الإسلام السياسي في مواجهة النظام العالمي والدولة "القُطرية"

د. سعد الفقيه | منذ ٦ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في عام ١٦٤٨م عقد "صلح وستفاليا" الذي أسس لأن تكون الحدود الجغرافية بديلا عن نفوذ الملوك والأباطرة والكنيسة، وأن يكون الكيان داخل هذه الحدود هو رمز الانتماء وليس الدين ولا التبعية للأمراء والملوك، ومن هنا ظهرت بدايات مفهوم الدولة الوطنية (Nation State) أو "الدولة القُطرية". ثم تتابعت الأحداث في أوروبا ثم الحرب العالمية الأولى وحلت دولٌ قطرية بحدود ثابتة محل الامبراطوريات، ثم استقر بشكله النهائي بعد الحرب العالمية الثانية وتأسيس الأمم المتحدة. وها هو العالم حاليا يتألف من مئة وست وتسعين دولة خاضعة لما يسمى القانون الدولي وتمثل أساس النظام العالمي.

والميدان الذي تعمل داخله تيارات الإسلام السياسي هو هذا النظام الدولي، والكيانات التي يتعامل معها هي دول العالم التي تعتبر الوحدات القُطرية للنظام الدولي، فلا مناص إذاً من أن تكون العلاقة مع النظام الدولي والتعامل مع كياناته القُطرية هو أساس المشروع الإسلامي. والإسلام السياسي ليس نسقا واحدا بل هو طيف واسع يبدأ بأشدها عداء للنظام الدولي ورفضا للقُطرية؛ وهو مشروع داعش وينتهي بأكثرها تعايشا مع النظام الدولي ورضا بالقُطرية وهو مشروع أردوغان في تركيا والغنوشي في تونس. 

لكن قبل أن نستعرض هذا الطيف لا بد من توضيح حقيقة النظام الدولي من جهة وبيان أركان المشروع السياسي الإسلامي من جهة أخرى، وكيف أنه لا مناص للإسلام السياسي من تحديد موقفه من قائمة من التحديات والإلزامات في تعامله مع النظام العالمي. 

مستويات النظام الدولي

يتمثل النظام الدولي في ثلاث مستويات تشكلت على مدى قرون واستقرت بوضع متماسك وصلب يكاد يكون غير قابل للاختراق. 

المستوى الأول وهو أكثرها استقرارا، هذه الوحدات القُطرية التي تسمى كل منها "دولة" بحدود معترف بها دوليا وهوية وجواز ونظام. مفهوم الدولة القُطرية تجاوز الاعتراف العالمي السياسي إلى اعتباره النموذج المرجع في الكيانات البشرية، واستقر هذا المفهوم في أعماق الوجدان البشري وصار الأساس في الولاء والانتماء والهوية والدفاع والخدمة والتضحية. وبلدان المسلمين ليست استثناء من هذا الاختراق للوجدان البشري، فمعظم مواطنيها يعتبرون انتماءهم لدولهم هو أساس هويتهم، ويعتبرون حدود دولتهم هي حدود هذه الهوية حتى لو كانت حدود سايكس بيكو.

المستوى الثاني من النظام الدولي هو هيمنة الغرب على العالم سياسيا وعسكريا واقتصاديا وفكريا وثقافيا وتقنيا حتى صار الغرب هو المرجع في كل شيء تقريبا. وتفوق الغرب على مدى عدة قرون وتمكن من هزيمة كل القوى المنافسة وعلى كل صعيد. ومن خلال هذه الهيمنة أسس الغرب الهيئات العالمية الضامنة للنظام العالمي مثل الأمم المتحدة والمحاكم الدولية والمؤسسات الاقتصادية الدولية وفرضها على بقية البشر فصارت ضامنا إضافيا لاستقرار الدولة القُطرية. وإتماما لهذه الهيمنة فرض الغرب فهمه للصواب والخطأ في تعامل هذه الدول مع بعضها من خلال القانون الدولي.

المستوى الثالث من النظام الدولي هو تغول أمريكا على العالم وسيطرتها الاقتصادية والعسكرية وفرض رؤيتها السياسية خاصة في مناطق العالم العربي والإسلامي. وساعد في تقوية نفوذ أمريكا كونها تقود الغرب كله وتتحكم بالمؤسسات الدولية، فصارت هيمنة الغرب تحت تصرفها فضاعف هذا من قدرتها على التحكم بالعالم وأصبحت الضامن النهائي للنظام القطري بكل أبعاده. والتغول الأمريكي لا يقتصر على سطوة عسكرية واقتصادية بل هو تدخل في الشؤون الأمنية والتربوية داخل الدول وتحكم في النشاطات الفردية للمواطنين وخاصة النشاطات المالية. 

هذه المستويات الثلاثة رسخت استقرار النظام القُطري فأصبح التمرد عليه شبه مستحيل، وكان خرق القانون الدولي هو السبب في الحرب العالمية الثانية وحرب كوريا وحرب الكويت وحروب أخرى؛ لأنها حروب بعثها تجاوز حدود الدولة القُطرية فتحالف جزء كبير من العالم لمحاربة الجهة "المارقة".

إسرائيل والنظام الدولي

لم تكن إسرائيل لتوجد ولا لتبقى لولا سطوة النظام الدولي الحديث بمستوياته الثلاث وخاصة هيمنة الغرب وتغول أمريكا. وإسرائيل تحظى بعناية خاصة من النظام الدولي؛ لأنها اعتسفت اعتسافا في هذا النظام وحشرت بطريقة غير واقعية بإزاحة شعب عن مكانه وإحلال شعب نقل من بلدان أخرى. هذا الاعتساف جعلها عرضة للتمرد ليس فقط من قبل الشعب الذي وقع عليه الظلم بل من قبل كل المسلمين الذين يعتقدون أن فلسطين أرض إسلامية ويجب أن تعود للمسلمين. 

هذا العضو المزروع في جسد يرفضه لا يمكن أن يبقى إلا بتشغيل آلة النظام الدولي بأقصى فاعليتها حتى تثبط مناعة الجسم وتحمي العضو المزروع. صحيح أن هناك عوامل دينية واستعمارية تساهم في تبرير حماية إسرائيل لكن لولا تركيبة النظام الدولي لما كانت هذه العوامل كافية لحمايتها. هذا الدور الكبير للنظام الدولي في حماية إسرائيل سوف يبقيها الواجهة الأولى في صدام النظام مع الإسلام السياسي. 

ثوابت المشروع السياسي الإسلامي

المشروع السياسي الإسلامي ينطلق في أصله من مجموعة من النصوص في الكتاب والسنة ثم ما جاء في السيرة النبوية وسيرة الخلفاء الراشدين، إضافة إلى فتاوى علماء المسلمين بعد الخلافة الراشدة تجاه قرارات الحكام والحوادث الجديدة في مسيرة الحكم الإسلامي وعلاقة الكيان المسلم بالكيانات الأخرى. ومعظم هذه النصوص والفتاوى مبنية على واقع بعيد عن الدولة القُطرية الحديثة التي لم تتشكل إلا قبل ثلاثة قرون، ولم تستقر كليا إلا قبل أقل من قرن. وغني عن القول كذلك أن المشروع الإسلامي على مستوى النصوص والتراث مصادم بنيويا لهيمنة الغرب ورافض بالضرورة لتغول أمريكا. بمعنى آخر فإن مجموع المشروع الإسلامي "الخام" لا يتوائم مع مفهوم الدولة القُطرية ولا النظام الدولي بل الأصل أنه يصطدم معهما. 

والمؤمنون بالإسلام السياسي قد يختلفون في درجة شموليته لكن لا يعتبرونه فكرة اختيارية أو تجربة عابرة يمكن تجاوزها، ولا يربطونه بمكان محدد أو زمن محدد، بل هو عندهم تكليف شرعي، في السعي له أجر وفي التقصير في ذلك إثم.  وبهذا لم ولن يتوقف جزء من المسلمين عن خدمة المشروع السياسي الإسلامي مهما كانت الصعوبات في تطبيقه. 

لكن استقرار وقوة النظام الدولي بمستوياته الثلاثة ألزمت الإسلام السياسي بتحديد موقفه بمستويات مختلفة من القبول والرفض وآليات متفاوتة في التعامل. وإضافة لاستقرار هذا النظام وقوته فهو متغلغل في تفاصيل أنظمة الدول الداخلية وعلاقاتها السياسية والاقتصادية والأمنية بطريقة متشعبة تجعل تحديات المشروع السياسي الإسلامي بالغة التعقيد والتشابك في تعامله مع النظام الدولي والدولة القُطرية.  ومن هنا ظهر الطيف الواسع من قبل الحركات والتيارات الإسلامية في التعامل مع النظام الدولي. 

إسرائيل والإسلام السياسي

لا يوجد مشروع سياسي إسلامي -سواء كان عربيا أو غير عربي- إلا ويعتبر قضية فلسطين وسيطرة إسرائيل على القدس من أولياته. وتتفاوت الأطروحات بين تيارات الإسلام السياسي في الموقف التفصيلي من إسرائيل لكنها جميعا تصطدم بالواقع الدولي ما دام أقلها تشددا لا يرضى باحتلال القدس فكيف بمن يتبنى زوال إسرائيل؟

هذه الأولوية لدى تيارات الإِسلام السياسي ليست تكلفا حزبيا ولا كسبا لتعاطف الشعوب بل هي نتيجة طبيعية للحد الأدنى من الالتزامات الدينية التي يؤمن بها المنتمون لهذه التيارات. وبهذا تتأكد حقيقة إن إسرائيل رأس حربة في مواجهة الإسلام السياسي مع النظام الدولي الذي يحمي إسرائيل بأقصى طاقته.

طيف العلاقة بين النظام الدولي والمشروع الإسلامي 

المرتبة الأولى في الطيف هي أشد الأطروحات تمردا على النظام الدولي وهو رفضه نظريا وعمليا والسعي فورا لمواجهته بكل الطرق وعلى كل الميادين ومن خلال كيان سياسي بأرض وشعب وسلطة. وهذا هو طرح داعش التي صنعت كيانا له سلطة حقيقية على الأرض بمؤسسات عسكرية ومدنية كاملة خارج نطاق النظام الدولي بدأت بتسميته دولة العراق والشام ثم دولة الخلافة. هذا الكيان واجه العالم كله وواجهه العالم كله، وحمل أتباعه قناعة راسخة أنهم يستطيعون فتح الفتوح وتوسيع سلطة هذا الكيان حتى يتحول لخلافة حقيقية. 

ومهما كانت تبريراتهم في مواجهة العالم فقد ثبت بعد نهاية التجربة أنه برنامج غير عملي وأن النظام الدولي أقوى بكثير مما يتصورون. ويعتقد المنتمون لهذا الفكر أن الإخلاص والصدق كاف لجلب الدعم الرباني ضد التعاون العالمي عليهم. ويرد عليهم مخالفوهم بأن الإسلام دين واقعي لا تخرق فيه السنن الكونية وأنهم ليسوا أكثر إخلاصا من النبي صلى الله عليه وسلم ومع ذلك أُمر بالتدرج في مواجهة الأعداء إلى أن صارت قدراته كافية للمواجهة. 

المرتبة الثانية في الطيف بعد داعش هي القاعدة، والتي لها فلسفة مختلفة عن داعش في التعامل مع النظام الدولي. ترى القاعدة -على لسان منظرها أيمن الظواهري- أن مواجهة النظام الدولي بكيان سياسي محدد أمر غير واقعي ويجب ألّا تسعى له القاعدة إلا بعد تفكيك النظام الدولي، وأن تفكيك النظام هو الهدف الأول. وتبين هذا الأمر بشكل واضح في رسالة الظواهري للزرقاوي التي يرفض فيها فكرة الدولة الإسلامية. وإلى أن يتم التفكيك تبقى القاعدة خلف الأفق في عدة بلدان على شكل تجمعات تتفاوت في حجمها ودرجة ظهورها واستعراض قوتها. 

وتظن القاعدة أنها تستطيع تفكيك النظام الدولي بنفسها من خلال استهداف قيادته "أمريكا" مباشرة بخطة متكاملة تؤدي إلى تحييدها أو إشغالها بنفسها. ولهذا تبنى الظواهري خطة من ثلاث مراحل بدأت بضربات كينيا وتنزانيا في ١٩٩٨ لتجنيد الشباب ضد أمريكا، ثم ضربة سبتمبر لإجبار العالم كله على الاستقطاب وحشد العالم الإسلامي ضد أمريكا، وكان يؤمل نفسه بمرحلة ثالثة يتم فيها تحييد أمريكا بالكامل. ويبدو أن ترمب وفر عليه الجهد ففتح المجال أمام إشغال أمريكا بمشاكل محلية وعالمية كبيرة قد تؤدي حقيقة إلى تحييدها.

المرتبة الثالثة في الطيف هي طالبان التي تحصر برنامجها عمليا داخل حدود أفغانستان لكنها لا تتحدث في أدبياتها بما يدل على اعتراف بهذه الحدود فضلا عن أنها تؤوي مقاتلي القاعدة الذين لا يعترفون بهذه الحدود. وبهذا فكأن طالبان تتعامل مع قضية القُطرية تعامل الهدنة المفتوحة كواقع مؤقت إلى أمد غير مسمى فتقبلها عمليا لكن لا تقر بها مبدئيا. أما من حيث هوية رعاياها فإن مشروع طالبان داخل أفغانستان لا يعترف بأن الحدود تمثل الهوية ويضع الإسلام فوق الوطنية، بل ربما لا ينظر للوطنية كهوية إلا من الجانب العملي.

ورغم تحمل طالبان لمبدأ الحدود فإنها اصطدمت بالضرورة مع النظام العالمي بسبب تشبثها ببقية المواقف التي تعارض هذا النظام. وهذا الصدام هو الذي جعلها في حرب مستمرة مع أمريكا وحلفائها ولكن في نفس الوقت لولا التهادن مع القُطرية وواقعيتها في التعامل مع الظروف المحلية والعالمية لما صمدت كل هذه المدة وصارت تكسب. 

المرتبة الرابعة في الطيف هي الجماعات التي لا تشكك مطلقا في القُطرية وتقبل بها كمبدأ وليس مسايرة مؤقتة للواقع، لكنها تصر على مرجعية الدين داخل هذا الكيان القُطري. هذه المرجعية المحسومة تقتضي ألّا تكون هيمنة الإسلام وتطبيق الشريعة مسألة مطروحة للاختيار، وسواء حكم البلد بشورى أو استبداد فليس من حق أحد أن يخرج عن سلطان الشرع ولا أن يضع الدين تحت الاختبار. وكان هذا هو طرح الإخوان المسلمين في العقود الأولى بعد نشأتهم إلى أن تخلوا عنه بعد أن دخلوا الانتخابات رسميا أيام حسني مبارك، وهو كذلك طرح قيادات حزبية لها برامج سياسية مثل حازم صلاح أبو إسماعيل.

والذين يقبلون بالحدود قناعة ومبدأً ويطرحون هيمنة الدين بشكل كامل سوف يجدون أنفسهم أمام تحديات كبيرة في تعريف الهوية وما يترتب عليها خاصة إذا كان  في البلد أقليات غير مسلمة. كما إنهم سوف يقعون في اختبار التعامل مع المطلوبين عالميا لأن ظاهر الإسلام يلزمهم بإيوائهم والنظام العالمي يلزم بتسليمهم، وهذا ما دفعت ثمنه طالبان بمواجهة النظام الدولي وتحملت تبعات هذه المواجهة لكنها كانت مستعدة لذلك وحسبت حسابه. 

المرتبة الخامسة في الطيف هي برنامج الإخوان المسلمين الحالي الذي لا يشكك أبدا بالدولة القُطرية ويقبل بالهوية الوطنية ويعتبر أمرها محسوما. أما هيمنة الشرع داخل كيان الدولة  فلا يشكك في وجوبه لكنه يفضل من الناحية العملية ترك موضوع "الشريعة" لاختيار الشعب مراهنا على أن الشعب سيختار الشريعة ومن ثم يمكن صياغة دستور يثبّت الشريعة كمرجع دائم للدولة. بمعنى آخر يعتقد هذا التوجه أن رفع شعار اختيار الشعب إنما هو ذريعة أو وسيلة لتأكيد هيمنة الشرع بافتراض حتمية إقرار الشعب لذلك، وأنه ليس من المتوقع من الشعوب المسلمة أن تتردد في تثبيت مرجعية الشريعة. 

وهذا التوجه مستعد لتحمل تبعات كل ما تفرضه الهوية الوطنية المرتبطة بالحدود ولا يمكن أن يقبل إيواء جهات ترفض النظام العالمي أو مطاردة عالميا.  ومعظم التيارات التي تتبنى هذا الطرح تعتقد إنها يجب أن تنخرط في التعاون العالمي ضد الجماعات المناهضة للنظام الدولي. لكن يبدو أن هذه التيارات لا تدرك أن تقديم الهوية الوطنية على الهوية الدينية يدفعها لإشكالات كثيرة خاصة في التعامل مع الأقليات. ويتعرض هذا التيار لانتقاد من المتشبثين بمعارضة النظام الدولي الذين يعتبرون الطرح الذرائعي خذلانا للدين ويجب على المسلم أن لا يكون خجولا بدينه، كما لم تكن الثورات الفرنسية والروسية والخمينية خجولة بفرضها فكرها على الشعوب. وفي المقابل يتعرض هذا التيار لانتقاد من التيارات العلمانية التي تعتبر هذا الطرح غشا وخداعا للشعوب على طريقة هتلر الذي وصل للحكم بطريقة ديمقراطية ثم فرض النازية فرضا. 

المرتبة السادسة في الطيف هي الجماعات التي تقبل بالنظام الدولي قناعة كاملة بكل تفاصيله سواء قضية الدولة القُطرية والهوية الوطنية أو قضية ترك موضوع الشريعة لاختيار الشعب. وهذه الجماعات لا تعتبر ترك اختيار الشعب للشريعة حيلة ذرائعية لضمان تحكيم الشريعة بل ترى مبدئيا أن رأي الشعب فوق الشريعة ولا ينبغي النص في المستقبل على دستور يلزم الدولة بهيمنة الشريعة. بل إن مفهوم الشريعة عند هذه التيارات لا يعني التطبيق الشامل بل يعني تطبيق ما يمكن تطبيقه من بعض القوانين أو القيم الاجتماعية.

بعض هذه التيارات تصر أن هذا هو أفضل طرح للمشروع الإسلامي مثل حزب النهضة في تونس وحزب العدالة والتنمية في المغرب، وفي منشورات حزب النهضة وكتابات الغنوشي ما يدل على أن القناعة بذلك ليست عملية فقط بل مؤصلة في أدبيات معتبرة لهذا التيار. تيارات أخرى تصف نفسها بأنها ليست إسلامية بالمفهوم الدقيق بل علمانية لكنها تعتبر الإسلام رافدا في الهوية والانتماء والأخلاق والقيم وربما شيء من التشريع، وأفضل من يمثل هذا الطرح الذي يعترف بعلمانيته حزب العدالة والتنمية في تركيا. والحقيقة أن الأخير أكثر انسجاما مع نفسه من الأول فلا يمكن أن يكون اختيار الشعب مقدما على الشريعة بشكل مبدئي إلا أن تكون المرجعية علمانية. 

هل هناك تيارات أخرى لا تخضع لهذا التصنيف؟

يمكن تصنيف الجبهة الإسلامية للإنقاذ في المرحلة الثالثة والرابعة لأنها لم تعترض علنا على الحدود والدولة القطرية لكنها حسمت موضوع هيمنة الدين. أما تجربة الترابي فهي ما بين المرتبة الخامسة والسادسة لأن موقف مشروعه من هيمنة الشريعة كان مائعا. وعلى كل حال فتجربة الترابي خُطفت بالكامل وتحولت إلى نسخة من الدول القطرية التقليدية. أما حركة حماس فربما بين المرتبة الرابعة والخامسة لأنها تقبل بالقطرية كمبدأ "فلسطين فقط" وتؤكد مرجعية الإسلام لكنها في التطبيق تتساهل في هذه المرجعية.

وهناك عدد من النشطاء والمفكرين والكتاب الذين يمكن تصنيفهم في المرتبة الأولى أو الثانية ويعتقدون أن لا بد من مواجهة النظام العالمي بكل مستوياته وبالقوة لكنهم لا يقبلون أساليب داعش والقاعدة. المشكلة أنهم لا يستطيعون تجاوز الطرح الفكري الفردي؛ لأن أي تشكّل لهذا الفكر في كيان حزبي أو جماعة معلنة يعني القضاء عليه من قبل النظام الدولي.

تقويم تجارب الإسلام السياسي من زاوية الصدام مع النظام العالمي

الإشكالية التي تواجه من يحاول تقويم هذه التجارب هي مقياس النجاح والفشل، فهل المقياس هو القدرة على إنشاء دولة أو هو الوصول للسلطة أو هو الصمود عسكريا أمام النظام العالمي أو هي الانتشار في عدة دول وكم هي المدة التي يحكم فيها على التجربة؟

يعتبر البعض أن القدرة على التعايش مع النظام الدولي نجاح، وبهذا المقياس لا يدخل في دائرة النجاح إلا تجربة أردوغان والغنوشي وحزب العدالة والتنمية المغربي. مخالفوهم لا يعترفون بهذا المقياس ويتهمون حزب العدالة والنهضة بتقديم تنازلات أفرغت الإسلام السياسي من محتواه؛ وبهذا لا يعتبر إنجازهما الحزبي نجاحا للإسلام السياسي بل هو إنجاز يشبه أي حزب علماني آخر تلطّف بأخلاق إسلامية. ويتمم المخالفون الفكرة بأن المدة غير كافية للحكم على التجربة ما دامت ثوابت الدين لم ينص عليها في الدستور، فغدا يخسر حزب العدالة وحزب النهضة وتزول كل المكاسب. 

آخرون يعتبرون النموذج الطالباني هو النجاح؛ لأن طالبان رغم التزامها بقُطرية أفغانستان لم تقدم أي تنازل مبدئي للنظام الدولي ومع ذلك بقيت قوية وتزداد قوة وكسبت الحاضنة الاجتماعية رغم التعاون الدولي ضدها. مخالفوهم يحترمون صمود الطالبان وقدرتهم على مواجهة أمريكا وحلفائها لكنهم يعتبرون ثمانية عشر عاما كافية للحكم على عدم واقعيتهم. ويزعم هؤلاء أن النظام الدولي الذي يقوي بعضه بعضا طويل النفس بالضرورة ولن تستطيع طالبان هزيمته. ويذهب هؤلاء لأبعد من ذلك فيزعمون أنه حتى لو استلمت طالبان السلطة بعد انسحاب أمريكا فلن تستطيع تسيير الدولة دون تقديم بقية التنازلات للنظام الدولي. 

تجربة داعش لا يدافع عنها إلا المنتسبون لها ولا يزالون يصرون أنها قادرة على العودة أقوى مما كانت ويبالغون في الأماني والتطلعات. لكن الغالبية العظمى من المراقبين وحتى المتعاطفين مع التيارات الجهادية يعتبرون التجربة غير واقعية، وما لم يتفكك النظام الدولي فيستحيل أن ينجح مشروع داعش.

مشروع القاعدة من أصعب المشاريع تقويما لأنهم لم يحددوا هدفهم بإنشاء دولة وتركوا المدى مفتوحا إلى أن يتفكك النظام الدولي. الذين يعتبرونهم فشلوا يشيرون إلى تشرذمهم في كثير من البلدان وقدرة النظام الدولي على التعاون لملاحقتهم واعتقالهم وقتلهم وتخويف الناس منهم. والمتحمسون لهم يقولون إن القاعدة أصلا لم تكن إلا في أفغانستان ولذلك فإن نجاحها في إيجاد تنظيمات في عدد من البلدان ونشرها مفهوم الجهاد يعتبر إنجازا. ويقولون كذلك إن القتل والأسر الذي أصابهم كان جزءا من خسارة محسوبة ما دام ثمنا لانتشار مفهوم الجهاد. كما يزعم هؤلاء أن القاعدة نجحت في تحقيق المراحل الأولى من خلخلة النظام العالمي، وساعدت على تقبيح صورة أمريكا في العالم وأرهقتها بحرب الإرهاب وهيأت الفرصة لإبعاد أمريكا عن قيادته. 

أما تجربة الإخوان المسلمين القديمة وبرنامج حازم صلاح أبو إسماعيل حديثا فلم يتحقق منها شيء بل تتعرض للمزيد من التهميش والنسيان. وحاول الإخوان عزو السبب للقمع السياسي وحرمانهم من الفرص ولم يتطرقوا للصدام مع النظام العالمي اللهم إلا في سياق كونهم خطرا على إسرائيل لو استلموا السلطة. وقد حاول الإخوان تلطيف المشروع وتحولوا من المرتبة الرابعة للخامسة وتنازلوا عن بعض الثوابت بعد ثورة يناير ظنا منهم أن المشكلة محلية، ربما غير مدركين أن النظام الدولي أكثر عداء لهم مما يظنون. 

هل مقاييس النجاح والفشل صحيحة؟

لكن بغض النظر عن مقاييس النجاح والفشل فإنه ليس من الإنصاف أن يحكم على هذه التجارب بمعزل عن الظروف المكانية والزمانية والسياق الاجتماعي والتاريخي للمجتمع والدولة والمنطقة. والتجارب التاريخية الكبرى لا يحكم عليها كقالب ثابت فكل تجربة لها سياقها وظروفها وأحوالها. 

التطرف العلماني في تركيا وإرث أتاتورك وسنوات طويلة من تجفيف المنابع والحرب على الدين في تونس تجعل المتوقع من أردوغان والغنوشي أقل بكثير من المتوقع من طالبان والإخوان. منظرو حزب العدالة مثلا يعتبرون أي مساهمة في إعادة المجتمع التركي للإسلام بعد قرن من أتاتورك إنجازا كبيرا وكذلك الغنوشي في تونس. 

الطالبان من جهة أخرى يردون على من يعاتبهم على ثمانية عشر سنة من القتال أن الشعب الأفغاني مجبول على القتال وقد صمد في وجه بريطانيا والسوفيات عقودا طويلة ولن يتضايق من بضع سنوات إضافية لهزيمة أمريكا. ويقولون كذلك أن الشعب الأفغاني يقدس العلماء والدين ويرفض العلمانية، وبهذا فليسوا بحاجة للتفكير على طريقة العدالة والنهضة. 

واذا روعي هذا الاعتبار في تقويم تجربة داعش فيمكن بسهولة تفسير توسعها الأول بطريقة دراماتيكية وجذبها لعدد كبير من الشباب. تأسست داعش كردة فعل عنيفة على الاحتلال وكانت الوسيلة الأكثر في شفاء غليل الغاضبين على النفوذ الأمريكي الإيراني وإشباع الرغبة بالانتقام من القمع الذي تعرض له أهل السنة. هذا التقويم المنطلق من معرفة الظروف يفسر التضخم المفاجئ لداعش وفي نفس الوقت يفسر هزيمتها السريعة. 

ماذا عن الإخوان المسلمين؟ هل كان فشلهم في أي إنجاز سياسي معتبر محكوما بالظروف السياسية والسياق الاجتماعي والتاريخي؟ هم يقولون ذلك ويلقون اللوم على تواصي السلطات في العالم العربي بقمعهم أو تهميشهم وعلى تخوف النظام الدولي منهم وخطرهم على إسرائيل. لكن المخالفين لهم يعتبرون المشكلة داخلية في تنظيمهم ومن خلال عجز إداري وإستراتيجي يجعل الجماعة غير قادرة أساسا على تحقيق إنجاز سياسي.

مصير المواجهة بين الإسلام السياسي والنظام الدولي

لن يفتر عزم العاملين في الإسلام السياسي في تنفيذ الأوامر الدينية، وسيبقون متحمسون في كل تيار من التيارات المذكورة بسبب القناعات المختلفة لكن ما هو مصير تعاملهم مع النظام الدولي؟ 

ربما يستمر تعايش التيار السادس لأنه يقبل بالنظام الدولي بكل تفاصيله وقد ينجح في تحسين ظروف المسلمين والعمل الإسلامي وإعادة القيم الدينية للمجتمع الإسلامي، لكن من المستبعد أن يقدم نجاحا سياسيا  بتمكين الدين من السلطة إلا بصدام مع النظام الدولي. 

أما التيارات الأخرى فيبدو بعد هذا الاستعراض أن رسالتها تصطدم بالضرورة مع النظام العالمي ويكاد يستحيل أن يكون للإسلام تمكين من خلال برامجها دون خلخلة في النظام الدولي سواء عالميا أو إقليميا. وهذه الخلخلة لا تحتاج إنهيار النظام بالكامل بل يكفي تحييد أمريكا حتى تفتح نافذة تاريخية تقتحم من خلالها كل هذه التيارات ميدان الإنجاز السياسي وتفرض الدين كمرجعية وربما تتجاوز الحدود. ويبدو أن الغرب خلال العقود الأخيرة اعتمد على أمريكا إلى درجة جعلته محتاجا لها بشكل حيوي أدى به لأن يكون عاجزا عن ملء فراغها كقيادة إلى مدة طويلة. هذا العجز عند الغرب بعد تحييد أمريكا هو الذي يفتح النافذة التاريخية التي يفترض أن يستغلها الإسلام السياسي. 

وعودا على قضية إسرائيل وفلسطين فإن من الوارد بسبب مركزية هذه القضية في هذا الصدام أن يكون اقتحام حصون إسرائيل مفتاحا لإسقاط هيبة النظام الدولي. ولكن من المستبعد جدا أن يحصل شيء من ذلك إلا بعد أن تنشغل أمريكا بنفسها وتنهار الأنظمة العربية التي تحمي إسرائيل بشكل صريح. قد تبدو هزيمة إسرائيل بالموازين الحالية مستحيلة، لكن بعد تفكك النظام الدولي ستكون إسرائيل عاجزة تماما عن حماية نفسها.