الجزائر.. الحراك والجيش يفضحون زبائن العصابة

ادريس ربوح | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في بداية الحراك تحدثنا عن ضرورة أن تستغل الأحزاب السياسية الموجودة في الساحة الجزائرية فرصة الحراك الشعبي لتجديد نفسها وبث روح جديدة ودماء فوارة وفرتها الحمى الثورية الراهنة.

وكان الحديث موجها لمناضلي هذه الأحزاب، التي سيكتشف الكثير منهم أنهم كانوا ضحية علاقة زبائنية تربط القيادات المتعاقبة لأحزابهم بأسياد العهد البوتفليقي بنسخة القوى غير الدستورية، وعلى رأسها السعيد بوتفليقة أو نسخة الرئيس السابق لرئيس الاستعلامات والأمن (المخابرات) الجنرال محمد مدين وخليفته عثمان طرطاق. 

فقد كانت هذه القيادات المرتبطة بمرحلة بوتفليقة وما قبلها تدير أحزاب موالاة ومعارضة بالتصنيف المعلن عنه إعلاميا؛ وهو تصنيف غير دقيق باعتبار أن الكثير من الأحزاب المحسوبة على المعارضة كانت لا تقل ولاء من ناحية المناولة السياسية مقارنة بخصومها من أحزاب الموالاة، إذ كان الجميع يشتغل بصفة نشطة لحساب الثنائي المتنافس داخل دواليب السلطة المتحالف خارجها، وهما السعيد بوتفليقة زعيم القوى غير الدستورية وزعيم فلول الدولة العميقة محمد مدين.

في هذه الأجواء حافظت أحزاب الموالاة الموجودة في الحكومة وخارجها وكذلك أغلبية أحزاب المعارضة المنضوية تحت تنسيقية الانتقال الديمقراطي وهيئة التشاور والمتابعة للمعارضة تقديم خدماتها، وتلقي الأوامر من اللاعبين الرئيسيين في المشهد السياسي الجزائري. 

إلا أن تسارع الأحداث والريتم الذي فرضه الحراك الشعبي على الجميع وعدم قدرة الأحزاب السياسية على المواكبة، أفرز في النهاية بروز فاعلين رئيسيين هما الحراك الشعبي والجيش الشعبي الوطني لتأخذ الأمور حالة من التنافس حينا والترضية حينا آخر بين الطرفين الذين استفردا بالمشهد.

فكان التفاعل الإيجابي للمؤسسة العسكرية مع المطالب الشعبية التي يقودها الحراك بتوقيف العهدة الخامسة، ثم الدفع باستقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، إذ ساهمت هذه الخطوة الكبيرة والخطوات اللاحقة في تعرية الطبقة السياسية نهائيا وخاصة أحزاب جبهة التحرير الوطني والتجمع الوطني الديمقراطي. وبينت الأحداث هامشية بل والتبعية المطلقة لهذه الأحزاب لأسياد المرحلة وفق الشعار المشهور "مات الملك عاش الملك".

وفي مسعى لركوب الحراك وتقديم قرابين الولاء للجيش، سارعت قيادات هذه الأحزاب لتبرير جرائمها السياسية في حق الشعب الجزائري وطلب الصفح، وأنهم كانوا أداة في يد قوى غير دستورية وغيرها من الأعذار التي لم تقنع الحراك في شئ؛ خاصة أنها أحزاب تملك لحد الساعة الأغلبية في غرفتي البرلمان، وبيدها كل وسائل تلبية مطالب الحراك المعقولة بذهاب الوزير الأول، نورالدين بدوي، وإنشاء لجنة مستقلة للإشراف على الإنتخابات ولكنها أحزاب لا تتحرك إلا بمهماز.

فقد جاءت تصريحات أحزاب الموالاة في محاولة لحجز مكان وسط الحراك، لتؤكد ما ذهب إليه الشعب الجزائري بأن القرار السياسي كان مختطفا من طرف قوى غير دستورية استولت على ختم الجمهورية، خاصة طيلة السنوات السبع الأخيرة، التي أعقبت مرض الرئيس ثم عجزه النهائي عن أداء مهامه بل وحاربت هذه الأحزاب في إطار مهامها القذرة كل صوت حر يكشف حقيقة ما يجري والمطالب بتصحيح الأوضاع، بدءا بتفعيل المادة 74 من الدستور، التي عوضتها المادة 102 بعد التعديلات الدستورية، إذ دأبت عدد من الأحزاب السياسية سواء التي تنطلق من قناعات سياسية مستقلة أو استجابة للمهماز الثاني للمطالبة بإعلان شغور منصب رئيس الجمهورية. 

ومما ساهم في ضبابية المشهد السياسي الجزائري وصعوبة التفريق بين الموالي والمعارض هو إتقان النظام الجزائري للعبة الاحتواء والاستيعاب للجميع ترهيبا وترغيبا، إذ فضلت الكثير من الأحزاب والشخصيات المعارضة داخل الجزائر أو خارجها الدخول في بيت الطاعة والاكتفاء بدور معارض محدود، يعطي الانطباع للمتابع السطحي بأنهم يمثلون قوى معارضة. 

لتتحول أغلبية الأحزاب المنظوية تحت عباءة تنسيقية الانتقال الديمقراطي وهيئة التشاور والمتابعة للمعارضة إلى كتلة سياسية تسير تحت إيقاع قائد الأوركسترا المخضرم الجنرال محمد مدين (توفيق)، الذي حاول بعد سبتمبر 2015 -تاريخ إحالته على التقاعد- العمل على مواصلة نفوذه وسيطرته على المشهد السياسي والإعلامي وهو خارج منظومة الحكم. 

إلا أن تحالف مركزي الرئاسة والجيش وسيطرته النهائية على القرار السياسي في البلاد أوصل رئيس دائرة الاستعلامات والأمن (المخابرات) الجنرال إلى رمي المنشفة داخل حلبة السلطة، ليواصل محاولة العودة من جديد عبر شبكته التي نسجها طيلة 25 سنة، وهو على رأس المخابرات. وهي شبكة تمتد في الأحزاب السياسية الموالية والمعارضة والمؤسسات الإعلامية ورجال المال ونشطاء المجتمع المدني، وما يسمى بالشخصيات الوطنية المستقلة وغيرها بالإضافة إلى العلاقات المحاكة مع القوى الدولية وعلى رأسها فرنسا. 

كل هذه الترسانة من القوى الناعمة تم توظيفها في الصراع الذي سيشتد بمناسبة الانتخابات الرئاسية في 18 أبريل 2019، إذ تكتل جزء من هذه القوى حول الجنرال المتقاعد، علي غديري، الطامح لرئاسة الجمهورية، وفي محاولة من هذه القوى للعودة مجددا للسلطة عبر سيناريو التنازل من طرف القوى غير الدستورية في مقابل الحفاظ على امتيازتها وحماية نفسها من المتابعات.

وفي تطور تجاوز الجميع جاء الحراك الشعبي جارفا معه المراكز المندحرة من السلطة، ويحتم عليهم بناء تحالف جديد للالتفاف على الحراك.

وفي محاولة لامتطائه كان رد فعل الجماهير الشعبية قاسيا حيث تم طرد معظم الأحزاب والشخصيات المحسوبة على المعارضة، لأن الكثير كان يعتقد أن الحراك الشعبي وليد 22 فبراير، بل هو تراكم لعميات متابعة دامت سنين طويلة كانت ساحتها الأساسية وسائل التواصل الاجتماعي، إذ ساهمت مختلف الجهود التي قام بها العديد من الجزائريين والجزائريات في نشر الوعي والفهم بحقيقة الأمور، وهي أهم معركة كانت ومازلت ترشد الحراك وترتقي به إلى مستويات أعلى. 

هذا الفهم المفضي إلى العمل الواعي والممنهج لدك حصون الاستبداد في السلطة والمعارضة وغيرها من المواقع. فالشباب الجزائري بالخصوص كان يتابع الأحداث طيلة العقود الثلاث الأخيرة وخاصة فترة حكم بوتفليقة، وهي أسوء فترة فساد عاشتها البلاد، فكان كل زبون أو مناول للنظام تحت الرصد والمتابعة من طرف نشطاء وسائل التواصل الاجتماعي وعموم المواطنين ولا يستثنى في ذلك أي شخصية محسوبة على السلطة أو المعارضة مدنية كانت أو عسكرية.

فكان الفيصل في ذلك هو مدى تورط هذا الطرف أو ذاك في الفساد المالي والسياسي، وفهم الجميع رسائل رؤساء حكومات بوتفليقة وخاصة أحمد أويحي عندما قال: إن "السلم الاجتماعي ليس له ثمن"، وعبد المالك سلال، الذي خاطب الشباب المستفيد من القروض الاستثمارية التي أعطتها الدولة بغرض خلق فرص الشغل لهم ولغيرهم، بأن هاته الأموال التي بحوزتهم يمكنكم أن يتزوجوا بها "روحوا تزوجوا بها".

وهذا إعلان واضح للبدء في عملية تعميم الرشوة وشراء الذمم السياسية لمختلف شرائح المجتمع، واستهدفت تحديدا قيادات الأحزاب والجمعيات والمنظمات والناشطين وكل من يريد تغيير قواعد لعبة الحكم، التي وضع أسسها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة المشهور بمكره وتفضيله أساليب التوريط عوض القمع. حتى وصل الأمر بأن أصبح النزهاء من أبناء الجزائر والمحذرين من تدهور الوضع يعيشون غربة كبيرة وسط جموع الانتهازيين والنفعيين، بل وأصبح من يطالب بالإصلاح يتهم بأنه لايعرف مصلحته.

لقد عاشت الجزائر مرحلة طغى فيها شراء الذمم وإفساد الأخلاق، ولم يسلم أي قطاع من ذلك، إذ بلغ الفساد مستويات قياسية ستكشف عن جزء منها المحاكمات الحالية. 

ليأتي الحراك الشعبي محررا للجميع وعلى رأسهم مؤسسة الجيش، التي انحازت لبعض مطالب الحراك وأخذت المبادرة بدعوة القضاء المدني لمباشرة التحقيقات وحبس رموز الفساد المالي المتحالف مع الفساد السياسي، الذي وصل إلى حد المساس بوحدة وسلطة الدولة ليتكفل به القضاء العسكري. 

فكان توقيف قادة العصابة بمثابة زلزال ضرب معسكر الفساد، إذ اعتبرت الأغلبية من الحراك الشعبي بأن توقيف السعيد بوتفليقة ومحمد مدين وعثمان طرطاق، أبرز إنجاز حققه الحراك في متابعة من أراد التآمر عليه؛ وبداية للكشف عن قائمة زبائن السعيد والتوفيق حيث لم ينتظر الحراك كثيرا حتى تم توقيف لويزة حنون، الأمينة العامة لحزب العمال التروتسكي المتحالفة مع البرجوازية الجديدة بقيادة الثنائي السعيد التوفيق. 

ردود الأحزاب السياسية على هذه التوقيفات تميز  بحالة من الهلع التي لم تستطع التصريحات والبيانات أن تخفيها، نتيجة قوة وجرأة قرارات القضاء العسكري، الذي لم يتوقعه أي أحد، لتبدأ مرحلة الهجوم المعاكس لاستهداف المؤسسة العسكرية باعتبارها هي من باشرت هذه المتابعات، بل وتذكر قيادة الجيش في خطابها للحراك بأنها تقدم الدليل على صدق توجهها في محاربة الفساد، وذلك بمتابعة ضباط ساميين كانوا في غضون أسابيع في قيادة الأركان وفي الإدارة المركزية لوزارة الدفاع. 

وكانت كل محاولات التشكيك في عمليات التحقيق التي باشرها القضاء المدني والعسكري هي محاولة لإنقاذ كل رموز العصابة السياسية-المالية، التي لم تتصور أن الأمور تصل إلى هذا المستوى من ناحية الجدية ومن ناحية المعنيين بهذه المتابعات. 

أمام هذا المشهد يصل الحراك ولأول مرة منذ انطلاقته إلى حالة من الانقسام والانحراف، إذ أصبحت المؤسسة العسكرية مستهدفة من طرف ما أصبح يعرف بـ"أيتام التوفيق والسعيد" المنتشرين في الأحزاب السياسية والمنظمات، ورجال المال والناشطين المحسوبين على تيارات سياسية معينة وبالخصوص تيار اليسار الجهوي. وهو تيار أسير منطقة القبائل لم يستطع طيلة عقود أن يصبح تيارا منتشرا في كامل ولايات وبلديات الجزائر. لكنه في المقابل يملك قوة التأثير داخل مؤسسات الدولة ووسائل الإعلام ورجال المال وكذلك الجالية الجزائرية في فرنسا.

وهذا ما يفسر طغيانه في المشهد الإعلامي في الداخل والخارج، خاصة وأن له امتدادات وتحالفات مع قوى دولية رسمية وغير رسمية، كالأممية الاشتراكية بمختلف فروعها، التي يجلس في معبدها ممثلوا هذا التيار جنبا إلى جنب مع نظرائهم من أحزاب اليسار الصهيوني. 

ورغم هذا النفوذ المحلي والدولي، إلا أن هذا التيار لا يستطيع مقاومة التيار الغالب في الحراك، الذي ما زال يركز على توفير شروط المرور إلى إنتخابات رئاسية حرة ونزيهة وفق المعايير الدولية المتعارف عليها، وأولها ذهاب رمز التزوير الانتخابي الوزير الأول، نورالدين بدوي، واستحداث لجنة مستقلة للإشراف على الانتخابات الرئاسية يتم التدوال في تركيبتها وصلاحياتها في حوار وطني جامع.

هذه اللجنة التي لابد أن تحاكي التجارب العالمية الناجحة في إدارة العملية الانتخابية منذ بدايتها، وإلى غاية الإعلان عن النتائج بعيدا عن أي إشراف للحكومة أو الجيش أو أي طرف آخر لم تختره مخرجات الحوار الوطني. 

فالمطالب الديمقراطية، هي الجامعة للحراك وهي الأولوية القصوى، أما قضايا الفساد والمتابعات القضائية ككل فليست هي الأولوية، وسواء اتفقنا أو اختلفنا على أنها جزء من صراع عصب الحكم أو أنها تصفية حسابات بين قيادة الجيش وفلول المخابرات السابقة وفلول الرئاسة السابقة، إلا أنها لاقت قبولا شعبيا منقطع النظير. ويكمن ذلك في قوتها غير المسبوقة في كل تاريخ الجزائر الحديث.

واستقبلها الشعب بارتياح كبير، واعتبر ذلك انحيازا أكبر للجيش مع الحراك، لكن هذا الأخير مازال متفطنا لأي محاولة لإلهائه عن مطالبه المركزية في تحقيق الانتقال الديمقراطي وإرساء دولة القانون.