معضلة ترسيم حدود تركيا البحرية.. مصر وفلسطين مقابل إسرائيل 

قسم البحوث | 3 years ago

12

طباعة

مشاركة

المقدمة

أولا: الدوافع الإسرائيلية

أ. تنامي القوة التركية وتداعياتها

ب. التوافق السياسي الاستخباراتي في "إسرائيل" حيال تركيا

ج. المجلس القومي للدول التركية وتأثيراته

د. احتمالات التقارب التركي - المصري

ثانيا: الموقف التركي ودوافعه

أ. تداعيات فوز بايدن

ب. تجنب الصدام مع مصر

ج. تمكين السلطة الفلسطينية

الخاتمة


المقدمة

في ضوء معطيات كثيرة، تحرك جهاز الاستخبارات "الإسرائيلي" (الموساد) لدفع أذربيجان نحو وساطة مع تركيا، حاولت فيها تل أبيب استغلال جهود أنقرة المحمومة في التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، ومن ثم دفعها باتجاه ترسيم الحدود معها.

وبالفعل حملت أذربيجان الرسالة مشفوعة بخريطة تمر فيها الحدود المقترحة من "تل أبيب" بجنوب غرب قبرص الغربية، وتحيل إلى "إسرائيل" قطاعا يتجاوز 55 بالمئة من الثروة التي حازتها قبرص عقب اتفاقية ترسيم حدودها البحرية مع تل أبيب، فيما تحصل تركيا على نحو 40 بالمئة من هذه الثروة.

لكن الأهم أن هذه الخطوة كان من شأنها أن تؤدي إلى انهيار اتفاقيتي الاختصاص المتعلقتين بتعيين الحدود البحرية المصرية مع كل من قبرص ثم اليونان بحسب مراقبين.

وفي منتصف ديسمبر /كانون أول 2020، خرجت هذه الدعوة من أروقة الاستخبارات إلى دائرة العلن، وذلك عندما نشرت دورية "تركيا سكوب"، التابعة لـ"مركز موشيه ديان لدراسات الشرق الأوسط وإفريقيا" في جامعة "تل أبيب"، ورقة بحثية دعت كلا من "تل أبيب" وأنقرة للتفاوض على اتفاق منفصل لخط ترسيم الحدود البحرية بينهما.

وهو الأمر الذي كان يعني عمليا استبعاد قبرص من مشروع الغاز بصورة كبيرة، ومنح "إسرائيل" فرصة لتحقيق السيادة الكاملة على موارد حقل "أفروديت". ونشرت صحف عربية محسوبة على المحور الإماراتي أن العرض في حقيقته عرض تركي، وأنه كان قيد البحث مع تشكيل الحكومة الجديدة في "تل أبيب".

وكان من شأن موافقة تركيا - التي لم تتم - على هكذا اتفاق أن تستعيد "إسرائيل" مساحة تبلغ نحو 4600 كيلومترا فقدتها في اتفاقية ترسيم الحدود مع قبرص، ويزيد عليها نحو 12 ألف كيلومترا إضافيا؛ فيما ستحصل تركيا على نحو 10 آلاف كيلومتر من حقول الغاز مزودة بخرائط تفصيلية دون عناء البحث السيزمي وجهود المسح الجيولوجي.

المقترح المشار إليه جاء في إطار تغيير شهده رأس جهاز "الموساد"، حيث يتجه رئيسه السابق يوسي كوهين لمباشرة دور معلن وسياسي في الحياة العامة؛ فيما تتبوأ شخصية جديدة رأس الجهاز الاستخبارات وهو ديفيد بارنيع، والذي لديه رؤية تنطلق من ضرورة تعميق علاقات "تل أبيب" بأنقرة، وهي رؤية تقف وراءها عدة اعتبارات أمنية واستخباراتية وحتى اقتصادية سيأتي ذكرها في حينه.

فما هي الأهداف التي توختها "تل أبيب" جراء هكذا مقترح؟ وما هي ردود الفعل التركية حياله؟ وما الركائز التي استند إليها القرار التركي؟


أولا: الدوافع الإسرائيلية

لا يمكن بطبيعة الحال أن نقيم هذا المقترح بمعايير اليوم، فهو وليد ظرفه. وخلال الفترة التي قدمت فيها "تل أبيب" هذا الاقتراح إلى انقرة، كانت مصر آنذاك تقف في مربع معادٍ لأنقرة، وتصطف في إطار المحور الفرنسي اليوناني؛ لمواجهتها والحد من مساعي تمدد نفوذها الإقليمي، وبخاصة على المسرح الليبي، وهو الاعتبار الأهم بالنسبة للقاهرة.

 وفي المقابل، كانت تركيا قد وقعت مع حكومة الوفاق الوطني الليبية (السابقة) المعترف بها دوليا برئاسة فايز السراج اتفاق تخصيص لتعيين الحدود البحرية بين الدولتين، وهو الاتفاق الذي شاركت مصر في رفضه بالرغم من أنه منحها امتيازا بحريا بلغ مداه نحو 11 ألف كيلومتر مربع، هذا علاوة على المواقف الرئاسية السلبية المتبادلة بين الطرفين التركي والمصري.

في هذا الإطار، لم تكن "تل أبيب" قد تورطت - كما القاهرة - في علاقة تحد جيوسياسي قوية مع الدولة التركية، حيث حرصت تل أبيب منذ البداية على ترك مسافة واضحة بينها وبين مسار هذا التحالف، بعكس ما نراه في المشهد الإستراتيجي في شرق المتوسط اليوم، والذي يمكن فيه القول بأن "تل أبيب" تحاول أن تحل محل القاهرة في ترتيبات أمنية تجمعها بكل من اليونان وقبرص، وهي الترتيبات التي تمثل امتدادا لمحاولات عزل القاهرة عن خطة استغلال غاز شرق المتوسط، والتي كانت تركيا العامل الوحيد الذي أوقف تداعياتها المتمثلة في خط غاز "إيست ميد" الذي دشنه الثلاثي "الإسرائيلي" - اليوناني - القبرصي.

وهذا الخط الذي تجاهل مصر، كان من المفترض أن ينقل الغاز من شرق المتوسط إلى شماله. وفي إطار تلك المسافة التي حرصت "تل أبيب" على تركها، فإن محاولاتها التسلل لقطاع الغاز الليبي لم تكن تحت الراية الفرنسية التي كانت تقارع الراية التركية في ليبيا؛ برغم كفاءة العلاقات الفرنسية - "الإسرائيلية".

بل كان التسلل في خضم التوافق مع الدب الروسي الذي كان آنذاك يلعب دورا بارزا في المشهد الروسي، وهو الاتفاق الذي بدأ في سوريا، وما زال مستمرا حتى اليوم؛ فيما تبدو تداعياته على العلاقات الروسية - الإيرانية بادية للعيان.

وفي هذا الإطار، يمكن توضيح دوافع "تل أبيب" تجاه هذا المقترح فيما يلي:

أ. تنامي القوة التركية وتداعياتها

من جهة اقتصادية، فإن تمدد النفوذ التركي في شرق المتوسط، والذي قاد إلى تعويق مشروع نقل الغاز المكتشف في شرق المتوسط إلى جنوب أوروبا، ومنه إلى بقية الدول الأوروبية، أدى لمراجعة تل أبيب علاقتها بشريكيها في ثالوث غاز شرق المتوسط، اليونان وقبرص، ودفعهما للبحث عن وسيلة للاستفادة من هذه الثروة التي تقدر بما بين 3.6 تريليون و6 تريليونات قدم مكعب من الغاز الطبيعي المعطلة بسبب الموقف الجيوسياسي التركي.

وكان هدف تحرك تل أبيب في هذه المساحة من جهة زيادة منسوب الثروة التي ستتاح لها كمسار أول؛ وذلك بما سيؤول إليها من الغاز القبرصي جراء ترسيم الحدود البحرية الجديدة مع تركيا. 

وهنا تجدر الإشارة إلى أن سر انقلاب تل أبيب على الحقوق القبرصية في حقول الغاز بشرق المتوسط كان يتمثل في أن التوقيع على اتفاق ترسيم الحدود بينها وبين قبرص قد جرى في 2010؛ قبل الاكتشاف الكامل لاحتياطيات الحقل التي تبين لاحقا أن الكيان يمتلك حوالي 10٪ منها، تزيد قيمتها البيعية عن 1.5 مليار دولار، في حقل "يشاي"، وهو ما كان يدفع "تل أبيب" لإعادة التفاوض، أو للبحث عن طرق أخرى لتعويض ما فقدته.

وبجانب ما سبق، فإن التوافق الذي يمكن أن يتولد عن هكذا ترسيم بين تركيا و"إسرائيل"؛ يتضمن سماح أنقرة بتنفيذ مشروع أنبوب "إيست ميد"، ما يمثل صفقة رابحة مزدوجة بالنسبة لتل أبيب.

وكان وزير الخارجية الإيطالي "لويجي دي مايو"، صرح بقوله: "عندما نضع تكلفة إقامة هذا المشروع وتنفيذه في الاعتبار، نجد أنه من الواضح أن هذا المشروع الذي اقترحت اليونان تنفيذه لن يكون خيارًا جيدًا على المدى المتوسط والطويل عند مقارنته بالمشروعات الأخرى".

وعلل "دي ماريو" الارتفاع المهول في التكلفة باستبعاد تركيا من المشاركة في تنفيذه، ما يزيد من طول مدة التنفيذ ويرفع تكلفته.

وتشير دراسات بهذا الملف إلى أن نصيب "إسرائيل" من صفقة كهذه سيرتفع من نحو 10 بالمئة من إجمالي الثروة في المناطق الحدودية إلى حوالي 60 بالمئة في مقابل 40 بالمئة تذهب للجانب التركي، وستكون موجهة بصورة أساسية للاستهلاك الداخلي، ليكفي تركيا مؤونة شراء 80 بالمئة من احتياجاتها الطاقية من روسيا وإيران.

ب. التوافق السياسي الاستخباراتي في "إسرائيل" حيال تركيا

يبدو أنه كان هناك ثمة توافق بين بنيامين نتنياهو وبين وزير "الموساد" الجديد "داود برنيع" على تصور قديم مفاده ضرورة الانفتاح "الإسرائيلي" على تركيا، وأن التحالف الإستراتيجي بين أنقرة و"تل أبيب" في الشرق الأوسط الذي عززه هدفهما الحد من النفوذ الإيراني ومنع دول عربية أخرى من الاصطفاف ضدهما، سيحمي العلاقات بين أنقرة وتل أبيب من "الصدمات الخارجية". 

كما سبق لـ"مركز ستراتفور" في تقييم نشره مطلع أكتوبر/تشرين الأول 2018، أن أكد على الجهود الأميركية المكثفة لإيجاد حلفاء إقليميين يمكنها الاعتماد عليهم في احتواء إيران، وهو ما من شأنه أن يبقي البلدين متقاربين. 

واقترن بهذا الطرح توصية بأن تسعى "تل أبيب" إلى غلق الطرق المفضية إلى أي تقارب تركي - إيراني محتمل، وبخاصة فيما يتعلق بتداعيات هذا التقارب على ما تعتبره تل أبيب أمنا داخليا يتعلق بالقدس وغيرها من قضايا فلسطين المحتلة.

ويبدو أن هذا التوجه مطروح من جانب إدارة الرئيس الأميركي "جو "بايدن" نفسها، لأن السعودية شاركت تل أبيب في هذا التوجه؛ فيما عرف قريبا بـ"المصالحة التركية السعودية" المحتملة التي تواجه طريقا مسدودا اليوم وإلى أجل غير مسمى.

وكان العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز قد طلب من تركيا دعما غير مباشر في حرب اليمن، وهو ما أمل من جرائه أن يعقِّد حسابات أنقرة في التواصل مع إيران، وهو المشروع الذي رفضه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وقاومه مقاومة قوية وصلت حد المشاركة في تدريبات عسكرية مع اليونان بالقرب من الحدود التركية.

تجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن العلاقات التركية الفلسطينية كانت تشهد تطورات إيجابية متسارعة سواء مع السلطة الفلسطينية أو حركة المقاومة الإسلامية حماس.

ارتبط بهذا التطور الإيجابي موقف "تل أبيب" المتوجس من القوة التركية المؤهلة عمليا مقارنة بالأردن، أو حتى بالسعودية من أن تكون مرجعا فيما يتعلق بمستقبل المدينة المقدسة، وبخاصة مع تاكيد مسؤولين اتراك رفيعي المستوى باستمر ر على دعم القضية الفلسطينية.

وبالنظر لموقف طهران المبدئي من هذه القضية، وحالة العداء بينها وبين تل أبيب، والذي يستهدف النفوذ والسلاح الإيرانيين، كان من الطبيعي أن يذهب العقل الإستراتيجي "الإسرائيلي" - على نحو ما رأينا - إلى ضرورة منع اتفاق المرجعيتين السنية (تركيا) والشيعية (إيران) على نهج واحد فيما يتعلق بقضايا فلسطين المحتلة؛ وبخاصة قضية المقدسات.

ج. المجلس القومي للدول التركية وتأثيراته

ويرتبط هذا التوجه بما يمثله المجلس القومي التركي الآخذ في التبلور من عمق إستراتيجي لتركيا، قد يمنحها قوة أكبر، ومزيدا من القدرة على بلورة المرجعية السنية للعالم الإسلامي حولها، وهو ما بدأ مقلقا مع الاستقبالات الأسطورية التي كان الرئيس التركي رجب طيب "إردوغان" يلقاها خلال زياراته للعواصم الإسلامية الكبرى مثل باكستان وأذربيجان وماليزيا.

الحديث عن تركيا كمرجعية في هذا الإطار يرتبط بالاعتبارات المختلفة التي جعلتها تتصدر المشهد العسكري للعالم الإسلامي بسبب تطورات قاعدتيها التقنية والاقتصادية من جهة، وتقدم مستوى صناعاتها الدفاعية من جهة ثانية.

وأيضا بسبب قدراتها العسكرية النشطة والتي تجاوزت اختبارات متعددة في مراكز مناخية وطبوغرافية مختلفة، من بينها تحرير طرابلس ثم "قره باغ"، وكذا مقارعتها للدب الروسي في الشمال السوري، وأخيرا مواجهة موسكو في جنوب وشرق أوكرانيا. 

وفي هذا الإطار من المقومات القيادية، لن تكون اللغة العربية حائلا أمام تبلور هذه المرجعية لصالح تركيا، وذلك لعاملين؛ أولهما الاعتبار التاريخي المتعلق بالدولة العثمانية، وثانيهما يتعلق بالمعيار العددي الذي تقلصت فيه نسبة العرب لعموم المسلمين إلى نحو 25 بالمئة، وهو ما دفع مراقبين عالميين للتساؤل عن مصير "منظمة التعاون الإسلامي" مستقبليا مع تطور التحرك التركي في هذا الصدد.

ويشير مراقبون إلى أن "تل أبيب" تحسب الرئيس الفلسطيني محمود عباس اليوم على الجانب التركي، وترى أنه لا يجد مانعا على الإطلاق في أن يسلم النفوذ في المدينة المقدسة إلى تركيا.

وفي هذا الإطار، تجدر الإشارة إلى أن المرجعية التركية فيما يتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة لا تقتصر فقط على تمثيل تركيا لأهل السنة والجماعة، الغالبة على تكوين المسلمين عبر العالم (ما بين 85 - 90 بالمئة من المسلمين يشترعون المذهب السني من الديانة الإسلامية)، حيث تجاوز الأمر تمثيل المسلمين إلى تمثيل يهود تركيا كذلك. 

وفي إطار تمثيل يهود تركيا، نشرت الصحيفة الأسبوعية "سالوم" المعبرة عن يهود تركيا ما يفيد بأن اليهود الأتراك يطالبون "إردوغان" والدولة التركية باستعادة بعض الأماكن اليهودية في المدينة المقدسة؛ والإشراف عليها، ويشيرون لدور متواصل لأنقرة مع الدور العثماني الذي أسهم تاريخيا في تأمين هذه الأماكن.

د. احتمالات التقارب التركي - المصري

الرغبة في منع الاصطفاف التركي - الإيراني تنسحب أيضا على احتمالات حدوث تقارب مع مصر، وإن من زاوية أخرى تستدعيها ظروف شرق المتوسط. ويسود إدراك في "تل أبيب" أن أية مراجعة إستراتيجية في البلدين لمسار علاقاتهما وتداعيات هذا المسار؛ من شأنها أن تفضي إلى حدوث تقارب بدرجة أو بأخرى، وهو ما بدأ في أبريل/ نيسان، قبل أن تتجه العلاقات نحو التراجع لاحقا بفعل ضغوط الثالوث الإماراتي - السعودي - الإسرائيلي.

كانت مساعي التقارب المصري - التركي ترتبط بتحفظ مصر حيال الانجرار لمواجهة فعلية مع تركيا في شرق المتوسط أو حتى في ليبيا بالرغم من اتباع سياسة الحافة مع تركيا، هذا علاوة على تأثير السياسة التركية التي أدت إلى ميل لدى مؤسسات الدولة المصرية لتفضيل بناء علاقات إيجابية مع "أنقرة" مقارنة بـ"أثينا" وحتى "تل أبيب".

من جهة أخرى، هناك تحفظ مبدئي تركي عن بلوغ حالة المصادمة مع أي دولة مسلمة لا تنخرط في صراع مباشر معها. ومن شأن هذه الروح أن تفضي إلى تقارب في المستقبل. 

وقد ينتج هكذا تقارب اجتماع أهم قوتين في شرق المتوسط على بناء موقف موحد تجاه "إسرائيل" وعلاقتها بفلسطين المحتلة، وكان هذا ما يفكر فيه الرئيس التركي بشكل خاص وهو يرد على المقترح.


ثانيا: الموقف التركي ودوافعه

موجز القول في الإشارة للموقف التركي أن أنقرة رفضت المقترح المقدم إليها من "تل أبيب"، وإن كان الهدف لا يتعلق بموقف مبدئي من تل أبيب، بل يرجع لتقدير تركيا للموقف في شرق المتوسط. ويتحرك الموقف التركي وفق عدة دوافع، يمكن إيجاز أبرزها فيما يلي:

أ. تداعيات فوز "بايدن"

مع تأكد فوز "بايدن"، أعلن "إردوغان" أن بلاده ترغب في علاقات أفضل مع "إسرائيل"، وكشف أن محادثات على المستوى الاستخباراتي مستمرة في الوقت الراهن في هذا الصدد.

في المقابل، نشرت دوائر سيادية وطيدة الصلة بـ"تل أبيب" تسريبات صحفية مكثفة منسوبة لمسؤولين "إسرائيليين" رفيعي المستوى مفادها أن البلدين على وشك تجاوز الخلافات لحد إعادة تبادل السفراء.

ويرجع تقدير الموقف التركي لطبيعة اختلاف "بايدن" عن سلفه "دونالد ترامب"، وضعف قدرة تركيا على المناورة أمام حساسية موقف الولايات المتحدة حيال صفقة شراء تركيا لمنظومات صواريخ "إس 400" الروسية.

يعني هذا أن نجاح "بايدن" في تجسير الفجوة التي دشنها "ترامب" مع الاتحاد الأوروبي قد يعني كذلك إمكانية نجاحه أيضا بتشديد العقوبات من حلف شمال الأطلسي "الناتو" وبروكسل على تركيا.

 هذا فضلا عن حاجة تركيا لتجنب تزايد مستوى التقارب بين إدارة "بايدن" والأكراد في سوريا، وهو ما من شأنه أن يربك حساباتها في الشمال السوري، ويضاف لهذا كذلك، ورقة رئيس جماعة الخدمة "فتح الله غولن" (مقيم في أميركا ومتهم بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا 2016) وامتداداتها في الداخل التركي؛ وأثر توظيفها المحتمل على الاستقرار السياسي في أنقرة.

هذه الاعتبارات دفعت "إردوغان" - على نحو براغماتي محض - للاتجاه نحو تجميل الجبهة الهادئة مع "تل أبيب". وواضح من هذه الاعتبارات أن وجهته لا ترتبط بأي شكل من الأشكال بقراره الرافض لترسيم الحدود البحرية مع تل أبيب. وهو ما يفتح الباب للتساؤل عن بقية الاعتبارات التي دفعته لهذا الرفض.

ب. تجنب الصدام مع مصر: 

حسابات "إردوغان" في إصراره على التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط لا تقتصر على الاقتصاد فقط، بل ينظر في إطارها بعين الاعتبار المصالح الإستراتيجية كذلك. 

وفي هذا الإطار، وبرغم درجة الاستعداد العسكري الرفيعة في تركيا، إلا أنها ترغب في تهدئة الصراع في شرق المتوسط، وكبح إمكانية بلوغه حد المواجهة الشاملة. وإلى جانب رغبته في عدم استنزاف قوى العالم الإسلامي في مواجهات غير مجدية؛ ما أدى لتجنب مشترك للصدام العسكري بين تركيا ومصر، يفضل "إردوغان" أن يكون الصدام محكوما باعتبارات رشيدة، وهو ما يدفعه لتجنب استفزاز الطرف المصري، وبخاصة مع وجود توجه عسكري بالاستعداد للمشاركة في مواجهة واسعة متى ضمنت مصر توفر تكلفة المواجهة. 

وفي هذا الإطار، بدأت الإدارة التركية في التفكير جديا في دفع التوتر مع مصر إلى أدنى مستوياته، وبذل الجهود الكفيلة بإحراج الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أمام مؤسسات الدولة المصرية في هذا الصدد، ما يعني وأد احتمال المشاركة المصرية في جهود شحن الأجواء الصراعية في شرق المتوسط. 

وفي هذا الإطار، كان من الضروري تجنب استفزاز مصر عبر الموافقة على هكذا اتفاق، خاصة وأنه يمس مصالح القاهرة في شرق خط 26 طول، والتي كادت أن تتسبب بانهيار العلاقات السعودية المصرية بعد البروتوكول العسكري الذي وقعته الرياض مع اليونان كإطار للتدريبات المشتركة التي جرت بينهما في مارس /آذار 2021.

 وبقليل من التأمل في الخريطة المتاحة عن المقترح الذي تقدمت به "تل أبيب"، نجد أن الخط الجنوبي للتصور الحدودي المقترح يتقاطع بصورة واضحة مع تلك المنطقة التي طرحتها وزارة البترول المصرية للتنقيب في مناقصة علنية، وهي التي تجنبت فيها الوزارة توسيع نطاق التنقيب تجنبا للمساس بالمنطقة محل الخلاف بين تركيا واليونان، وأدى خطاب المؤسسات التركية فيها إلى إشاعة جو من التفاؤل بتقارب مصري - تركي وشيك.

فالمعادلة كما يراها الجانب التركي في هذا الإطار: كيف يكون مكسبا أن تحظى تركيا بمساحة تبلغ 10 آلاف كيلومترا مربعا من حقول الغاز إن كانت ستنفقها على مواجهة عسكرية ستستنزف طاقة أكبر دولتين مسلمتين في شرق المتوسط؟ وهذا الأمر يجعل الهدف الإستراتيجي التركي متمثلا في البدء بترسيم الحدود مع مصر. هذا المسار ينبغي أن يسبقه مسار آخر، هو ما سنتحدث عنه في البند التالي.

وترى مصر في هذا التوجه إمكانية جديدة لمعاودة استرداد حصتها التي فقدتها في مفاوضات "كسب الشرعية"، والتي اضطرت فيها للتضحية بحقوقها في قطاع من ثروة غاز شرق المتوسط، كما ترى في هذا التقارب فرصة كذلك لإعادة طرح فكرة مركز تسييل الغاز، والذي سبق لاتفاقية "إيست ميد" أن أخرجتها منه. 

ولا بد أن نشير هنا إلى أن هذه المساحة يشرف عليها محمود حجازي صهر السيسي، وابنه حسن السيسي، ومن ثم؛ فإن التوجه لاسترداد هذه الإمكانية يحظى بدعم جزئي من المؤسسة العسكرية التي فقدت من قبل حصة كبيرة من ملف الطاقة وتوزيعها الداخلي لصالح الراعي الإماراتي. 

هذا علاوة على رغبة القوات المسلحة تجنب خوض صراع بالوكالة قد يؤدي لتداعيات سلبية واسعة سياسيا وعسكريا.

ج. تمكين السلطة الفلسطينية

ومن جهة أخرى، فإن تركيا، تحمل تصورا لتمكين السلطة الفلسطينية، وتعزيز المصالحة الداخلية والتمكين لنفسها باعتبارها القوة الإقليمية التي تمكنت من فرض أحد أسس تعزيز الاستقلال المالي الفلسطيني، وبناء خطاب التفاوض في هذا الإطار على أساس العودة للمبادرة العربية التي دشنها العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز. 

وفي قراءة مراقبين محسوبين على الخطاب التركي في هذا الملف، فإن الإدارة التركية تسعى لتعزيز مسار ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسلطة الفلسطينية، مع ما يصب في مربع تعزيز الاعتراف الدولي بالأخيرة

وفي نفس الإطار، وعلى الجانب المصري، يتحدث مسؤولون فلسطينيون اقتصاديون عن أن المشاورات مع الجانب المصري في الوقت الراهن لم تأخذ بعد طابع الجدية، وأنه لا يمكن القول بأن هناك إرادة سياسية قوية من القاهرة لتوقيع مثل هذا الاتفاق. 

وبعيدا عن قراءة المراقبين القريبين من الجانب التركي، فإن الرواية المصرية في هذا الإطار ترى أن هناك اتصالات متقدمة بين الجانبين التركي والفلسطيني فيما يتعلق بملف الحدود البحرية.

 وأن هذه المفاوضات تدور حول إمكانية التوصل لاتفاقية خاصة بترسيم حدود المياه الاقتصادية مع السلطة الفلسطينية، على غرار تلك الموقعة بين تركيا وحكومة الوفاق الوطني في ليبيا، بخلاف إمكانية ضخ استثمارات تركية في حقل "غزة مارين" الذي اكتُشف في أواخر التسعينيات، ويقع كلياً ضمن المياه الإقليمية الفلسطينية قبالة مدينة غزة، فيما الحقل الفلسطيني الثاني "مارين 2" يقع ضمن المنطقة الحدودية البحرية بين قطاع غزة والمناطق الفلسطينية المحتلة.

 وظل الحقلان من دون تطوير أو استغلال حتى اليوم. وقد حددت الشركة البريطانية الكمية الموجودة من الغاز في بحر غزة بحوالي 1.4 تريليون قدم مكعب، أي ما يكفي القطاع والضفة الغربية لمدة 15 عاماً، حسب معدلات الاستهلاك الحالية.

الرواية المصرية حول التنافس مع تركيا تواجه إشكالا يجعل قبولها موضع مراجعة، إلا في حالة واحدة. فالدولة التركية التي تسعى لاستغلال حقول الغاز الفلسطينية متاح أمامها أن تستغل في البحر المتوسط مساحة تفوق 27 ضعف مساحة قطاع غزة نفسه؛ فضلا عن مساحة حدوده البحرية (تبلغ مساحة القطاع 360 كم مربعا؛ في حين أن المنطقة التي كان متوقعا حصول تركيا عليها عند ترسيم الحدود مع "إسرائيل" تبلغ 10 آلاف كم مربعا).

والأهم في هذا الإطار أن هذه المساحة ناتجة عن اتفاق مع "تل أبيب" التي تمتلك القدرة على تمرير هذا الاتفاق أمام الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وهو ما يعني أنه اتفاق لن يتأتى بتكلفة دبلوماسية مرتفعة. 

ومن جهة أخرى، فإن الدافع وراء عدم انسياق تركيا وراء الأماني "الإسرائيلية" جراء اتفاق ترسيم الحدود المقترح هو الرغبة في تدعيم العلاقات مع مصر.

غير أن ثمة معلومات تشير إلى أن الموقف المصري أقدم من الاتصالات التركية - الفلسطينية المشار إليها، حيث إنه قد سبق للسلطة الوطنية الفلسطينية أن اضطرت إلى إيداع الملف بشأن حدودها البحرية في الأمم المتحدة في أكتوبر /تشرين الأول من عام 2019؛ وذلك لضمان حقوقها المائية في ظل الاعتداءات "الإسرائيلية" عليها، ومع مسارعة دول شرق المتوسط إلى إبرام اتفاقيات لترسيم حدودها بعد اكتشاف حقول ضخمة للغاز الطبيعي فيه". 

وبرغم محاولة وزارة الخارجية الفلسطينية - قبل سنوات - التوصل إلى اتفاق مع نظيرتها المصرية حول ترسيم حدودهما البحرية، إلا أن مشاعيها جوبهت بمماطلة القاهرة لأعوام عدة في هذا الشأن، فقد تقدمت مصر - في نوفمبر /تشرين الثاني من نفس العام اعتراضاً رسميا، وصفه مسؤولون فلسطينيون بالقاسي؛ إلى الأمم المتحدة على الخرائط الفلسطينية.

هذا الاعتراض شدد على أن القاهرة "لن تسمح لأحد بالتعدي على سيادتها على مياهها الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخاصة بها".

 وقد صاحبت تحركات القاهرة نحو تشكيل "منتدى غاز شرق المتوسط" خلال السنوات الأخيرة، والذي تحول لاحقاً إلى منظمة حكومية تضم أغلب الدول المشاطئة للبحر المتوسط، نقاشاً بين الجانبين المصري والفلسطيني بشأن ترسيم الحدود؛ إلا أن تلك المناقشات لم تسفر عن نتائج نهائية بسبب طلبات مصرية بمزيد دراسة للملف.

ومن جهة ثالثة، فإن أنقرة التي تفاوض "تل أبيب" اليوم على شراء حصة من إنتاج الأخيرة من الكهرباء؛ لتوجهها إلى الأراضي الفلسطينية قوبلت بطلب ثلاثي من كل من "تل أبيب" و"آثينا" و"بيقوسيا" بمبادلة هذا المطلب بمطلب ثلاثي يتعلق بالسماح التركي بتمرير كابل كهربائي كانت الدول الثلاث المذكورة قد وقعت في 8 مارس/آذار 2021 مذكرة تفاهم بخصوصه في إطار مشروع ربط شبكات الكهرباء للدول الثلاث، عبر كوابل بحرية بدعم من الاتحاد الأوروبي.

 وكانت تركيا قد طلبت ضرورة الحصول على إذن منها إن أرادت هذه الدول تمرير هذا الأنبوب عبر الجرف القاري التركي. وفضلت أنقرة - في هذا الإطار - أن تقوم بالمناصفة مع قطر بشراء حصة الكهرباء اللازمة لاستهلاك الأراضي الفلسطينية شراء مباشرا من دون مبادلة أو تعويض قد يؤثر على جرفها القاري.

هذا المسار التفاوضي حول خط سير الكابلات يحمل دلالتين تتعلقان بصورة غير مباشرة بقضية ترسيم الحدود المقترحة، وعلاقتها بترسيم الحدود البحرية المصرية الفلسطينية.

 أولى هاتين الدلالتين تنصرف إلى أنه ثمة التزام أخلاقي يحرك الدولة التركية حيال الملف الفلسطيني، وهو الالتزام الذي ترغب أنقرة في تمويله نقدا، من دون المساس بجرفها القاري وهو ما يدعم صدقية الإطار الأخلاقي المتعلق برغبتها في دفع جهود ترسيم الحدود البحرية الفلسطينية - المصرية، من دون نوايا استغلال آبار الغاز الفلسطينية. 

وثاني هاتين الدلالتين أن المسعى التركي للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط يرتبط بضرورة توفر إطار لمشروعية نشاطها من جهة، ومن دون خسارة حليف محتمل مهم كالطرف المصري من جهة ثانية.


الخاتمة

بعد اتساع نطاق الاكتشافات في شرق المتوسط والوعي في "تل أبيب" بحجم الخسارة التي لحقت بها جراء توقيعها المبكر على اتفاق ترسيم الحدود مع قبرص، اتجه العقل "الإسرائيلي" للبحث عن طريقة لتعويض هذه الخسارة، وهو ما أفضى بمراكز التفكير هناك إلى ابتداع فكرة ترسيم الحدود مع الجانب التركي، بما يؤدي إلى الإلغاء العملي للاتفاقية الموقعة مع الجانب القبرصي، ومن ثم إعادة النظر فيها.

غير أن حسابات المكسب والخسارة لم تكن المحرك للقرار التركي - كما "الإسرائيلي"، بل أضيف لمحددات القرار التركي اعتباران، أولهما إستراتيجي يتعلق برغبتها في تقويض عملية التحشيد للمواجهة في شرق المتوسط وذلك عبر إخراج مصر من هذه المعادلة، وثاني المحددات كان أخلاقيا يتمثل في العمل على دفع جهود ترسيم الحدود البحرية المصرية الفلسطينية، ما يؤدي لمعالجة مشكلة الطاقة في الأراضي الفلسطينية. 

ولم يمنع هذا الموقف التركي من السعي لاستثمار طرح "تل أبيب" من أجل إنتاج مناخ تقارب يمكن لتركيا الإفادة منه في مواجهة ضغوط إدارة الرئيس الأميركي الجديد، وصاغت خطاب تقارب يكاد يقارب خطاب الترحيب بالتقارب مع الجانب المصري، وإن كان أقل حرارة. 

وترهن الدولة التركية رغبتها في الحصول على موارد مستقرة من الغاز بضرورة توفر إطار للمشروعية يحكم هذه الموارد، فضلا عن الضغط من أجل الإقرار بحقوقها المشروعة في امتلاك هذه الموارد؛ على نحو يسمح بتآكل وقود التحشيد للصراع في شرق المتوسط.