ماكرون يزور بيروت ويغرد بالعربية.. كيف دمر الاحتلال الفرنسي لبنان؟

عبدالرحمن محمد | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

خلال زيارته للعاصمة اللبنانية بيروت، في أعقاب الانفجار الضخم الذي هز أركانها مخلفا عشرات القتلى والجرحى، وخسائر مادية تقدر بالمليارات، حاول الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إظهار نفسه في صورة الفارس المنقذ المحب لأهل تلك الأرض المنكوبة.

سبق مجيئه إلى لبنان، تغريدة نشرها بالعربية الفصحى على حسابه في "تويتر" مؤكدا أن فرنسا تقف إلى جانب لبنان دائما، وما لبث أن أتبعها بأخرى معبرا عن حبه لتلك الأرض، بكلمة عربية دارجة "بحبك يا لبنان!".

تعمد ماكرون خلال تجوله في أنحاء الأرض المحترقة، أن يمسك بيديه إحدى المواطنات المتضررات من الحادث الأليم، معبرا عن تعاطفه مع الشعب اللبناني، وكأنه لم يكن يوما منتسبا إلى دولة احتلال لطالما مثلت كابوسا على لبنان وعلى مساحات شاسعة أخرى من الوطن العربي، رويت بدماء ملايين الشهداء، والذين ما زالت بعض جماجمهم تزين متاحف بلاده حتى يومنا هذا.

زيارة الرئيس الفرنسي تزامنت مع توقيع آلاف اللبنانيين على عريضة تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي للبنان، ليسارع ماكرون بالتأكيد على حرصه على تغيير الخارطة السياسية في البلاد، حسب وكالة "رويترز".

يأس شعبي

في اللحظة التي تلت انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب 2020، طفت إلى السطح مكنونات شعب عانى الأمرين من تصرفات حكومة يراها "فاسدة"، وتعبر في عمومها عن رغبة جارفة في تنحي هؤلاء عن واجهة الحكم، حتى ولو أدى الأمر إلى إعلان لبنان دولة فاشلة ووضعه تحت الوصاية الدولية.

أكثر من 36 ألف لبناني وقعوا على عريضة تطالب بعودة الاحتلال الفرنسي للبنان، وذلك بالتزامن مع زيارة ماكرون إلى بيروت، بحسب هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".

طالب الموقعون بوضع لبنان تحت الانتداب الفرنسي للسنوات العشر المقبلة، ما أدى إلى حالة انقسام وجدل بين رواد مواقع التواصل الاجتماعي من اللبنانيين، حيث استنكر بعضهم عودة الاحتلال واصفا إياها بخيانة الوطن، في الوقت الذي يرى فيه آخرون أن لبنان لم يكن بلدا مستقلا في أي وقت من الأوقات، وأن هذا يمثل حلا للمشهد المعقد الذي تعيشه البلاد في ظل حالة انعدام ثقة الطبقة الحاكمة.

كما نقلت "بي بي سي" عن مواطنة لبنانية ناشدت ماكرون بألا يعطي أموالا "للحكومة الفاسدة"، ليطلب منها ماكرون مباشرة عدم القلق من هذا الأمر، مؤكدا أن المساعدات ستذهب بشكل مباشر إلى الشعب، حسب قوله.

تحت الاحتلال

بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى وسقوط الدولة العثمانية، كان لبنان من نصيب المحتل الفرنسي وفقا لاتفاقية "سايكس- بيكو"، حيث أعلن المندوب الفرنسي في سوريا ولبنان، الجنرال غورو في 31 أغسطس/ آب 1920، نشوء دولة "لبنان الكبير" التي ضمت المنطقة الساحلية ووادي البقاع بأغلبيتها السكانية المسلمة، إلى جبل لبنان، الذي يهيمن عليه المسيحيون الموارنة، والذي أدى إلى انقسام اجتماعي عميق، عملت فرنسا من خلاله على تغذية الطائفية، وبث روح الفرقة بين المسيحيين والمسلمين.

وفي دراسة أكاديمية للمدرس بجامعة البصرة، عمار الربيعي، بعنوان "الانقسام الوطني اللبناني في عهد الانتداب الفرنسي 1920-1943)، توصل إلى أن سلطة الانتداب الفرنسي عملت على تأجيج الخلافات الطائفية، مستغلة طبيعة التركيبة الإثنية والطائفية غير المتجانسة للمجتمع اللبناني، وذلك لكي يسهل على المحتل احتواء الطوائف المتناحرة وإشغالها في أمور لا مبرر لها على حساب مهامها الأساسية في النضال والكفاح ضد المستعمر.

ويؤكد الربيعي، أن القوى الاستعمارية تحولت بفعل الانقسام المجتمعي والاعتبارات الطائفية إلى عامل مشترك في رسم الخارطة السياسية اللبنانية، متغلغل في صلب تقاليد طوائفه وسلوك أغلب سياسييه، على حد تعبيره.

استعمار أم استدمار؟

لم يترك المستعمر الفرنسي إبان فترة احتلاله لبنان بين عام 1920 و1943، مجالا لزرع الفتن بين الطوائف إلا استغله، فلم يتردد في سياسة قهر المناطق الإسلامية، وحرمانها من أبسط حقوقها الاقتصادية، في مقابل تنمية مناطق وقطاعات تتلاءم مع أهداف الاحتلال التجارية، بحسب مؤرخين.

سياسة التفرقة والتحيز التي انتهجتها فرنسا في لبنان، عمقت الطائفية وهيأت المناخ مبكرا للحرب الأهلية، إضافة إلى أنها عمدت استعمال البنى التقليدية في المجتمع، بدلا من المساعدة على القضاء عليها وتحديث البلاد، فكان ذلك عاملا من عوامل التخلف والتجزئة الطائفية.

لم يقتصر هدف الاستعمار الفرنسي على السيطرة على الاقتصاد ونهب خيرات البلاد، بل استطاع أن ينشئ بنية اجتماعية مليئة بالتناقضات، مما يسمح له بالبقاء محتلا فترة طويلة، ثم جاءت ظروف الانقسام الطائفي لتشكل للاحتلال أرضا خصبة تمكنه من تعميق التباعد بين الطوائف على كافة الأصعدة الثقافية والاجتماعية والسياسية، وفقا للمؤرخ اللبناني وجيه كوثراني.

كل ذلك تصوره الدبلوماسية الفرنسية بشكل معاكس تماما، إذ حاولت عبر موقعها الإلكتروني على شبكة "الإنترنت" أن تبين متانة العلاقات اللبنانية الفرنسية، التي تقوم على الشراكة والدعم المستمر، من أجل السلام والاستقرار.

تزوير تاريخي قائم على التنصل من الجرائم، تؤكده تصريحات السفير الفرنسي في لبنان إيمانويل بون في مقابلة خاصة لتلفزيون "إل بي سي" في 15 إبريل/ نيسان 2016، حيث أقر بأن لبنان يعد من أولويات أجندة السياسة الخارجية لبلاده، وأنه نموذج يجب الحفاظ عليه رغم كثرة الحروب فيه.

دماء طرابلس

في حوار صحفي أجرته صحيفة "البيان" اللبنانية مع النائب الراحل عبد المجيد الرافعي، أحد مناضلي مدينة طرابلس إبان الاستقلال عام 1943، حيث ذكر قصة مريعة تمثلت في مجزرة ارتكبها الاحتلال الفرنسي بحق أطفال عزل.

بدأت القصة حين حاول الاحتلال الفرنسي عزل الزعيم عبد الحميد كرامي الذي عينه الملك فيصل بن الحسين حاكما إداريا للواء طرابلس، وبعد محاولة فاشلة قام بها المحتل، قام باعتقاله في قلعة راشيا، ما أشعل غضبا شعبيا تمثل في مظاهرة حاشدة كان معظمها من الطلاب.

ويروي الرافعي أن طلاب طرابلس تحركوا في مسيرة انطلقت بعد صلاة الجمعة من الجامع المنصوري الكبير، وتوجهوا إلى مقر إقامة الكابتن لاوسن، موفد البعثة الفرنسية في طرابلس، وانتهى ذلك اليوم بسلام.

لكن في اليوم التالي، انطلقت تظاهرة من جامع طينال، مرت بمدرسة الفرير في منطقة الزاهرية، فانضم إليها عدد من التلاميذ بمن فيهم أمين الحافظ رئيس الحكومة الراحل، واتجهوا جميعا إلى التل هاتفين ضد الدبابات الفرنسية التي يقودها جنود سنغاليون "لتسقط فرنسا.. ليسقط الانتداب.. ليسقط الاستعمار".

ويكمل الرافعي: "لدى وصولنا إلى شارع الصلح منقسمين إلى صفين، انطلقت الدبابات بإشارة من ضابط فرنسي لتدهس الطلاب وتطلق النار على من تبقى منهم"، مؤكدا أن تلك المجزرة راح ضحيتها 14 طالبا، مما أنتج غضبا شعبيا أدخل المدينة في عصيان مدني أدى بعد ذلك إلى تسريع الإفراج عن المعتقلين وإعلان استقلال لبنان في 22 نوفمبر/ تشرين الثاني 1943.

منظومة تحطيم

يرى الباحث في العلوم السياسية، طارق أبو حمزة، أن الاستعمار يرسم صورة متخمة بالغنى والنظام والتقدم الحضاري، لكنه في الحقيقة يستأثر بكل ذلك لنفسه ولمواطنيه، وفي المقابل يؤسس لتحطيم وتدمير القيم والاحترام الذاتي والثقافة والأخلاق، على حد تعبيره.

ويضيف أبو حمزة، أن هناك فرقا واضحا بين المناطق الفلسطينية المحتلة عام 1948، وبين الضفة الغربية وغزة اللتين احتلتا عام 1967.

ويرى أبو حمزة أن المناطق التي يعيش فيها الفلسطينيون تحت ظل الجنسية والقانون والتقدم الإسرائيلي، ينتشر فيها الجهل والجريمة بشكل يفوق الضفة الغربية وقطاع غزة، وفي المقابل تقل فيها معدلات التعليم والثقافة بشكل لافت.