المجتمع المدني في مصر.. كيف أصبح شاهد زور على شرعية مصنوعة؟

داود علي | منذ ٣ أيام

12

طباعة

مشاركة

داخل مشهد سياسي مغلق بإحكام، جرت انتخابات مجلس الشيوخ (الغرفة البرلمانية الثانية) في مصر خلال الفترة ما بين 3 و4 أغسطس/ آب 2025.

وتحولت صناديق الاقتراع إلى مجرد محطة بروتوكولية لتجديد شرعية سلطة تحكم البلاد بقبضة أمنية لا تعرف التراخي منذ صعود رئيس النظام عبد الفتاح السيسي إلى الحكم عقب انقلاب 2013.

فمنذ ذلك العام، انكمش الفضاء العام وتراجعت الحريات السياسية إلى مستويات غير مسبوقة، فيما جرى تفريغ المجتمع المدني من محتواه وتحويله إلى أذرع شكلية تعمل تحت رقابة الدولة وتوجيهها.

وفي ظل هذا المناخ، جاءت مواسم الانتخابات كعروض سياسية معدة سلفا، تحاط بترتيبات أمنية مكثفة وتغلفها دعاية رسمية، بينما تتوارى فرص المنافسة الحقيقية خلف جدران القوانين المقيدة والقيود المفروضة على العمل الأهلي.

أما المنظمات التي يفترض أن تمثل العين المستقلة على نزاهة الاقتراع، إما أخضعت بالكامل لمنظومة السلطة أو أنشئت خصيصا لتضفي مشهدا من الشرعية الزائفة على عمليات انتخابية تفتقر إلى شروط التعددية والمساءلة.

امتداد للسلطة

وفي 7 أغسطس 2025، كشف موقع "المنصة" المحلي، عن حقيقة منظمات المجتمع المدني التي أشرفت على العملية الانتخابية التي شارك فيها 17.1 بالمئة فقط.

وذكر الموقع أنه في المشهد الانتخابي المصري “يوجد كثير من التأييد وقليل من الرقابة”. 

وبرعاية الهيئة الوطنية للانتخابات، منحت 56 منظمة وجمعية تصاريح متابعة انتخابات مجلس الشيوخ، عبر 8 آلاف و825 لجنة فرعية موزعة على أنحاء البلاد، لتكون هذه الكيانات بمثابة "عيون وآذان" المجتمع لضمان الشفافية ورصد الانتهاكات. 

ولكن خلف واجهة هذا الحضور الرقابي، تكمن حقيقة مغايرة؛ إذ تكشف مراجعة قائمة المراقبين المعتمدين أن معظم هذه المنظمات يفتقر إلى الخبرة والاستقلالية اللازمتين لأداء هذا الدور الحاسم. 

فيما كثير منها ليس سوى امتداد لمنظومة السلطة، يعمل تحت غطائها ويضفي شرعية شكلية على العملية الانتخابية.

وباستثناء ست جمعيات فقط، تفتقر بقية الكيانات الخمسين إلى مواقع إلكترونية رسمية أو سجل منشور يوثق نشاطها، كما أن غياب التقارير العلنية وأثر العمل الميداني يثير تساؤلات حول أهليتها. 

وما هو أبعد من ذلك، أن بعضها مجرد كيانات ورقية يقودها شخصيات ذات صلة وثيقة بأجهزة الدولة، بما يجعل وظيفة "المراقبة" أقرب إلى إجراء بروتوكولي يبارك النتائج بدلا من أن يحاسب أو يكشف التجاوزات.

ومن بين الجمعيات التي منحتها الهيئة الوطنية للانتخابات تصاريح متابعة انتخابات مجلس الشيوخ، تبرز أسماء لكيانات لا وجود فعليا لها على الأرض، ورموز تتقلد مناصب رنانة في هياكل وهمية.

ففي محافظة الإسماعيلية، تقف مؤسسة "مصر الوطنية للتنمية وحقوق الإنسان" مثالا لافتا، والتي يترأسها بكر الجليند، الذي يعرف نفسه على صفحته في “فيسبوك” بألقاب من بينها "رئيس قسم العلاقات الدبلوماسية بالنقابة العامة للصحافة والإعلام والمرئيات". 

لكن البحث السريع يكشف زيف هذا الكيان النقابي، إذ أكد نقيب الصحفيين خالد البلشي لموقع "درب المحلي" أنه "كيان وهمي لا علاقة له بالنقابة الشرعية"، وهو ما شدد عليه أيضا نائب رئيس اتحاد عمال مصر، مجدي بدوي، بقوله: "لا توجد نقابة بهذا المسمى تابعة للاتحاد".

أما السجل العملي للمؤسسة في مجال مراقبة الانتخابات يكاد يكون معدوما، ففي انتخابات 2023، اقتصر نشاطها على منشورين على فيسبوك، عبارة عن إعادة مشاركة لمقاطع فيديو من أمام اللجان، التقطها أحد أعضائها، وهو قيادي في حزب "حماة الوطن".

ووصف الانتخابات بأنها جرت في "أجواء ديمقراطية رائعة"، اللافت أن هذه المقاطع أظهرت مكبرات صوت ومنظمين تابعين لحزب "مستقبل وطن"، ما يعكس التداخل الواضح بين دور "المراقب" والانخراط في الدعاية الانتخابية للحزب الحاكم.

ألقاب رنانة

نموذج آخر يتجسد فيما يسمى “التحالف المدني لحقوق الإنسان” و"جمعية العفو المصرية"، وكلاهما يرأسه محمد فواز، الذي يقدم نفسه بألقاب متراصة على فيسبوك: "السفير دكتور"، و"نقيب الحقوقيين بمصر"، و"رئيس الجبهة المصرية لدعم الجيش والشرطة". 

غير أن مراجعة السجلات الرسمية لوزارة الخارجية، بما في ذلك الهيكل الإداري وحركات التعيينات الدبلوماسية المنشورة في الجريدة الرسمية وأرشيف أخبار البعثات، لم تكشف عن أي سجل يثبت أن فواز تدرج في السلك الدبلوماسي أو شغل منصب سفير. 

كما أن لقب "نقيب الحقوقيين بمصر" لا وجود له في أي هيكل نقابي أو حقوقي رسمي، وسجل فواز العام يرتبط أكثر بمبادرات أمنية دعائية. 

ففي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، شارك في زيارة نظمتها وزارة الداخلية إلى سجن برج العرب، رافقتها تغطيات صحفية مشيدة بأوضاع السجن و"المعاملة الإنسانية" للنزلاء. 

وهو ما تم في الوقت الذي وصفت فيه المفوضية المصرية للحقوق والحريات السجن ذاته بأنه “مسرح لانتهاكات جسيمة” بحق السجناء بأوامر من جهاز الأمن الوطني.

هذه الأمثلة كشفت جانبا من المشهد الأوسع، منظومة رقابة انتخابية شكلية، يقودها أشخاص ومنظمات بلا سجل مهني أو مؤسسي حقيقي. 

لكنها تحظى بشرعية رسمية، لتضفي على الانتخابات مظهرا رقابيا، بينما دورها الفعلي أقرب إلى تلميع العملية الانتخابية وتبرير مخرجاتها.

والمفارقة أن غياب الخبرة، الذي كان عام 2014 أحد الأسباب الرئيسة لرفض اللجنة العليا للإشراف على الانتخابات طلبات المراقبة المقدمة من 32 جمعية، وفق تقرير بعثة الاتحاد الأوروبي آنذاك، لم يعد اليوم عقبة أمام القبول. 

بل إن عددا كبيرا من الجمعيات التي صادقت عليها الهيئة الوطنية للانتخابات (التي حلت محل اللجنة العليا عام 2017) لمتابعة انتخابات مجلس الشيوخ الحالية يفتقر بدوره إلى أي سجل رقابي أو خبرة موثقة، ويغلب على نشاطه العمل الخيري المحلي.

فعلى سبيل المثال، جمعية "شباب الجيل للتنمية" تقتصر أنشطتها على تقديم مساعدات في حي الدويقة، دون أي أثر على الإنترنت يوثق مشاركة في مراقبة الانتخابات. 

الأمر ذاته ينطبق على جمعية "شباب المستقبل"، التي تركز جهودها في قرية منشأة غمرين بالمنوفية على أعمال خيرية بحتة، وجمعية "شباب سوهاج" للأعمال الخيرية. 

وكذلك جمعية "منتدى شباب البلينا" لتنمية المجتمع والتدريب، وجمعية "حقوق المرأة والطفل لتنمية المجتمع" بأسيوط، ومؤسسة "مصر للصحة والتنمية المستدامة"، ومؤسسة التعاون الإنمائي.

وكذلك، مؤسسة السندس للأيتام ذوي الاحتياجات الخاصة، ومؤسسة ساعد، والمؤسسة العربية الإفريقية، والمستقلين الدولية.

هذه الكيانات، على اختلاف أنشطتها الخدمية أو الخيرية، لا تملك سجلا عاما يشير إلى خبرة في متابعة العملية الانتخابية أو إعداد كوادر لهذا الغرض.

كيانات بلا أثر

والمفارقة الأبرز أن بعض الجمعيات المقبولة قررت الامتناع عن ممارسة الدور الرقابي رغم حصولها على التصريح.

وأكدت رئيسة مؤسسة "المستقلين"، بسمة فؤاد، لموقع "المنصة" المحلي أن جمعيتها قررت عدم مراقبة الانتخابات هذا العام رغم قبولها رسميا، مبررة ذلك بأن الملف الانتخابي ليس ضمن اهتماماتها.

الأكثر لفتا للنظر أن بعض الجمعيات المسجلة كمراقب لا تترك أي أثر رقمي يمكن تتبعه، مثل مركز عيون للدراسات، ومؤسسة إنسان حول العالم، والجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بالبحر الأحمر، وجمعية جسر، ومؤسسة مركز عيون لدراسات وتنمية حقوق الإنسان والديمقراطية بأسيوط. 

فلا مواقع إلكترونية، ولا صفحات فيسبوك نشطة، ما يجعل من الصعب التحقق من أي نشاط سابق لها في مراقبة الانتخابات.

أما الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان بسوهاج، فتقتصر الإشارات الإعلامية إليها في أرشيف موقع “اليوم السابع” على أخبار قديمة، آخرها عام 2020، بينها هجوم من رئيس الجمعية على قطر، وخبر وحيد عن الاستعداد لمتابعة انتخابات 2015، دون أي متابعة معلنة لأنشطة رقابية لاحقة.

هذا المشهد يعكس تحول مهمة "مراقبة الانتخابات" من دور رقابي مستقل إلى خانة شكلية تملأ بأسماء كيانات لا حضور رقابي لها. 

وذلك في إطار منظومة تحكم فيها السلطة قبضتها على كل تفصيلة من تفاصيل العملية الانتخابية، بما في ذلك من يفترض أن يراقبها.

توثيقات انتقائية 

ومع ذلك، فحتى حين وثق المجلس القومي لحقوق الإنسان استخدام المال السياسي لتوجيه الناخبين في انتخابات مجلس النواب عام 2020، اختارت بعض الجمعيات "المعتمدة" أن تتبنى تعريفا ضيقا للرقابة يتجاهل هذه الخروقات الصارخة. 

المثال الأبرز جاء على لسان ممثل مؤسسة ابن النيل، لدى إدلائه بتقرير للمجلس، الذي برر عدم توثيق شراء الأصوات وقتها بأن "هذا ليس دورنا طالما يتم بعيدا عن اللجان".

كيانات أخرى مثل “مصر السلام” و"المؤسسة الوطنية" اكتفت في تقاريرها بالإشادة المطلقة بجميع الانتخابات السابقة، دون الإشارة إلى أي تجاوزات أو مخالفات. 

أما اتحاد الجمعيات، فذهب أبعد من ذلك، مانحا العملية الانتخابية "صك براءة" عبر منشورات على فيسبوك مليئة بعبارات الثناء.

حتى الجمعيات التي تبدو أكثر تنظيما، مثل “أياد مصرية” التي تمتلك موقعا إلكترونيا وعددا من الإصدارات، لم تخرج عن هذا النمط. 

إذ أعلنت في انتخابات سابقة أن مبادرتها "مدت يدها هذه المرة نحو المشاركة، لا المراقبة فحسب"، لكن مراجعة أرشيفها منذ 2020 تكشف غياب أي ملاحظات سلبية على مجريات الاقتراع.

أما حلف مصر لحقوق الإنسان، فصفحتها على "فيسبوك" خلت من أي تقرير عن الانتخابات الرئاسية 2024، باستثناء منشور عن زيارة لحي الطالبية زعمت خلالها عدم رصد أي مخالفات "تشكل شكا في نزاهة العملية". 

وفي حالة “جمعية حماية”، اقتصر حضورها الانتخابي على منشور واحد يعلن تصويت قياداتها وأعضائها للسيسي، مصحوبا بصورهم داخل اللجان.

الوضع لا يختلف كثيرا مع ما يسمى “المجلس العربي لدعم المحاكمة العادلة”، الذي لا وجود له على الإنترنت سوى مجموعة فيسبوك تضم 16 عضوا وصفحة غير نشطة منذ 2014. 

المنشور الانتخابي الوحيد هو فيديو لرئيسه عبد الجواد أحمد، يتحدث فيه عن الوضع الميداني بسلسلة من الإشادات بالإعلام والرئيس والهيئة العليا والمواطنين والتجربة الديمقراطية.

المفارقة “أحمد”، الذي يشارك بانتظام في مراقبة الانتخابات بما فيها الانتخابات الحالية، هو أيضا عضو باللجنة الفرعية لمشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد. 

وأحد أبرز المدافعين عن إقراره، رغم أن مؤسسات حقوقية ونقابات مهنية وصفته بـ"المعيب" والمقيّد لحقوق المتقاضين.

وهكذا تتحول الرقابة الانتخابية في مصر، في يد كثير من هذه الكيانات، من أداة لضمان النزاهة إلى وسيلة لتبرير وتبييض التجاوزات، في مشهد يدمج بين الولاء السياسي والمصالح الشخصية، ويترك العملية الانتخابية بلا رقيب حقيقي.

قمع ممنهج

ومنذ صعود السيسي إلى السلطة عبر انقلاب، دخل المجتمع المدني المصري مرحلة غير مسبوقة من الحصار والقمع المنهجي، في مسار تصاعدي أفضى إلى إفراغ الفضاء العام من أي صوت مستقل.

وفي تقرير نشرته صحيفة “لوموند” الفرنسية في 31 مايو/أيار 2017، وصف القانون الذي أقره السيسي لتنظيم عمل الجمعيات الأهلية بأنه أداة صريحة لـ"تكميم أفواه" منظمات المجتمع المدني وإسكات كل من ينتقد سياسات النظام أو يفضح انتهاكاته.

التقرير أشار إلى أن هذا القانون الذي دخل حيز التنفيذ في 29 مايو 2017، يضع قيودا غير مسبوقة على عمل المنظمات غير الحكومية، بما في ذلك جمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان والمؤسسات الخيرية، حتى غير السياسية منها. 

وينص القانون على منع أعضاء هذه المنظمات من التطرق لقضايا التنمية أو المطالب الاجتماعية، ويهددهم بعقوبات تصل إلى السجن خمس سنوات، كما يفرض الحصول على إذن مسبق قبل إجراء أي تحقيق استقصائي أو استطلاع للرأي، ويحظر التعاون مع هيئات دولية إلا بإذن رسمي.

الأمر لم يقف عند هذا الحد، إذ وضع القانون المنظمات الأجنبية تحت رقابة هيئة مكوّنة من ممثلين عن الجيش والمخابرات ووزارة الداخلية، في خطوة عدها حقوقيون بمثابة "إعلان حرب على أي نشاط مستقل". 

وشدد مدير مركز “القاهرة لدراسات حقوق الإنسان”، محمد زارع، على أن القانون تنظيم المجتمع المدني في هو "أسوأ قانون في التاريخ". 

وأكد زارع لموقع "ميدل إيست آي البريطاني" في 17 فبراير/ شباط 2025، أن "وتيرة المضايقات ضد النشطاء تصاعدت إلى درجة قد تفضي إلى سجنهم جميعا، بما يعني اضمحلال مجتمع مدني ناضل على مدى ثلاثة عقود".

ولفت إلى أن البرلمان بات يضع على رأس جدول أعماله مشاريع القوانين التي تشدد الإشراف على الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، وسط حملة قمع.

وأوضح زارع أن هذه الحملة شملت حجب 21 موقعا إلكترونيا، من بينها "مدى مصر" و"دايلي نيوز إيجيبت" و"بورصة نيوز"، فضلا عن سجن 72 صحفيا، وفق الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان.

كما استهدفت السلطات، وفق منظمة العفو الدولية، موجة اعتقالات جديدة نالت 36 ناشطا على الأقل، بينهم 26 ما زالوا محتجزين بذريعة مكافحة الإرهاب أو بتهمة "إهانة الرئيس" عبر الإنترنت.

وأورد أن هذا القمع الممنهج "مؤشر جديد على رغبة السلطات المصرية في سحق المعارضة السلمية وقتل أي رؤية بديلة". 

وأشار زارع إلى أن “هذه التدابير تستهدف إزاحة أي منافس محتمل للسيسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة”. 

وبهذا النهج، تتضح ملامح إستراتيجية السيسي تجاه المجتمع المدني، إحكام السيطرة القانونية والأمنية على كل أشكال التنظيم المستقل، وتحويل القوانين إلى أدوات تجريم، لإغلاق المجال العام وإسكات كل صوت يمكن أن يعبر عن معارضة أو يقدم بديلا.