بعد سنوات من النفوذ الصيني.. لماذا عادت أميركا أكبر مستثمر في إفريقيا؟

"الاستثمارات الأميركية تعتمد على نهج ربحي تقوده شركات خاصة"
تعد إفريقيا من أغنى مناطق العالم بالموارد الطبيعية النادرة، ما يجعلها ساحة إستراتيجية للتنافس الدولي، وبينما تتسابق القوى الكبرى على النفوذ الاقتصادي، تبرز الولايات المتحدة والصين في صراع متصاعد على ثروات القارة.
وما لفت الانتباه، أنه في الآونة الأخيرة، وبعد سنوات من الهيمنة الصينية، استعادت الولايات المتحدة موقعها كأكبر مستثمر في إفريقيا.
مع ذلك، يرى موقع "دويتشه فيله" الألماني أن “الأرقام وحدها لا تروي القصة كاملة؛ إذ يتباين النهج الأميركي عن الصيني في التعامل مع القارة السمراء”.
تقلبات حادة
وأشار إلى أنه "منذ عام 2012، كانت الصين تتصدر المشهد باستثمارات متواصلة، بينما شهدت استثمارات الشركات الأميركية تقلبات، وصلت في بعض السنوات إلى سحب رؤوس أموال من إفريقيا أكثر مما ضخت فيها".
واستدرك: "لكن في عام 2023، تغير المشهد؛ إذ استثمرت الشركات الأميركية نحو 8 مليارات دولار في القارة السمراء، أي ما يقارب ضعف ما استثمرته نظيراتها الصينية، وذلك بحسب بيانات الاستثمار الأجنبي المباشر (FDI) في إفريقيا".
وهو ما عده التقرير "عودة الولايات المتحدة إلى الصدارة، فيما يمكن عده تجسيدا عمليا لشعار (أميركا أولا)".
ورغم أن "مبادرة أبحاث الصين وإفريقيا" التابعة لجامعة "جونز هوبكنز" أظهرت أنه في عام 2024 تفوقت الاستثمارات الصينية مرة أخرى إلا أن الموقع الألماني يرى أن "تلك الأرقام ما زالت بحاجة إلى تحليل".
وقال: "الحكومات الوطنية، إلى جانب منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، تحتاج إلى وقت لتحليل الأرقام واستخلاص نتائج دقيقة وصحيحة".
وأردف: "فالأرقام غير المنقحة للاستثمار الأجنبي المباشر قد تكون مضللة، ففي تقرير (UNCTAD) الأخير، ظهرت هولندا كأكبر مستثمر في إفريقيا، رغم أنها تُعد دولة (عبور مالي)؛ حيث تمر الأموال عبرها ضمن شبكات مالية معقدة، بينما يكون مصدرها الحقيقي دول أخرى".
"لذلك، يترقب المحللون حول العالم صدور بيانات جديدة، خاصة في ظل تصاعد التنافس الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، والذي شهد أخيرا عدة استثمارات في إفريقيا قد تكون لها تداعيات بعيدة المدى". وفق التقرير.
وبناء على ما سبق، تساءل الموقع: هل تجاوزت الولايات المتحدة فعليا الصين كأكبر مستثمر في إفريقيا، كما أشارت بعض التقارير الإعلامية أخيرا؟
وأجاب على هذا السؤال مؤسس ومدير "الشبكة الاقتصادية الإقليمية" في العاصمة الكينية نيروبي، جيمس شيكواتي، قائلا: "عند النظر إلى الرسوم البيانية، نلاحظ تقلبات حادة، أشبه بالارتجافات".
وأضاف: "أميركا ترتفع فجأة ثم تنخفض، صعودا وهبوطا، وهذا يعود إلى أن الاستثمارات الأميركية تعتمد على نهج ربحي تقوده شركات خاصة، لا تنفق الأموال بدافع العمل الخيري".
وأضاف شيكواتي في حديثه مع "دويتشه فيله" أن "الاستثمارات الصينية، على النقيض، تقف خلفها حكومة بكين التي تسعى لتحقيق أهداف إستراتيجية طويلة المدى".
وتابع: "كما تختلف فروع الشركات في إفريقيا من حيث توظيف العمالة المحلية، فالشركات الأميركية تعتمد على كوادر مدربة جيدا يمكنها تحويل الاستثمارات إلى أرباح، ما يعود بالنفع على الشباب الأفارقة المؤهلين الباحثين عن فرص عمل".
واستطرد: "أما الجانب الصيني، فيركز على العمالة اليدوية، ويستهدف شرائح أوسع من السكان".
وعن النموذج الأنسب لمصلحة القارة السمراء، قال: "الواقع أن إفريقيا تستفيد من كلا الجانبين".

نفوذ صيني
من جانب آخر، يرى الموقع أنه "رغم امتلاكها ثروة هائلة من المواد الخام الحيوية، لم تستفد إفريقيا حتى الآن بالشكل الكافي من هذه الموارد".
ووفقا له "غالبا ما تُصدر هذه المواد دون معالجة، بينما تتم عمليات التصنيع وتحقيق القيمة المضافة في مناطق أخرى من العالم".
وأشار إلى أنه "في محاولة لتغيير هذا الواقع، طرح الاتحاد الإفريقي قبل نحو عام (إستراتيجية الموارد الخضراء)، التي تنص على فرض رسوم جمركية بنسبة 10 بالمئة على صادرات المواد الخام".
وبحسب التقرير الألماني، فإن "الهدف من هذه الخطوة هو تمكين الدول الإفريقية من الاستفادة من القيمة الحقيقية لثرواتها المعدنية، أو دفع المستثمرين نحو إنشاء مصانع المعالجة داخل القارة نفسها".
في هذا السياق، ذكر الموقع أن إفريقيا تعد مصدرا رئيسا لأغلب الإنتاج العالمي من البلاتين والكوبالت والتنتالوم والمنغنيز.
واستطرد: "ويعد قطاع التعدين من أكثر القطاعات جذبا للاستثمارات الأجنبية المباشرة، إلا أن الشركات الغربية قلصت أنشطتها في الدول التي تشهد اضطرابات سياسية، في حين عززت الصين حضورها عبر استثمارات متواصلة، ما جعلها طرفا لا غنى عنه في العديد من المناطق".
من جهته، قال جيمي مونغوريك، المحامي ومدير منظمة "ريسورس ماترز" في جمهورية الكونغو الديمقراطية، لـ"دويتشه فيله" خلال سبتمبر/ أيلول 2025: إن "التجربة الإفريقية تُظهر أن الصين لا تتردد في الاستثمار حتى في ظل عدم الاستقرار السياسي أو الاقتصادي".
وأضاف: "الصين تستثمر، ولهذا فإن العديد من قطاعات التعدين في إفريقيا، خصوصا في الكونغو الديمقراطية، باتت خاضعة لسيطرة الشركات الصينية إلى حد كبير".
وبحسب تقديرات "مؤسسة بروكينغز الأميركية"، فقد استثمرت الصين عام 2023 نحو ثمانية مليارات دولار في إفريقيا، شملت مشاريع الليثيوم في زيمبابوي ومالي.
ومع ذلك، لفت الموقع إلى أنه "لا يمكن مقارنة هذه الاستثمارات الفردية إلا بشكل محدود مع بيانات تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر التي أصدرتها مبادرة أبحاث الصين وإفريقيا (CARI) والتي تعبر عن صافي حركة رؤوس الأموال للمستثمرين الأجانب".

منظور إستراتيجي
في المقابل، يرى الموقع أن "هناك أدلة متزايدة على أن الولايات المتحدة بدأت تنظر إلى موارد إفريقيا الطبيعية من منظور إستراتيجي، وليس فقط ربحي".
واستشهد على ذلك بالقول: "ففي عام 2019، خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب، تأسست (مؤسسة تمويل التنمية الدولية الأميركية)، وهي هيئة حكومية دمجت بين مجالي الاستثمار الخاص والقروض التنموية".
ووفقا لما ورد على موقع المؤسسة، فإن الهدف من تأسيسها هو تعزيز المصالح الأميركية، وتوسيع القيادة العالمية للولايات المتحدة، ومواجهة النفوذ الصيني في المناطق الإستراتيجية.
وتابع الموقع: "ومع بداية ولايته الثانية عام 2025، أوقف ترامب عددا كبيرا من مشاريع المساعدات التنموية، وقلص بشكل كبير ميزانية الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)".
وأردف: "في الصيف، وخلال لقائه بعدد من رؤساء دول إفريقيا في البيت الأبيض، قال ترامب: (ننتقل من المساعدات إلى التجارة.. إفريقيا تملك إمكانات اقتصادية هائلة، لا مثيل لها في أي مكان آخر. وعلى المدى الطويل، سيكون هذا النهج أكثر فاعلية وجدوى من أي شيء آخر يمكننا القيام به)".
وذكر الموقع أنه "في التصريح ذاته، تعهد ترامب بأن تعامل الولايات المتحدة إفريقيا (بشكل أفضل من الصين أو أي طرف آخر)".
من هذا المنطلق، وبصفته راعيا لاتفاق السلام الذي لا يزال هشا بين الكونغو الديمقراطية ورواندا، أفاد الموقع بأن "ترامب وعد بمنح الاقتصاد الأميركي وصولا تفضيليا إلى الموارد المعدنية الكونغولية".
ووفقا لتقرير نشرته وكالة "رويترز" مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2025، فإن اتفاقا اقتصاديا بات جاهزا بالفعل وقد يُوقع خلال اجتماع يجمع الرؤساء الثلاثة.
ويرى التقرير الألماني أن "هذه التحركات الأميركية في المنطقة تهدف أيضا إلى مواجهة الهيمنة الصينية على المواد الخام".
قواعد جديدة
وقدر الموقع أن "قوة الصين الحالية في مجال المواد الخام الحيوية ترتبط بمبادرة (الحزام والطريق)، وهو مشروع بنية تحتية عالمي يشمل موانئ وطرقات وخطوط سكك حديدية، أسهم في فتح طرق نقل جديدة للموارد في عدة مناطق".
في هذا الصدد، قال الخبير الاقتصادي الكيني جيمس شيكواتي: "ينظر الصينيون إلى إستراتيجيات البنية التحتية بمنظور عابر للحدود، فعندما يبنون خطا للسكك الحديدية في كينيا، لا يكون الهدف ربط نيروبي فقط، بل توسيع الخط ليصل إلى الكونغو أو السودان أو حتى الساحل الغربي لإفريقيا".
وأضاف شيكواتي أن "هذه المبادرة تمثل (قواعد جديدة للعبة) فرضها المستثمرون القادمون من الشرق، وعلى المؤسسات الإفريقية -وكذلك الدول الغربية- أن تتأقلم معها إذا أرادت الاستمرار في لعب دور مؤثر في القارة".
في غضون ذلك، ذكر الموقع أن الرئيس الأميركي السابق جو بادين، نجح في الأسابيع الأخيرة في ولايته في تأمين التمويل لممر (لوبيتو) وهو مشروع يمكن أن ينافس بعض مبادرات (الحزام والطريق).
ويقطع ممر لوبيتو مسافة 1300 كم من ميناء لوبيتو على ساحل المحيط الأطلسي متجها شرقا عبر أنغولا إلى الحدود مع جمهورية الكونغو الديمقراطية، وعلى مسافة قريبة من الحدود الزامبية.
ويشمل المشروع بناء نحو 800 كم من خطوط السكك الحديدية بالإضافة إلى تحديث 500 كم من مسارات السكك الحديدية القائمة وإجراء تحسينات في ميناء لوبيتو.
ويربط الممر بين ثلاث دول إفريقية غنية بالمعادن الحرجة اللازمة لتكنولوجيا الطاقة النظيفة؛ إذ تعد الكونغو الديمقراطية وزامبيا أكبر منتجين للنحاس في إفريقيا.
كما تمتلك أنغولا احتياطيات لعدد من المعادن الحرجة، وكذلك تعد الكونغو الديمقراطية أكبر منتج للكوبالت في العالم (حوالي 50 بالمئة من الإنتاج العالمي).
واختتم الموقع حديثه مشيرا إلى أن "الاتحاد الأوروبي يدعم هذا المشروع أيضا، ففي مطلع نوفمبر 2025، اطلع الرئيس الألماني فرانك فالتر شتاينماير على إمكانات المشروع ميدانيا، برفقة وفد اقتصادي".














