأمد الطويل، وعادة ما تنتشر في محيط البازارات المطاعم الصغيرة والكافتيريات والمقاهي.
تتفرد معروضات البازار، سواء الزراعية أو البحرية بكونها طازجة، فالمزارعون والصيادون عادة هم أنفسهم من يقومون بعرض منتجاتهم وتسويقها، ويعتبر الكثير من المتسوقين البازارات بديلا مناسبا عن المراكز والسوبر ماركتات في تغطية احتياجاتهم الأسبوعية.
ظاهرة ثقافية
يعود تاريخ البازارات الأسبوعية إلى مئات السنوات منذ أيام حكم الدولة العثمانية، ونشأت كنتيجة لحاجة المواطنين، ولأن الظروف كانت تحول دون تنقل المواطن من سوق إلى سوق بشكل ميسر، فكانت الفكرة أن يأتي السوق إلى الأحياء السكنية مرة في الأسبوع، محملا بكل ما يحتاجه المتسوقون، ليلبي احتياجاتهم، ويوفر عليهم مشقة التنقل والذهاب إلى الأسواق والمحلات.
تفككت الدولة العثمانية، وتوالت بعدها عقود وأجيال، تغيرت فيها الظروف السياسية والاقتصادية، غير أن فكرة الأسواق استمرت كظاهرة ثقافية وإرث حضاري وتاريخي، مثل سمة من سمات الدولة العثمانية، وبقية مما ترك سلاطينها.
تم تصدير هذه الظاهرة إلى الأقطار التي خضعت للحكم العثماني حينها، ففي عموم المحافظات المصرية مازالت هذه الأسواق حاضرة بقوة، وتسمى الأسواق بالأيام، كسوق الجمعة، وسوق الإثنين، وسوق الأربعاء، ، وتنتشر على نحو مركز في المدن الريفية، وفي أحياء المدن التي تسكنها الطبقة المتوسطة والفقيرة، على اعتبار أن هذه البازارات توفر خيارات رخيصة ومناسبة لمستوى دخل هذه الطبقات.
وفي شمال اليمن أيضا، الجزء الجغرافي الذي خضع لحكم الدولة العثمانية، تتواجد هذه الأسواق حتى اليوم، خصوصا في المدن الريفية، وتحظى باهتمام شديد من قبل مرتاديها، وتسمى بأسماء الأيام، وتعرض معظم ما يحتاجه المستهلكون والمزارعون.
السوق المصري
يمثل البازار المصري الذي بني في عهد السلطان مراد الثالث في إسطنبول عام 1597 وجها من أوجه التأثر الثقافي بين الحضارتين، المصرية والعثمانية، حيث كان في الأساس بازارا لبيع التوابل والبهارات المصرية، سواء التي يتم إنتاجها في مصر أو يتم استيرادها عن طريق مصر.
ويعد السوق المصري بشكله الهندسي البارع، جزءا من الحضارة العثمانية العريقة التي كانت تعرض في بادئ الأمر منتجات مصرية، قبل أن يتم تعديله وتوسعته خلال الأزمة الاقتصادية التي ضربت تركيا عام 1947، ليشمل عرضا أوسع للمنتجات والاحتياجات الأساسية للمواطنين الأتراك، ويوسع النشاط التجاري فيه خلال العقود الثلاثة الأخيرة ليشمل بيع الذهب، والهدايا، والألبسة، والمكسرات، والبهارات، والأعشاب، والحلويات العثمانية التقليدية.
يصنف البازار المصري كثاني أكبر سوق تاريخي في مدينة إسطنبول التاريخية بعد سوق البازار الكبير، أو السوق المسقوف، ويعد من الأسواق الدائمة، التي تفتح بشكل يومي.
وكغيره من الأسواق التاريخية في تركيا وفي إسطنبول على وجه الخصوص، يمتاز السوق المصري ببراعة هندسته وبنائه، حيث بني تصميمه على تأمين نظام تكييف هوائي طبيعي، ابتكره المهندسون العثمانيون، ليشعر العاملون ومرتادو هذه البازارات ببرودة منعشة صيفا، وحرارة متوسطة شتاء.
ويتوافد على هذه البازارات التاريخية سائحون من مختلف دول العالم، وتعد زيارتها وسيلة من وسائل التواصل الثقافي والحضاري بين الزوار متعددي الجنسيات بما تحمله من مزارات، وبما تحوزه من منتجات ومعروضات وتحف تقليدية.
إشراف البلديات
كانت مهمة الإشراف على البازارات وتنظيمها، منوطة بالسلطات الحكومية، ممثلة بالبلديات، ومع ضعف أداء الأحزاب الحاكمة خلال العقود المنصرمة ضعف أداء تلك البلديات وانعكس على مستوى تنظيم تلك الأسواق ونظافتها وخدمتها والتسويق لها.
كان عقد الثمانينيات والتسعينيات هو الأسواء بيئيا في تركيا، حيث كانت مكبات النفايات تملأ أنحاء مدينة إسطنبول، وعجزت السلطات حينها عن حل هذه المشكلة التي تسببت بأضرار صحية وبيئية على نحو كارثي، كان أحدها انفجار اندلع عام 1993 في "جبل القمامة" مكب النفايات الأكبر بمنطقة العمرانية في الجانب الآسيوي بإسطنبول، نتج عن تولد غاز الميثان من تلك النفايات وتسبب بمقتل العديد من المواطنين.
انعكس ضعف أداء السلطة والبلديات حينها على وضع البازارات وعلى مستوى ترتيبها، وعانت من عشوائية تنظيمها وعدم نظافتها، حتى تم انتخاب رجب طيب أردوغان رئيسا لبلدية إسطنبول الكبرى عام 1994، وتضمن برنامجه الانتخابي حل مشكلة النفايات وتقوية أداء البلديات.
شهدت مدينة إسطنبول بالفعل تحسنا فارقا بشكل ملحوظ، غير أن تلك التجربة تم تعزيزها بصعود حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002، حيث جعل أداء البلديات من أهم الأولويات، وانعكس ذلك الأداء بالضرورة، على تلك البازارات ومستوى تنظيمها وترتيبها، حتى غدت على ماهي عليه اليوم.
حاليا، تشرف البلديات في عموم المحافظات التركية على تنظيم البازارات، ابتداء من بنائها وتخصيص مواقف للسيارات فيها، مرورا بتأجير مساحات مقسمة على نحو هندسي للباعة والتجار وتنظيم عملية التسوق، وتخصيص حافلات مجانية للمتسوقين ذهابا وإيابا، وتنظيف الأسواق بشكل متواصل، ويمكن لأي زائر القيام بتجربة التسوق فيها واستكشاف المستوى العالي من الترتيب والتنظيم التي تحظى به تلك الأسواق حاليا.
تكشف العملية الضخمة التي ترافق تنظيم وتنسيق هذه الأسواق، ابتداء بكونها تقدم خدمة للمواطنين، وتلبي احتياجاتهم الأساسية، عن شعور عال بالمسؤولية لدى السلطات التركية، التي حرصت على استمرارها بجودة عالية منذ عدة سنوات.
ما يميز تلك البازارات أنها تغطي كل المربعات السكنية في المدن التركية، وبرغم كونها متنقلة وغير ثابتة، إلا أنها على مستوى عالي من الانضباط، إذ لا تتخلف عن الافتتاح في يومها المحدد، من الصباح وحتى المساء.
المتسوق والزائر يجد في البازارات متعة في قضاء وقت لمشاهدة المنتجات المتعددة والأصناف الطازجة من الخضروات والفواكه، وتمثل فرصة لاستكشاف ما يمكن أن يقدمه الأتراك لمرتادي هذه الأسواق.