الشيخ الحصري.. أبو القراء الذي تصدى لتحريف القرآن وتلاه في الكونغرس

سام أبو المجد | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

قبل 40 عاما، وفي مثل هذا اليوم 24 نوفمبر/تشرين الثاني، توفي المقرئ الشيخ محمود خليل الحصري، سنة 1980 عن عمر يناهز 63 عاما.

ورغم وفاته، ظل صوته حيا يملأ الآفاق، فلا تكاد تذهب لمكان إلا وتجده يصدح بآيات القرآن الكريم من مذياع سيارة أو من راديو في منزل أو من مكبرات صوت في مناسبة اجتماعية.

ولد الشيخ محمود خليل الحصري في 17 سبتمبر/أيلول 1917، بقرية شبرا النملة، بمدينة طنطا، محافظة الغربية (شمالي مصر)، لكنه ينحدر من محافظة الفيوم (وسط)، وانتقل والده السيد خليل إلى قرية شبرا النملة قبل ولادة الشيخ محمود.

التحق الحصري بالكتاب عندما كان في الرابعة من عمره، وأظهر نبوغا مبكرا فأتم حفظ القرآن وهو في الثامنة من عمره، وفي الثانية عشرة انضم إلى المعهد الديني في طنطا.

تنقل، عقب ذلك، بين هيئات المقارئ المصرية، مرتلا ومقرئا، وفي عام 1950 عين قارئا للمسجد الأحمدي بطنطا، وبعد ذلك بخمسة أعوام، أي في عام 1955 صدر قرار بتعيينه شيخا لمسجد الحسين بالقاهرة، أشهر المساجد وأقدمها في مصر، قبل أن يعين شيخا لعموم المقارئ بقرار جمهوري عام 1961.

معركة التحريف

في عام 1960 انتشرت المصاحف المحرفة، من بينها آية تقول (ومن يبتغ الإسلام دينا فلن يقبل منه)، بإسقاط كلمة (غير)،  فكان الحصري من أوائل من اكتشفها، ففزع وقلق، بحسب رواية ابنته ياسمين الحصري، فخاض معركة لمحاربة التحريف في المصاحف، وكانت الأصابع تشير إلى وقوف الصهاينة خلف ذلك النوع من التحريف.

بعد أن تزايدت ظاهرة التحريف، وانتشرت المصاحف المحرفة، جاءت فكرة توثيق القرآن بالصوت، فطلبت الحكومة عام 1961 تسجيل القرآن كاملا، مقابل أجر يتقاضاه القراء.

انبرى الشيخ الحصري لهذه المهمة، ورفض أن يتقاضى أي مقابل مادي لقاء تسجيله للقرآن، قائلا: "لا أتقاضى أجرا على المصحف المرتل"، فكان أول شيخ يسجل القرآن كاملا.

سجل الحصري القرآن برواية حفص عن عاصم، وهي الرواية التي يقرأ بها أهل الجزيرة العربية ومصر، ثم سجله عقب ذلك برواية ورش عن نافع، ثم قالون، ثم الدوري، وكان أول من سجل المصحف المعلم.

الوصول للعالمية

يعد الشيخ الحصري مدرسة في التلاوة، ومقرئ مصر الأشهر، ومؤسس مدرسة أحكام التلاوة الأبرز، قرأ القرآن ووصل صوته للشرق والغرب، ومع إثبات نبوغه وجدارته تولى عدة مناصب رسمية من بينها رئاسة مشيخة عموم المقارئ المصرية، كما عمل مستشارا فنيا ومفتشا للمقارئ.

عين عام 1968 رئيسا لاتحاد قراء العالم الإسلامي، وكان أول من تلا القرآن الكريم في مجلس الشيوخ الأميركي (الكونغرس) وهيئة الأمم المتحدة، وفي تلك الفترة أهدى للرئيس الأميركي جيمي كارتر نسخة من المصحف المسموع.

كثرت أسفاره في تلك الفترة فسافر للشرق والغرب، وتلقى دعوات من العديد من الدول، وأرسلت له طائرة خاصة لزيارة الحرمين، وقرأ للجاليات الإسلامية في دول أوروبية وأميركية، وناقش مع المراكز الإسلامية سبل نشر القرآن وتحفيظه، والإشكالات التي تعترض هذه المشاريع.

عقب توليه مناصب رسمية، تنبه الحصري للحاجة المادية الملحة للمقرئين المصريين الذين تفرغوا لحفظ القرآن وتلاوته، كما تنبه لحاجتهم إلى كيان يعنى بتنظيم شؤونهم، فطالب بإنشاء نقابة للقراء، ترعى مصالحهم وتوفر لهم أسباب العيش الكريم.

ورغم توليه مناصب رسمية بقرارات جمهورية، إلا أنه كان متواضعا للغاية، قريبا من الجميع، وهو الأمر الذي عرف منذ كان طالبا في المعهد الديني، حتى أنه يروى عنه أنه كان يبادر إلى أي مصل فيفرش له الحصير، ومن هنا أتت تسميته بـ"الحصري".

لم يكتف الحصري بقراءة القرآن وتلاوته، بل نادى بإنشاء مكاتب لتحفيظ القرآن في جميع المدن والقرى المصرية، وشرع بتشييد مسجد ومكتب للتحفيظ في القاهرة.

أبو القراء

كان لدى الشيخ الحصري إمكانات هائلة في القراءة والتنقل بين المقامات القرآنية بسهولة، وأجاد التصوير الموضوعي لمعاني القرآن من خلال قراءته ولغة جسده، بصوت مميز، وذائقة عالية، الأمر الذي مكنه من قراءة القرآن بجميع حواسه، وجسد معاني القرآن بأدائه وطريقته في التلاوة والبيان.

لم يكتف الحصري بتنويع القراءات والروايات في تسجيلاته، بل قرأ بتنويع التلاوات والمقامات أيضا، فقرأ المصحف المجود والمرتل بالقصر والإطالة، ومع كل قراءة كان يختار تلاوة تختلف عن الأخرى، وجميعها تلاوات مليئة بالخشوع والانكسار.

تمكن الحصري من الحفاظ على جودة القراءة برغم تنوع التلاوة، واختلاف الظروف، وتقدم العمر، فقرأ بمخارج واضحة، وأداء فصيح، وكان أشد المقرئين مراعاة لصفات الحروف، حتى أنه لقب بـ"أبي القراء"، و"شيخ المخارج الصوتية"، وإلى جانب تمكنه من التلاوة، كان على علم واسع بتفسير القرآن وعلم الحديث.

شبه ومحاكاة

كان من بين القراء القلائل الذين وصلت أصواتهم لتلك البقاع التي كانت معزولة عن العالم في أواسط إفريقيا، حتى أن كثيرا من مسلمي مالي وتشاد والسنغال باتوا يقلدون تلاوته، وبرع البعض في تقليده كالقارئ السنغالي محمد الهادي توري.

أشرطة الكاسيت بصوت الشيخ الحصري كانت هي المعلم الأول في كتاتيب الدول الإفريقية المسلمة، لما تميزت به التلاوة من وضوح القراءة والمخارج، وجمال الصوت والأداء، وتنوع الروايات والقراءات.

قرأ الشيخ الحصري بعدة قراءات وروايات، وكانت قراءة ورش بن نافع التي يقرأ بها أهل المغرب العربي، هي إحدى القراءات الشائعة في تشاد ومالي، إلى جانب قراءة حفص عن عاصم، لهذا كان الشيخ الحصري من أوائل من سجل القرآن بعدة قراءات.

كان الشيخ الحصري سيد القراءات، وأجاد القراءات العشر الكبرى بعد أن أكمل القراءات السبع من طريق "الشاطبية"، ومثلت هذه القراءات خيارات متعددة، استطاع من خلالها أن يلبي احتياجات كل مسلمي العالم باختلاف طرقهم في القراءة.

برز محاكون كثر للشيخ الحصري، وكان أكثرهم محاكاة له الشيخ القاضي محمد شرف الحلواني، ابن مكة المكرمة، الذي كان يلقب بـ"خليفة الحصري" فكان شبيهه في التلاوة ولغة الجسد والملامح، حتى أن الكثيرين كانوا يظنون الحلواني هو الحصري في شبابه.

شجع أبناءه

عرف عن الحصري أنه كان يشجع أولاده على حفظ القرآن، فكان يعطي أطفاله قرشا واحد عن كل سطر يحفظونه من القرآن في الستينيات، ثم 15 قرشا عن كل سطر في السبعينيات، و10 جنيهات عن كل جزء، وهو مبلغ مشجع للغاية في تلك الفترة، فكانت النتيجة أن حفظ كل أولاده الذكور والبنات القرآن الكريم.

في أواخر حياته، كان حريصا على أن تستمر رعايته للقرآن حتى بعد موته، فأوصى بتشييد مسجد ومعهد ديني ومدرسة تحفيظ بمسقط رأسه في قرية شبرا النملة، وأوصى بثلث أمواله لخدمة القرآن الكريم وحفاظه، والإنفاق في كافة وجوه الخير والبر.

وإلى جانب الإصدارات الصوتية التي أغنى بها المكتبة الإسلامية، ألف الشيخ الحصري ما يزيد عن 13 مؤلفا، منها أحكام قراءة القرآن، القراءات العشر من الشاطبية والدرة، ومعالم الاهتداء إلى معرفة الوقف والابتداء، وأحسن الأثر في تاريخ القراء الأربعة عشر، رحلاتي في الإسلام، وغيرها.