الاتفاق النووي مع إيران.. كيف يمكن أن يتحول إلى صفقة كبرى لأميركا؟

العقوبات أفقرت الإيرانيين العاديين دون إحداث تغيير كبير في حسابات النظام
هل يمكن لاتفاق نووي مع إيران أن يتحول من ملف أمني شائك إلى فرصة ذهبية للاقتصاد الأميركي؟
تساؤل يطرحه الباحث الإيراني، هادي كاهل زاده، مؤكدا أن التخلي عن سياسة العقوبات لصالح الانخراط الاقتصادي قد لا يُنقذ الاتفاق فقط، بل قد يدرّ مليارات الدولارات ويوسّع آفاق الصناعة الأميركية في أسواق طال إغلاقها.
وقال في مقال نشرته مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت" الأميركية: إن "اتفاقا نوويا، إذا أُنجز بالشكل الصحيح، يمكن أن يشكّل دفعة قوية نحو فتح أسواق تصدير جديدة، ودعم فرص العمل، وتحقيق عوائد عالية القيمة للصناعة الأميركية".
وفي السياق ذاته، أوضح الكاتب أن جولات التفاوض النووي بين الولايات المتحدة وإيران لا تزال تتسم بالتوتر، في ظل انعدام الثقة بين الطرفين، وسجل من الإخفاقات السابقة، إضافة إلى الضغوط المتزايدة من المعارضين، وهو ما يعرقل تحقيق أي تقدم.
وأضاف أن واشنطن عادت إلى موقفها التقليدي الرافض تماما لتخصيب اليورانيوم، وهو النهج نفسه الذي دفع طهران في عام 2010 إلى رفع نسبة التخصيب من أقل من 5 بالمئة إلى 20 بالمئة.
أما إيران، فهي الأخرى متمسكة بمواقفها، وتردد: "إذا مُنِعنا من التخصيب، فلن يكون هناك اتفاق. وإذا ضمِنّا عدم امتلاك أسلحة نووية، فعندها يمكن التوصل إلى اتفاق".
وفي مواصلة لطرحه، يشير الكاتب إلى أن النزعة السائدة في واشنطن تميل إلى تشديد الضغوط على طهران، وتأكيد جدية التهديدات العسكرية، وحتى دراسة خيارات توجيه ضربات من أجل إجبارها على الرضوخ.
لكنه يرى أن التاريخ يُظهر بوضوح فشل الأساليب القسرية، فالعقوبات لم تنجح في إجبار الآخر على الامتثال، بل تسببت بأضرار ملموسة للمصالح الأميركية.
أما الضربات العسكرية، فهي غير قادرة على إنهاء القدرات النووية الإيرانية، بل قد تدفع طهران إلى اتخاذ قرار تطوير سلاح نووي بالفعل، بحسب الكاتب.

حدود دبلوماسية العقوبات
ولتجاوز هذا الجمود، يدعو إلى تحوّل إستراتيجي من سياسة العقوبات إلى انخراط اقتصادي واقعي، فالحوافز الاقتصادية، من وجهة نظره، ليست مكافآت بل أدوات دبلوماسية ضرورية.
وإذا ما رُبطت هذه الحوافز مباشرة بالتزام نووي مُتحقَّق وموثوق، يمكن لواشنطن أن تعزز فرص التعاون الحقيقي، وأن تدعم أمنها القومي، كما قد تمثل هذه الخطوة فائدة كبرى لاقتصادَي البلدين، بعد عقود من القطيعة.
وقال الباحث: "سعت الإستراتيجية التي تجعل فرض العقوبات أولوية، إلى تحويل الضغط الاقتصادي الخارجي إلى اضطرابات سياسية داخلية، مما يجبر النظام على الاستسلام".
لكنه يرى أنها في الواقع، أدّت إلى إفقار الإيرانيين العاديين دون إحداث تغيير كبير في حسابات النظام. فبدلا من الاستسلام عززت إيران قدراتها النووية وطوّرت شبكة متطورة للتهرب من العقوبات.
وعلى الرغم من المعاناة الاقتصادية الكبيرة، حافظت إيران على معدل نمو اقتصادي سنوي متواضع نسبته 4 بالمئة منذ عام 2020، إلا أن هذا النمو يخفي تحديات اقتصادية أعمق.
فالتضخم المستمر الذي يتراوح بين 30 و40 بالمئة، والعجز في الميزانية بين 20 و25 بالمئة، أجبر الحكومة على اتباع ممارسات مالية غير قابلة للاستمرار، مثل طباعة النقود وفرض ضرائب ثقيلة على القطاع الخاص، مما يزيد من تعقيد حالة الركود التضخمي المستمرة في البلاد.
وعلى الرغم من امتلاكها بعض أكبر احتياطيات الطاقة في العالم، تعاني إيران من تدنٍّ واضح في كفاءة قطاع الطاقة ونقص في الاستثمارات.
وفي غياب أي رد فعل سياسي محلي قوي، تُفضل القيادة الإيرانية "المقاومة" على أن تستسلم دون أي مقابل، مُقدّرةً أنها ستصمد أمام العقوبات طالما لم يعرض عليها صيغة لها فوائد حقيقية.
ولتغيير هذه المعادلة، يجب على الولايات المتحدة -بحسب الكاتب- أن تُقدّم مزايا اقتصادية مستهدفة للنخب والمواطنين الإيرانيين، مما يخلق ضغوطا داخلية من أجل الامتثال والتوافق.
وأوضح أن "هذا لا يعني التخلي عن العقوبات أو مكافأة طهران على سلوكها العدائي، بل يعني ربط المكاسب الاقتصادية إستراتيجيا بالقيود النووية المُوثّقة".
ومن خلال ربط الامتثال الدبلوماسي بوضوح بتحسينات اقتصادية ملموسة، يمكن لواشنطن بناء قواعد شعبية قوية في كلا البلدين تدفع للحفاظ على الاتفاق.

الاقتصاد كمحفز للتغيير
ويشير الكاتب إلى أن عددا متزايدا من النخب الإيرانية بات يرى أن تفعيل الإمكانات الجيواقتصادية للبلاد والتعامل مع التحديات الاقتصادية المتفاقمة يتوقف على الانخراط الاقتصادي الأميركي.
وبينما يواصل المتشددون المرتبطون بالمؤسسة العسكرية رفض أي علاقات اقتصادية مع الولايات المتحدة، أدركت غالبية النخب، ولو على مضض، أن الشراكات مع اقتصادات غير أميركية تظل هشة حتى في ظل اتفاق مشابه للاتفاق النووي السابق، ما لم تكن واشنطن طرفا فيه.
وبحسب الكاتب، فإن المتشددين يدركون أن الانفتاح الاقتصادي الواسع من شأنه أن يُضعف نفوذ التكتلات المرتبطة بالمؤسسة العسكرية ويقوّض مبررات عسكرة الاقتصاد.
في المقابل، يقر المعتدلون بأن إنعاش الاقتصاد الإيراني يتطلب اتفاقا مستقرا يضمن وجود أطراف أميركية مؤثرة لديها مصالح مباشرة في استمرار تخفيف العقوبات.
ولذلك، يؤكد أن تقديم حوافز اقتصادية مدروسة يمكن أن يعمّق الانقسامات داخل النخبة الإيرانية، ويدفع طهران نحو الامتثال.
ويقترح الكاتب اتخاذ خطوة عملية تتمثل في إطلاق حوار اقتصادي موازٍ للمحادثات النووية الفنية، بهدف استكشاف سبل الانفتاح الجزئي على السوق الاستهلاكية الإيرانية الضخمة أمام الشركات الأميركية.
ويُشير إلى أنه حتى دون إلغاء القوانين الأساسية للعقوبات، يمكن للرئيس الأميركي دونالد ترامب، إصدار تراخيص انتقائية تتيح صادرات أميركية سنوية تصل إلى 25 مليار دولار.
كما يمكن تمكين الشركات التابعة المملوكة لأميركيين من الدخول إلى فرص استثمارية غير مستغلة في إيران تُقدَّر بنحو 4 تريليونات دولار بحلول عام 2040.
ويرى الكاتب أن الترخيص بتصدير ما يصل إلى 25 مليار دولار سنويا من السلع الأميركية، لا سيما في قطاعات الطيران والزراعة والسيارات، من شأنه أن يوفّر ويدعم أكثر من 200 ألف فرصة عمل في الولايات المتحدة كل عام.
وإلى جانب هذا الرقم يشير إلى أن إيران تحتاج فورا إلى استيراد ما قيمته نحو 180 مليار دولار من المعدات والآلات لتجديد ما لا يزيد عن 30 بالمئة من بنيتها الصناعية المتقادمة.
هذا فضلا عن حاجتها إلى ما بين 50 و60 مليار دولار لتوسعة وتحديث شبكات نقل وتوزيع الكهرباء، ونحو 60 مليار دولار أخرى لتحديث وتوسيع شبكة السكك الحديدية.
وإذا أُتيح لها ذلك، فإن مصدر هذه الواردات يمكن أن يكون السوق الأميركية بالدرجة الأولى، وفق مقترح الكاتب.

فوائد مباشرة
ويؤكد أن تسهيل هذا النوع من التبادلات يوفّر حوافز طويلة الأمد للطرفين. فاستئناف صفقات طائرات "بوينغ" مثلا قد يُسهم في إنعاش مراكز التصنيع في ولايتي واشنطن وكارولاينا الجنوبية.
وبالمثل، فإن المزارعين الأميركيين، لا سيما في ولايات الوسط الغربي، سيجنون فوائد مباشرة من ارتفاع صادرات المنتجات الزراعية إلى إيران، التي تستورد باستمرار سلعا أساسية بمليارات الدولارات، مثل الذرة وفول الصويا.
وإلى جانب المكاسب التجارية الفورية، يمكن لواشنطن أن تصدر ترخيصا عاما جديدا من الفئة H، يتيح لمدى خمس سنوات لشركات أميركية تملك فروعا خارجية العمل في قطاعات محددة داخل إيران.
فمع امتلاكها أكبر سوق غير مستغل في الشرق الأوسط، يُقدَّر أن إيران، يمكن أن تضيف بين 600 مليار إلى تريليون دولار إلى ناتجها المحلي الإجمالي بحلول عام 2040 في حال رفع العقوبات.
ويتطلب تحقيق هذه الأهداف ضخ ما بين 2.3 إلى 4 تريليونات دولار من رأس المال حتى ذلك الحين، وفق تقدير الكاتب.
ومن خلال السماح بالاستثمارات الأميركية غير المباشرة، دون الحاجة لإلغاء القوانين الأساسية للعقوبات، يُتاح مسار عملي وقابل للتطبيق سياسيا لدمج الاقتصاد الإيراني في شبكة اقتصادية إقليمية أوسع.
ونظرا إلى أن فترة استرداد التكاليف لمعظم المشاريع الإيرانية ذات العائد المرتفع تقل عن خمس سنوات، فإن استمرار الامتثال النووي يمكن أن يبرر تمديد هذه التراخيص أو أن يمهد الطريق لتخفيف أوسع نطاقا في المستقبل.
وأكد الكاتب أنه "بهذا، تحصل الشركات الأميركية على موطئ قدم، مع الحفاظ على أدوات الضغط الفعّالة".
ورأى أنه "يمكن لتوسيع الشراكات الإقليمية مع دول مثل السعودية وعُمان وقطر والإمارات، من خلال مشاريع مشتركة مع الشركات الأميركية، أن يعزز بشكل كبير من المنافع الاقتصادية والسياسية للاتفاق النووي".
وشدّد على أن هذا التعاون الإقليمي لا يدعم فقط الاستقرار في منطقة الخليج، بل يزيد من تكلفة أي خرق إيراني لشروط الاتفاق، مما يمنح واشنطن ورقة ضغط دبلوماسية أقوى بكثير.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن اعتماد آلية متطورة تُعرف بـ "التقدم السريع" (snap-forward)، تسمح بتوسيع الانفتاح الاقتصادي الإيراني تدريجيا، مع كل خطوة جديدة تُثبت فيها طهران التزامها المستمر وتعاونها الفعّال.
وهذا الأسلوب التحفيزي -وفق الكاتب- يشكل نقلة نوعية مقارنة بالعقوبات الانعكاسية المعهودة (snap-back)، إذ يخلق دورة إيجابية من الامتثال والمكافأة، ما يعزز فرص استمرار الاتفاق.