الوجود التركي بالصومال.. استثمارات إستراتيجية تتجاوز الاستفزازات الإقليمية

"ما يميز العلاقات التركية-الصومالية هو الصبر الإستراتيجي"
وقعت تركيا والصومال في العاصمة أنقرة في 8 فبراير/ شباط 2025 اتفاقية إطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي، تستهدف مواجهة ملفات الإرهاب والقراصنة ومنع التهديدات الخارجية.
وفي السياق، نشرت صحيفة "صباح" مقالا للكاتب التركي "تونتش ديميرتاش" ذكر فيه أن هذه الاتفاقية تُعَدّ نقطة تحول إستراتيجية مهمة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
فهذه الاتفاقية لا تعكس فقط تعميق التعاون بين البلدين، بل تشير إلى مرحلة جديدة من التحولات التي قد تؤثر بشكل كبير في موازين القوى في منطقة القرن الإفريقي.
فالصومال، الذي كان بعيدا عن دائرة الأضواء في السابق، أصبح في الآونة الأخيرة مركزا للتحولات الجيوسياسية التي تستحق المتابعة الدقيقة.

تعاون لافت
فمن الواضح أن تركيا تسعى إلى لعب دور بارز في الصومال، وهو ما يتجلى في الأنشطة التركية المتزايدة؛ مثل الأبحاث البحرية عبر السفينة التركية "أوروتش رئيس"، ثمّ إنشاء قاعدة فضائية، بالإضافة إلى تسليم الطائرات التركية بدون طيار "آكينجي".
وبذلك فإن هذه التحركات تعكس رغبة تركيا في تعزيز قدرتها التقنية والعسكرية في الصومال، مما يسهم في استقرار البلاد.
لكن في الوقت ذاته، يبدو أن هذه الأنشطة قد تتسبب في ردود فعل من بعض القوى الإقليمية والدولية، والتي ترى في هذا التوسع تهديداً لمصالحها التقليدية في المنطقة.
وإحدى النقاط التي تثير القلق لدى بعض الأطراف هي إمكانيات الطاقة الكبيرة التي تمّ اكتشافها في المياه الإقليمية للصومال، والتي قد تفتح أمام البلاد فرصاً اقتصادية جديدة.
وفي حال تم استغلال هذه الموارد بشكل صحيح، قد يتحقق الاستقرار في بعض المناطق، مما يقلل من الاعتماد على القوى الخارجية. ولذلك بالنسبة لعدد من الفاعلين الإقليميين، فإن هذه التحولات تمثل تهديدا لموقعهم في المنطقة.
فعلى سبيل المثال، إن وجود السفن الحربية التركية في المياه الصومالية يعزز التعاون طويل الأمد بين البلدين، وهو ما قد يجبر بعض الأطراف الإقليمية على إعادة حساباتهم الإستراتيجية.
فتعد الفرقاطتان التابعتان للبحرية التركية في المياه الإقليمية للصومال عنصرا من عناصر التوازن الأمني في المنطقة.
فبالإضافة إلى دورهما في تعزيز الأمن البحري، تعد هذه السفن نقطة ردع ضد المشروعات الأخرى التي قد تحاول تغيير الوضع الإقليمي لصالح أطراف أخرى.
وهذا يعكس إستراتيجية تركيا في المحافظة على توازن القوى في المنطقة.
من ناحية أخرى، فإن إنشاء قاعدة فضائية في الصومال يشير إلى خطوة مهمة في تعزيز قدرة تركيا العلمية والتكنولوجية على الصعيدين الإقليمي والعالمي.
وهذا التوجه يعكس رغبة تركيا في أن تكون لاعبا رئيسا في مجالات الفضاء والتكنولوجيا المتقدمة.
وفي ظل التنافس الشديد في المنطقة، قد يؤدي تدخل دولة واحدة في هذه المجالات إلى ردود فعل متعددة من القوى الإقليمية والدولية التي تسعى للحفاظ على تأثيرها في المنطقة.

منطقة حساسة
ولفت الكاتب التركي إلى أن الصومال شهد أخيرا تسليم طائرات "آكينجي" التركية المسيرة، وهو تطور إستراتيجي يعزز قدرات الصومال في مراقبة الأرض والبحر ومكافحة الأنشطة غير القانونية.
وتعد الطائرات الهجومية التي تتميز بمدى طويل وارتفاعات عالية أداة فعالة لتعزيز الأمن الصومالي، خاصة في مواجهة حركة "الشباب".
وهذا التعاون يعكس تحولا في الموازين الأمنية في منطقة البحر الأحمر، التي تعد منطقة إستراتيجية حساسة.
وتشير الخطوات التركية في الصومال إلى تعزيز نفوذها الإقليمي في البحر الأحمر؛ حيث تمثل عنصر ردع للتهديدات الأمنية والجماعات غير المستقرة.
كما تسهم في بناء قدرات دفاعية صومالية محورية للمستقبل. ومع ذلك، تواجه تركيا تحديات سياسية وإعلامية متزايدة؛ إذ تتعرض لضغوط من بعض القوى الإقليمية والدولية عبر حملات دبلوماسية وإعلامية مضادة.
حيث تتنوع هذه الحملات بين التضليل الإعلامي والحروب النفسية على وسائل التواصل الاجتماعي، كل ذلك في محاولة لخلق تصورات سلبية عن تركيا داخل الرأي العام الصومالي.
فبعد التغيير الوزاري في الصومال في 17 مارس، شهدت الساحة السياسية تحولات إستراتيجية بارزة، كان من بينها استهداف بعض الجهات لشركاء تركيا في الصومال.
وهذا الاستهداف، الذي قد يبدو في ظاهره موجها نحو الأفراد، يمكن تفسيره كجزء من إستراتيجية أوسع تهدف إلى التأثير على العلاقات بين البلدين.
ورغم محاولات التركيز على الأفراد، فإن الهدف الحقيقي لا يكمن فقط في هذا الاتجاه، بل في استهداف البنية المؤسسية التي تشكل الأساس المتين للتعاون بين تركيا والصومال.
غير أن تركيا، التي تدير علاقاتها عبر إطار مؤسسي مع الصومال كما هو الحال مع بقية الدول الإفريقية، تواصل تنفيذ إستراتيجيتها من خلال الأنشطة الإنسانية والاقتصادية والدفاعية في الصومال.
ومع هذا، فإن هناك محاولات لزعزعة هذه الإستراتيجية، وهو ما يظهر جليا من خلال حملات التضليل التي انتشرت بعد التغيير الوزاري.
ومن أبرز مظاهر هذه الحملات كانت المعلومات غير الموثوقة التي انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي، والتي تناولت توترات مفترضة بين الجنود الصوماليين والجنود الأتراك.
وأشار الكاتب إلى أن هذه المعلومات الملفقة استُخدمت كأداة لتشويه صورة التعاون بين البلدين في فترة حساسة مثل شهر رمضان.
وهو ما يثير تساؤلات حول مدى تنظيم هذه الحملات ومدى تأثيرها في تشكيل الرأي العام.

صبر إستراتيجي
وأضاف أن الحرب بالوكالة لم تعد تقتصر على ساحات المعارك العسكرية، بل أصبحت تُدار أيضا عبر الإنترنت.
وفي هذا السياق الجديد من الضروري أن تبني تركيا سردا مضادا قويا وفعّالا لمواجهة هذه الحملات التضليلية.
فقد يؤدي التهاون في الرد عليها إلى أضرار عميقة وطويلة الأمد، تؤثر على مصداقية تركيا في الصومال وعلى استقرارها الإقليمي في منطقة القرن الإفريقي.
وإن لم يتم التعامل مع هذا التحدي الرقمي بكفاءة، فقد تنقلب الأمور لصالح الأطراف التي تسعى لتقويض النفوذ التركي، مما يهدد مكتسباتها الإقليمية والدولية.
ففي صباح 18 مارس 2025 تعرض موكب رئاسة الصومال لهجوم بالمتفجرات، وذلك بالتزامن مع تسليم تركيا طائرات "آكينجي" بدون طيار إلى الصومال.
وأشار الكاتب إلى توقيت الهجوم الذي يكشف أن الجهة المنفذة كانت تشعر بالقلق إزاء التعاون التركي الصومالي.
ومع ذلك، فإن ما يميز العلاقات التركية-الصومالية هو الصبر الإستراتيجي الذي تتبناه تركيا؛ حيث تركز هذه العلاقات على الشراكات المؤسسية بعيدة المدى بدلاً من المكاسب قصيرة الأجل.
ولا شك أن وجود تركيا في الصومال يشكل نموذجا للشراكة متعددة الأبعاد؛ حيث يسهم هذا الوجود في دعم السلام والتنمية في المنطقة.
ومن أجل الحفاظ على هذه الشراكة بشكل مستدام، يعد تبني نهج صبور ومتوازن أمرا بالغ الأهمية، خصوصا في مواجهة الاستفزازات والتحديات المختلفة.
ويرى الكاتب أنه إذا استمرت تركيا في التصرف بهدوء واتزان في مثل هذه الأوقات، فإنها ستضمن أن المكاسب المحققة في الصومال تظل دائمة.
ولضمان استمرار تأثيرها في المنطقة، يجب على تركيا أن تستمر في استخدام جميع الأدوات المتاحة لها عبر المنصات الدبلوماسية والإعلامية لتعزيز موقفها الإستراتيجي.
فالحفاظ على هذا التوجه القوي والمتعدد الأبعاد سيعزز من استقرار علاقاتها مع الصومال ويسهم في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي في القرن الإفريقي، يختم الكاتب التركي.