أميركا نموذجا.. كيف تحمي الديمقراطية الشعوب وتكبح جنون الحكام؟

أحمد يحيى | منذ ٣ أعوام

12

طباعة

مشاركة

في المسلسل الأميركي الشهير "هاوس أوف كاردز"، وصل "فرانك أندروود" إلى منصب رئاسة الولايات المتحدة، وقرر أن يستبد بالأمر، ويطلق مخيلته ومؤامراته ليحكم البيت الأبيض فترات عديدة وإلى الأبد، محطما قواعد الديمقراطية، وخارقا أساسيات النظام الرئاسي في البلاد.

وفي الواقع، وصل الرئيس دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2016 بعد فوزه على مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون، لكنه خسر في انتخابات 2020 أمام منافسه الديمقراطي جو بادين.

ترامب أراد أن يسلك مسار "فرانك أندروود" في "هاوس أوف كاردز"، محاولا أن يستأثر بالسلطة ويرفض تسليمها، ويرفض الاعتراف بنتائج الانتخابات قائلا: إنها "مزورة" متهما "الإعلام الكاذب بإعلان فوز بايدن على غير الحقيقة".

رغبة ترامب بالاستمرار المطلق في الحكم تحطمت على صخرتين شديدتين، هما الإرادة الشعبية، ومؤسسات حماية الديمقراطية، وبهما فقد الرئيس الأميركي الأكثر جدلا آمال بقائه في السلطة، حتى وإن لم يقر بهزيمته وحشد أنصاره، فعليه تسليم السلطة بحلول 20 يناير/ كانون الثاني 2021.

وأمام الولايات الأميركية مهلة حتى الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2020، للتصديق على الانتخابات، واختيار أعضاء المجمع الانتخابي الذي سيختار الرئيس الجديد رسميا يوم 14 من الشهر ذاته.

مشهد كارثي

لم تعش الولايات المتحدة في تاريخها حالة استقطابية مثل تلك التي أوجدها ترامب بداية من ترشحه وفوزه في الانتخابات الرئاسية عام 2016، حتى خسارته في الانتخابات الأخيرة عام 2020.

4 سنوات عصيبة اختبرت خلالها الأمة الأميركية في وحدتها وقوة ديمقراطيتها، واستطاعتها في تغيير تلك الحالة، في ظل رئيس يحمل عقيدة استبدادية، ومتناقضات جمة، فالانتخابات والديمقراطية التي جاءت به، هو نفسه يشكك في آلياتها ويرفض الاعتراف بنتائجها.

في 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، نشرت هيئة الإذاعة البريطانية (بي.بي.سي) تقريرا، قالت خلاله: إن "الولايات المتحدة الأميركية تعيش، استقطابا وشرخا مجتمعيا، وثمة تصاعد فيها للعنصرية والحساسيات العرقية والعنف، فضلا عن دعوات الانعزالية والحمائية الاقتصادية، وهو التيار الذي نجح ترامب في تقمص تمثيله".

وبالعودة إلى الانتخابات الرئاسية عام 2016، فقد عمل ترامب حينها بمنطق المراوغة بدلا من الرد الحاسم بشأن سؤال عن تسليم السلطة سلميا في حال خسارته، حينها قال ساخرا: "سأقبل بنتائج الانتخابات فقط إن فزت بها". 

ذلك المنطق استمر حتى انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، والتي انتهت بفوز المرشح الديمقراطي جو بايدن، حينها أطلق ترامب عواصف الرفض والإنكار.

ترامب صرح أثناء لقائه مع شبكة فوكس الإخبارية بأنه لا يحب الهزيمة، وقال: "لست خاسرا جيدا، لا أحب تكبد الهزائم، لا أخسر كثيرا ولا أحب أن أخسر"، مؤكدا أنه لن يقبل النتائج مقدما. وغرد قائلا: "سوف ننتصر". 

ولأول مرة تشهد أميركا، دعوات لمليونيات حاشدة من أنصار ترامب، الذين توافدوا إلى العاصمة واشنطن، للاعتراض على سقوط مرشحهم، في مشهد غير مسبوق لأي انتخابات رئاسية في التاريخ الأميركي.

وأمام بلطجة ترامب ورفضه ـ حتى الآن ـ الاعتراف بنتائج الانتخابات، هل تمتلك الولايات المتحدة آلية صارمة، لكبح جماح أي رئيس يتمسك بالسلطة، ويعرقل عملية التسليم السلس؟.

 

تصحيح المسار 

الديمقراطية نظام حكم وآلية معتمدة لإدارة الدول في العالم الحديث، لكنها تواجه عراقيل واختبارات أمام أشخاص سلطويين أو أنظمة متطلعة، ما يجعل من إحاطتها بسياج من أدوات "الردع" ضرورة لازمة لحماية الأمم من الحكام المستبدين.

ولا شك أن الجيش أحد أبرز الأدوات الرئيسية التي يعتمد عليها الحكام لفرض سلطتهم جبرا وقهرا، وفي الولايات المتحدة، خشي مؤسسو الدولة من تدخل الجيش في الحياة السياسية.

حد الدستور الأميركي من أي احتمال لسيطرة ضباط عسكريين غير منتخبين على الحكم. وحدد الدستور مسؤوليات الرئيس المنتخب، التي على رأسها أنه قائد أعلى  للقوات المسلحة.

من ناحية أخرى، يثق الأميركيون في أن جيشهم لا تحركه الأهواء السياسية الداخلية أو الحزبية، وهو ما جعل رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال مارك ميلي، يعلن في 13 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، أن "ولاء أفراد الجيش للدستور الأميركي وليس لملك أو طاغية" حسب تعبيره.

وقال: "نحن فريدون بين الجيوش، نحن لا نقسم يمين الولاء لملك أو ملكة أو طاغية أو دكتاتور، نحن لا نقسم على الولاء لفرد أو بلد أو قبيلة أو دين، نحن نقسم على الدستور، وكل جندي يحمي ويدافع عن تلك الوثيقة بغض النظر عن الثمن الشخصي". 

بذلك يفقد أي رئيس أميركي أهم عامل من عوامل سيطرته، وهو القوة المسلحة والقبضة العسكرية، ثم يتطرق الدستور الأميركي إلى طرق التعامل مع رئيس يرفض ترك منصبه من خلال التعديل 20 بالدستور، الذي نص على أن "تنتهي فترة ولاية الرئيس ونائب الرئيس ظهرا في اليوم العشرين من يناير/كانون الثاني".

وتقول التعليمات الواضحة في القانون الأميركي: إن الخط البديل، إذا لم ينتخب رئيس جديد، أن تذهب السلطة لرئيس مجلس النواب بصورة مؤقتة حتى تجرى انتخابات جديدة، ويفقد الرئيس القديم الصلاحية لإدارة البلاد. 

أما في حالة رفض الرئيس الخروج من البيت الأبيض، فبنص هذه المادة يأتي دور عناصر وكالة الخدمة السرية في البيت الأبيض، حيث سيكون عليهم إرغام الرئيس السابق على تسليم السلطة عنوة، وهم عناصر شرطة محترفون وليسوا سياسيين.

وبذلك ضمنت الديمقراطية الأميركية حماية نفسها، وتصحيح مسارها، وهو ما تكرر في التاريخ الأميركي عبر رؤساء انتخبوا لفترة واحدة في ظروف مختلفة، إما بسبب قضايا فساد أو سياسات مثيرة للجدل ومهددة لوحدة الأمة وتاريخها كما في حالة ترامب. 

نماذج سابقة 

منذ تأسيس الدولة الأميركية كاتحاد للولايات الفيدرالية في 4 يوليو/تموز 1776، ضمنت الديمقراطية لذلك الاتحاد الجديد أن يتماسك ويحمي نفسه من مغبة الحروب والانقلابات العسكرية، والدعاوى الانفصالية.

لم يستمر رئيس أميركي لأكثر من فترتين بحال من الأحوال، والرئيس الوحيد الذي سجل 3 ولايات لظروف استثنائية، هو فرانكلين روزفلت بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وفي أحيان أخرى حكم بعض الرؤساء لفترة واحدة ثم استبعدوا باختيارات شعبية.

سجل التاريخ أن جون آدمز أول رئيس أميركي يفشل في الفوز بإعادة انتخابه لولاية ثانية، وكان آدمز الرئيس الثاني للولايات المتحدة خلفا لجورج واشنطن. 

وخلال فترة ولايته خاض آدمز شبه حرب مع فرنسا (حرب غير معلنة خاضها البلدان في البحر ما بين عامي 1798 و1800)، بعد الاستيلاء على سفينة تجارية في ميناء مدينة نيويورك، وفي الانتخابات التالية، حل آدمز في المركز الثالث، بسبب انخفاض شعبيته ومشاكل متعددة أخفق في مجابهتها. 

ومن أقرب الرؤساء في تاريخ الولايات المتحدة لأفكار ترامب العنصرية، هو "وليام هوارد تافت"، الذي انتخب عام 1909، وتميز بعنصريته الشديدة ضد الأميركيين من أصل إفريقي.

 تافت قال: إنه "لن يعين أميركيين من أصل إفريقي في وظائف فيدرالية، وأقال غالبية الملونين من مناصبهم في الجنوب". وبعد فترة واحدة من ولايته خسر الانتخابات، بعد مرحلة مخيبة للآمال لم تتحقق فيها إنجازات تذكر. 

وبعد فضيحة "ووترجيت" الشهيرة، قدم ريتشارد نيسكون استقالته، بعدها أصبح جيرالد فورد، رئيسا خلال الفترة ما بين 1974 إلى 1977، لكنه هزم من جيمي كارتر.

تولى كارتر، منصب رئيس الولايات المتحدة من عام 1977 إلى عام 1981، لكنه خسر بعدها أمام رونالد ريغان. وللمرة الأولى في تاريخ الولايات المتحدة، يفشل رئيسان أميركيان (فورد وكارتر) على التوالي في الفوز بإعادة انتخابهما لولاية ثانية.

وكان الرئيس الأميركي جورج بوش (الأب) آخر رئيس يفشل في الفوز بإعادة انتخابه لفترة ولاية ثانية قبل أن يلحق به ترامب، وهزم بوش بعد فترة واحدة، عندما خسر أمام الديمقراطي بيل كلينتون في انتخابات عام 1992.

ومن واقع التاريخ، فإن الديمقراطية استطاعت أن تحصن المجتمع الأميركي من أحداث كارثية، ومن حكم رؤساء ربما كانوا سيودون بها إلى مسارات أسوأ، إذا استأثروا بالحكم، أو ظلوا لفترات طويلة كما يحدث في بعض البلدان لا سيما الشرق الأوسط.

إسقاطات حتمية

الباحث السياسي المصري محمد ماهر، قال لـ "الاستقلال": "لا بد من استيعاب مشهد الانتخابات الأميركية الأخيرة، وإسقاطها على عالمنا العربي، فترامب هو نموذج للحاكم الشرق أوسطي بامتياز، بنزعته الديكتاتورية وتسلطه الفج، ورغبته في المكوث حاكما لأطول فترة ممكنة، ودون منافس أو شريك، ولو امتلك ذلك الشخص الأدوات لأحدث انقلابا عسكريا، وارتكب مذابح دموية حتى يظل في السلطة". 

وأضاف: "عندما قامت ثورات الربيع العربي، كانت في ظل حكومات ورؤساء حكموا عدة عقود طويلة، بعضهم قارب نصف قرن من الزمن، مثل مبارك الذي حكم مصر 30 عاما، والقذافي الذي حكم ليبيا 42 عاما، ومثلهم علي عبد الله صالح في اليمن، وبشار الأسد في سوريا، وكل هؤلاء تعاقب عليهم مجموعة من رؤساء الولايات المتحدة".

وتابع الباحث السياسي: "ومن الجمهوريات العسكرية إلى الملكيات لم يختلف الأمر كثيرا، فالملوك وأبناء الملوك في الخليج تعاقبوا على الحكم، وها هو محمد بن سلمان ارتكب كل الموبقات للوصول إلى قمة الملك، وترسيخ حكمه، بداية من الاعتقالات بحق الأسرة الحاكمة، إلى القتل والاغتيالات كما حدث مع جمال خاشقجي وغيره من المعارضين". 

ماهر أوضح أنه في الولايات المتحدة، "الدولة استخدمت أدواتها لتحصين الشعب، وحماية الأمة من الحكام، واستطاعت أن تتجاوزهم في كثير من الأحيان وتعاقبهم، أما في بلادنا فالعكس هو الذي يحدث، الدولة ومكوناتها تعمل على حماية الحاكم من حق الشعوب في الاختيار والمعاقبة".

وختم ماهر حديثه بالقول: "الجيش والأجهزة الأمنية والاستخباراتية في دول الشرق الأوسط جزء من قوة الحاكم وأدواته، لذلك لا يمكن نسيان ما قاله السيسي يوما لضباطه: (مفيش ظابط هيتحاكم لو قتل) وهذه كلمة لا تذكر إلا في أعتى الديكتاتوريات".