عبدالله البردوني.. شاعر كفيف أنار طريق الثورة لليمنيين

آدم يحيى | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

عبد الله البردوني، علامة فارقة في التاريخ اليمني الحديث، وظاهرة أدبية فريدة، ورائد من رواد الشعر الحداثي في اليمن والعالم العربي، حلت ذكرى وفاته الـ21 في 30 أغسطس/آب 2020.

البردوني الذي توفي عام 1999، متأثرا بمرضه، عن عمر يناهز 70 عاما، يعد شاعر اليمن الأبرز إن لم يكن الأول، وعلى المستوى العربي صنفه أدباء ومثقفون كواحد من أهم شعراء القرن العشرين.

لم يكن البردوني شاعرا فحسب، بل كان فيلسوفا ومفكرا وناقدا ومؤرخا وكاتبا سياسيا، تمكن من تقديم أفكاره وتأملاته عبر قوالب أدبية وشعرية بديعة، فوثق وأرخ وحلل وناقش الظواهر والأحداث التي تناولها في قصائده.

أدب الثورة

كتب البردوني في أدب الثورة والجمهورية، وفي السياسة، والقضايا الاجتماعية والمناسبات الوطنية، والغزل، والتصوف ومناجاة الذات، واعتمدت قصائده على التصريح حينا والتمليح حينا آخر، وكانت التلميحات والإشارات الذكية أسلوبا حاضرا في عدد كبير من قصائده.

لم يقتصر إنتاجه الأدبي والشعري على امتاع الذائقة العربية بجميل اللفظ والأسلوب، وحسن السبك والنظم، بل أضاف إلى العقل والفكر العربي، وصنع مادة زودت المفكرين والفلاسفة بما يمكن أن يشكل أعمدة أبحاثهم ومؤلفاتهم مستقبلا.

وبالنسبة لليمنيين، صنعت أشعاره وعيا ثوريا وجمهوريا، وكانت إشاراته الفكرية موضوعا للباحثين، وتساؤلاته الفلسفية مادة للدارسين.

ورغم أن قصائده أخذت شكلا كلاسيكيا، إلا أنه يعد شاعر الحداثة الأول في اليمن، وحسب أديب اليمن عبد العزيز المقالح، فإن "رحلة البردوني الشعرية انتقلت من الكلاسيكية إلى السريالية، واستقر حينا عند الرومانتيكية، ثم عاد إلى الكلاسيكية الجديدة".

اتسم البردوني بحس السخرية اللاذع وله طرائف عديدة يرويها المقربون منه، حيث عاش المعاناة صغيرا، فتمكن من التعبير عن هموم الشعب، وجالس الفقراء والمعدمين فتمكن من تمثيلهم في قصائده، آثر الفقر والمعاناة على المديح للنظام والتطبيل له.

البردوني تجاوز العجز، ولم يستسلم للإعاقة البصرية، وكانت مثالا حاضرا في ذهن اليمنيين، كما أن الأمم المتحدة صكت في عام 1981 عملة تذكارية تحمل صورته، للإشادة بحالة الإبداع رغم الإعاقة.

وفي مطلع أغسطس/آب 2020، وبسبب الأمطار الغزيرة وإهمال المؤسسات الرسمية له، انهار منزله الذي كان في وسط صنعاء، وطمر مقتنيات الراحل الشخصية.

 

معرّي اليمن

ينتمي البردوني إلى اليمن الكبير، لكنه إداريا ينحدر من محافظة ذمار وسط اليمن، حيث ولد في قرية "البردّون" شرق المحافظة، عام 1929.

وفي الثلاثينيات من القرن المنصرم، اجتاح وباء الجدري منطقته، فأصيب به وفقد بصره وهو في الخامسة من عمره، لكن إدراكه تركز في تعزيز بصيرته فكان يدرك بحدسه ونباهته ما لا يدركه المبصرون.

كانت حالة البردوني تشبه إلى حد كبير حالة الشاعر الأشهر، أبي العلاء المعري، الذي فقد بصره في نفس سن البردوني تقريبا، وأصيب بذات المرض  الذي أدى لفقدان بصره، حتى أن البردوني كثيرا ما يوصف ب"معري اليمن" حيث تطابقت موضوعات الشاعرين، في الفكر والفلسفة.

كجميع أقرانه التحق البردوني بكُتاب القرية، ثم ما لبث أن انتقل إلى مدينة ذمار وكان حينها في العاشرة من عمره، والتحق بالمدرسة الشمسية التاريخية الأثرية، وتعلم العلوم الأساسية حينها وأتم حفظ القرآن، ولم يثنه فقد بصره عن مواصلة تعليمه والتفوق في دراسته.

لما ناهز العشرين عاما انتقل إلى صنعاء، وهناك درس في الجامع الكبير، الذي كان يعد المدرسة الأولى في صنعاء في تلك الفترة، فتتلمذ على يدي أهم المشايخ وعلماء المذهب الزيدي.

لكن الأديب الكفيف الذي برزت موهبته في عمر الـ 13 عاما، لم ينشغل بالفقه الزيدي، بل انشغل بدراسة الأدب، وقراءة دواوين الشعر وحفظ قصائدها عن ظهر قلب، ثم قرأ في الفكر والفلسفة والمنطق والتاريخ.

بعد نحو 4 سنوات من دراسته في الجامع الكبير، التحق بالمدرسة العلمية أو كلية دار العلوم، التي أنشأها الإمام يحيى حميد الدين، عام 1925، وكانت أعلى مؤسسة تعليمية حكومية، يتخرج منها كوادر الدولة العليا.

درس فيها البردوني علوم الدين والشريعة والأدب واللغة، ابتداء من عام 1953، فتفوق في الأدب، وحصل على جائزة التفوق اللغوي، ثم حصل على الإجازة فعين مدرسا للأدب العربي في المدرسة ذاتها.

بعد اندلاع الثورة عام 1962، عمل البردوني في إذاعة صنعاء، معدا لبرنامج أسبوعي بعنوان "مجلة الفكر والأدب"، وكان من أهم البرامج الثقافية حينها، ثم ما لبث أن عمل رئيسا للجنة النصوص في إذاعة صنعاء، ومديرا للبرامج في ذات الوقت منذ العام 1980.

بالتزامن مع ذلك عمل البردوني مشرفا في القسم الثقافي في مجلة الجيش، منذ العام 1969، وأسس في تلك الفترة اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، وترأسه في دورته الأولى، كرئيس منتخب، منذ إنشائه في عام 1970.

هجاء واعتقال

رغم حداثة سنه، إلا أن البردوني كان عصيا على الأئمة في اليمن، فكان كثيرا ما ينتقد ويهجو ويهاجم، ويعتقل على إثرها، فقد اعتقله الإمام أحمد بن يحيى ثاني ملوك المملكة المتوكلية اليمنية عام 1949، وأودعه في السجن لنحو 9 أشهر.

خرج من السجن بعدها، لكنه كان بنفس الروح والعزم والتصميم، فعاد إلى السجن مرة أخرى عام 1953، وقضى نحو 11 شهرا.

كان قريبا من الجمهورية، لكنه لم يكن قريبا للرئيس السابق علي عبد الله صالح، فلم يتزلف له ولم يكل له المدائح، ولم يحضر حفلاته ومؤتمراته رغم دعوته لها، فهمشه صالح وتعمد إقصاءه، فقضى حياته فقيرا كريما، لا يجد ثمن الدواء في بعض الأحيان.

عاش معارضا لبعض مواقف صالح، فرأى في الوحدة بالطريقة التي أرادها صالح، شكلا من أشكال الضم والإلحاق، التي ألغت الآخر، وفرضت أحزابا شكلية، ورأى أن حرب 1994 نتيجة منطقية لتلك الممارسات، كما رأى أن حرب الانفصال لم تنته طالما أن آثارها باقية.

بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فرأى أن الحكم الديكتاتوري الذي طال في عهد صالح، نقل البلاد من استعمار ما قبل الثورة إلى استعمار ما بعد الثورة، لكنه استعمار وطني، وأشار إلى ذلك في بعض أشعاره قائلا: 

يمانيّون في المنفى ومنفيّون في اليمن
جنوبيّون في (صنعا) شماليّون في (عدن)
كالأعمام والأخوال في الإصرار والوهن
خطى (أكتوبر) انقلبت حزيرانيّة الكفن
ترقّى العار من بيع إلى بيع بلا ثمن
ومن مستعمر غاز إلى مستعمر وطني
لماذا نحن يا مربى ويا منفى بلا سكن
بلا حلم بلا ذكرى بلا سلوى بلا حزن ؟
يمانيّون يا (أروى) ويا (سيف بن ذي يزن)
ولكنّا برغمكما بلا يمن بلا يمن
بلا ماض بلا آت بلا سرّ بلا علّن

الناقد المبتسم

كان البردوني مبتسما دائما رغم عدم رضاه عن النظام السياسي، انتقد ثوار 1962، الذين ثاروا ولم يكملوا ثورتهم في تأسيس نظام سياسي عادل، فكتب قصيدة في عام 1971 قال فيها: 

والأُباة الذين بالأمس ثاروا:  أيقظوا حولنا الذئاب وناموا

حين قلنا قاموا بثورة شعبٍ: قعدوا قبل أن يروا كيف قاموا

ربما أحسنوا البدايات لكن: هل يحسون كيف ساء الختامُ؟

استدعى الشباب قصائد البردوني أثناء الثورة، التي اعتبرها البعض نصف ثورة، قضت على نظام قديم ولم تؤسس لنظام جديد، فأدخلت البلد في فوضى وحالة من عدم الاستقرار، كما أن عددا من القوى الثورية العربية استعارت قصائده للتعبير عن الحالة السياسية التي تمر بها البلدان بعد الثورة.

انتقد البردوني حالة التجويع التي يمارسها الحاكم على الشعب، فأنشد قصيدته الشهيرة:

لماذا لي الجوع و(الشبع) لك .. يناشدني الجوع أن أسألك

وأغرس حقلي فتجنيه أنت .. وتسكر من عرقي منجلك

        غدا سوف تلعنك الذكريات .. ويلعن ماضيك مستقبلك

وانتقد الحال المزري الذي تمر بها صنعاء، جل التجهيل والإخضاع للمرض والفقر، فقال: 

ماذا أخبّر عن صنعاء يا أبتي .. مليحة عاشقاها السل والجربُ

وهاجم المسؤولين المتزلفين لأمراء النفط في الخليج والمنبطحين عند أبوابهم فنسج قصيدته: 

أمير النفط نحن يداك: نحن أحد أنيابك

ونحن القادة العطشى:  إلى فضلات أكوابك

ومسؤولون في (صنعا): وفراشون في بابك

نبوءات الشاعر

تعددت نبوءات الشاعر الكفيف، فقد تنبأ بتصاعد الرأسمالية، وغزوها للبلدان، وبالطبع لم يتكلم حينها عن الهامبرجر والبيتزا والكوكاكولا، لأنها لم تكن المنتجات الرأسمالية الأشهر في عصره، لكنه تكلم عن السجائر الماركة، أو كما سماها السجائر الفاخرة المغرية، والعطر الفاخر.

كما تحدث في وقت مبكر عن حالة التغريب الثقافي الذي يمهد شعبيا لقبول الاستعمار الغربي، فتحدث عن الأساتذة الذين يرتدون (البناطيل) وهو لبس غربي يوحي بالثقافة لكنه أدى دورا في تغريب المجتمعات لصالح المعسكر الرأسمالي الغربي.

وتحدث أيضا عن العمائم التي تشتغل لصالح السلاطين وتساعد على غزو الشعوب، واعتبرها شكلا جديدا من أشكال الغزو الاقتصادي والثقافي الذي يمهد الطريق أمام الاستعمار السياسي، وهو الأمر الذي أدى بالفعل لقبول البعض التطبيع مع إسرائيل، بحجة أنها دولة صناعية متطورة، سوف تفيد البلدان العربية المتخلفة صناعيا على الأقل.

تناول البردوني أيضا موضوع  القوة الناعمة قبل "جوزيف ناي"، ولفت في قصائده إلى أنها تستعير مسميات إنسانية، غير أن هدفها استقطاب قوى وتنفيذ مشاريع وأجندات لصالحها، وسمى كل ذلك المستعمر السري، الذي عاد بشكل آخر، وفرض استعمارا جديدا.

كل تلك التأملات والنبوءات تناولها البردوني في قصيدته "الغزو من الداخل": 

فظيعٌ جهـلُ مـا يجـري … وأفظـعُ منـه أن تـدري

وهل تدريـن يـا صنعـا … مـن المستعمـر السـرّي

غــزاة لا أشـاهـدهـم … وسيف الغزو في صـدري

فقـد يأتـون تبغـا فــي … سجائـر لونهـا يـغـري

وفـي صدقـات وحـشـي … يؤنسن وجهـه الصخـري

وفي أهـداب أنثـى فـي … مناديـل الهـوى القهـري

وفـي ســروال أسـتـاذ … وتحـت عمامـة المقـري

وفي أقراص منـع الحمـل … وفـي أنبـوبـة الحـبـر

وفـي حـريـة الغثـيـان … وفـي عبثـيـة العـمـر

وفي عَود احتـلال الأمـس … فـي تشكيـلـه العـصـر

وفـي قنينـة الويسـكـي … وفـي قـارورة العـطـر

ويستخفـون فـي جلـدي … وينسلـون مـن شعـري

وفـوق وجوههـم وجهـي … وتحـت خيولهـم ظهـري

غـزاة اليـوم كالطاعـون … يخفـى وهـو يستشـري

مؤلفات وجوائز

أصدر البردوني طوال مسيرته الأدبية أكثر من 20 عملا فكريا وأدبيا ونقديا، منها 8 دراسات نقدية و12 ديوانا، وهي: "من أرض بلقيس" و"في طريق الفجر" و"مدينة الغد" و"لعيني أم بلقيس" و"السفر إلى الأيام الخضر" و"وجوه دخانية في مرايا الليل" و"زمان بلا نوعية" و"ترجمة رملية لأعراس الغبار" و"كائنات الشوق الآخر" و"رواغ المصابيح" و"جواب العصور" و"رجعة الحكيم بن زائد".

كما كتب في الفكر السياسي، فألف كتابين هما "اليمن الجمهوري"، و"الجمهورية اليمنية"، وكتب في النقد الأدبي، فألف كتابه "الجديد والمتجدد في الأدب اليمني"، ويقع في نحو 2000 صفحة، ويضم دراسات نقدية لنصوص الحداثة الشعرية في اليمن.

وكتب "رحلة في الشعر اليمني قديمه وحديثه" و"قضايا يمنية" و"فنون الأدب الشعبي في اليمن" و"الثقافة الشعبية تجارب وأقاويل يمنية" و"من أول قصيدة إلى آخر طلقة: دراسة في شعر الزبيري وحياته" و"أشتات".

وكتب أيضا في تراجم الرجال فألف كتاب "أحياء في القبور"، تناول فيه أعلام اليمن في الفكر والأدب، وجمع عدة مقالات في كتابه "المستطرف الحديث"، يتناول فيها مواضيع ثقافية وفكرية وأدبية.

فضلا عن عدد من الكتب التي لم يجد ميزانية لطبعها ونشرها، حيث كان يعتمد على ما يحصله من الجوائز الدولية لطباعة معظم كتبه، التي كان يرفض صالح طباعتها وترفض المؤسسات الرسمية طباعة أو نشر أعماله.

حصل الشاعر اليمني على عدد من الجوائز منها: وسام الأدب والفنون في صنعاء (1984) وجائزة مهرجان أبي تمام بالموصل في العراق عام (1971) وجائزة مهرجان جرش الرابع بالأردن عام (1981) وجائزة شوقي وحافظ في القاهرة (1981) وجائزة العويس 1993، وجائزة اليونسكو من الأمم المتحدة 1982 كما كُتبت حول شعره العديد من الدراسات.