تصريحات متناقضة ومواقف متخاذلة.. على من يراهن محمود عباس؟

محمد سراج الدين | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

بعد تصعيده السريع فور إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب "صفقة القرن"، عاد رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لسابق عهده، وأعلن تمسكه بإفرازات اتفاقيات السلام الموقعة مع الاحتلال، زاعما بأن "أفضل سلام يعرفه التاريخ" سيكون بين فلسطين وإسرائيل.

تراجع عباس لم يقف عند حد التصريحات، وإنما ارتبط أيضا بالتفاؤل الذي صاحب إعلان صفقة القرن، عن إمكانية إنهاء الانقسام الفلسطيني، بعد دعوته المبكرة لقيادات حركتي حماس والجهاد، للتباحث وتنسيق المواقف للرد على صفقة ترامب، في الاجتماع الذي عقده برام الله، وإعلانه عن مشاركة وفد من فتح في الاجتماع الذي كان من المقرر أن تعقده الفصائل الفلسطينية حول نفس الشأن في قطاع غزة.

التفاؤل بإنهاء الانقسام الفلسطيني تبخر، بعد تهرب عباس من إرسال وفد فتح لغزة، ثم لقائه برئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود أولمرت، لإعلان رفضهما المشترك للصفقة، وأخيرا رضوخه للضغوط الأمريكية والإسرائيلية في مجلس الأمن القومي وسحبه مشروع إدانة الصفقة الذي قدمته السلطة الفلسطينية عن طريق المندوب التونسي في مجلس الأمن، وما صاحب ذلك من خطاب عباس المثير للجدل داخل قاعة مجلس الأمن، عن موقفه الحقيقي من صفقة القرن.

التصرفات الأخيرة لعباس، وإصراره على عدم الاقتراب من ملف التنسيق الأمني مع إسرائيل، أثارت تساؤلات عن نواياه الحقيقية من صفقة القرن، وهل بالفعل السلطة الفلسطينية التي يترأسها تعارض الصفقة، أم أن الموضوع لن يخرج عن سياسة المساومات التي يتقنها عباس من أجل الحصول على أكبر المكاسب الممكنة من الجانبين الأمريكي والإسرائيلي؟

السلطة والصفقة

وفقا لتحليل كتبه موقع "ميدل إيست مونيتور"، حول موقف محمود عباس والسلطة الفلسطينية من صفقة القرن، فإن إعلان عباس، رفضه للصفقة، لم يكن مرتبطا بما جاء فيها من بنود، وإنما ردا على التهميش الذي يتعرض له من الإدارة الأمريكية الحالية، التي لا تُظهر حتى مجرد الحد الأدنى من الاحترام لقيادات السلطة الفلسطينية، ولذلك جاء إطلاق الصفقة باعتبارها فرصة للقيادة الفلسطينية للمناورة وإظهار المعارضة.

وعقد التحليل السابق مقارنة بين لغة خطاب عباس الساخنة، ومواقفه على الأرض التي تعارض تنفيذ أو تطبيق هذه اللغة، وبحسب التحليل، فإنه في الوقت الذي يعلن فيه عباس، أن "القدس ليست للبيع"، وأن السلطة "سوف تقطع العلاقات الأمنية مع كل من إسرائيل والولايات المتحدة"، فإنه يعتبر أن المقاومة المسلحة غير فعالة ومتهورة و"إرهاب"، كما أنه لا يرى طائلا من جهود المقاومة الشعبية السلمية تماما، مثل حركة "المقاطعة وسحب الاستثمارات والعقوبات".

وأشار التحليل الذي كتبه الصحفي والباحث المختص بقضايا الشرق الأوسط أحمد البرعي، ومراسل صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" في غزة سابقا، أن هناك تشابها كبيرا بين خطة ترامب وبين اتفاق بيلين/ أبو مازن لعام 1995، سواء فيما يتعلق بمدينة القدس أو المستوطنات، وتأسيس دولة فلسطينية منزوعة السلاح، حتى فيما يتعلق بعودة اللاجئين الذين اعتبر عباس في اتفاق 1995، أن عودتهم مرة أخرى سيكون صعبا في إطار حقبة السلام والتعايش الجديدة.

ووفق الباحث، فإن "عباس كان بالفعل على متن معظم القضايا التي ذكرها ترامب"، وأن خطاب رئيس السلطة الفلسطينية الناري والتهديدات بقطع جميع الاتصالات والتعاون الأمني ​​مع الأمريكيين والإسرائيليين لم يكن إلا من أجل الاستهلاك المحلي فقط".

وقدم الباحث العديد من الخطوات التي يجب على السلطة الفلسطينية أن تقوم بها لتثبت بالفعل أنها ضد صفقة القرن، وأنها تعمل من أجل الحق الفلسطيني، بعيدا عن الإدانة الخطابية والكليشيهات.

 ومن هذه الخطوات، يقول الباحث: توسيع الجهد الدبلوماسي لملاحقة إسرائيل في المحكمة الجنائية الدولية، وأن تعطي المجال للمقاومة الشعبية ضد توسيع المستوطنات وضم الأراضي في الضفة الغربية، والبدء الفوري في إصلاح هيكل منظمة التحرير الفلسطينية بدعوة جميع الأطياف السياسية للمشاركة في انتخابات شاملة وشفافة، وإذا لم تتحقق مثل هذه الإجراءات- كما هو متوقع- فإن معارضة عباس الواضحة لترامب ستظهر على حقيقتها بأنها "خدعة تخدع شعب فلسطين".

ما بعد عباس

الجانب الإسرائيلي نظر إلى خطابات محمود عباس الساخنة، بمنظور مختلف، حيث اعتبروها رسالة للجانبين الإسرائيلي والأمريكي، بأنه ما زال موجودا، وأن الخطة التي أعلنها ترامب تتجاوز حدود الزمن الذي يوجد به الآن رئيس السلطة الفلسطينية الذي تجاوز 85 عاما.

ووفق تقرير نشرته وكالة "فرانس برس"، فإن الإسرائيليين يبحثون عن قائد فلسطيني "براغماتي"، غير أبومازن، لتنفيذ الصفقة الأمريكية، وهو ما أكده مدير مركز "موشي ديان" للدراسات عوزي رابي، في تصريحات للوكالة بأن هذه الخطة "ليست مخصصة لأبو مازن، بل لخلفه الذي لا نعرف هويته".

وإن كان ما سبق يمثل رأي الجانب الإسرائيلي، فإن الناشطين الفلسطينيين لم يذهبوا بعيدا عن ذلك، وأصبحت لديهم قناعة أن أبو مازن لا يخاطب الفلسطينيين، وإنما يخاطب جهات وشخصيات أخرى يعتبرها من وجهة نظره، هم المعنيون بالشأن الفلسطيني أكثر من الفلسطينيين أنفسهم، وهي الحالة التي وصفتها الكاتبة الفلسطينية نادية عصام حرحش، في مقال نشرته بصحيفة "رأي اليوم" الصادرة من لندن، مؤكدة أنه من الصعب استيعاب خطاب عباس، ولا من هي الفئة التي يتكلم من أجل أن تسمعه أو يحاول إقناعها.

وبحسب حرحش، فإنه في كل مرة، يؤكد عباس أنه يخاطب غير الفلسطينيين. وكأن الفلسطينيين بالنسبة له مجرد تحصيل حاصل، أو أدوات يسخرها ويحركها كلما أراد من أجل الدعايات.

وردا على لقاء أبو مازن ورئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أولمرت، ووصفه بالصديق، تقول حرحش: "لا نفهم كذلك كشعب يعيش تحت الاحتلال كيف يصف الرئيس الفلسطيني علاقته بمجرم مثل أولمرت بالصديق؟ كيف يترحم على رابين بحزن من فقد عزيز؟".

وتابعت: "من أين للرئيس فهم أن العلاقة بين الفلسطينيين وإسرائيل هي علاقة تنتهي إلى صداقة وود؟ نحن نفهم أنه لم يعش في فلسطين وترك صفد لإسرائيل ويكتفي بمقاطعته برام الله بأن تكون الكل الفلسطيني، وعليه، هو يدعو لعلاقة سلم وود بينه وبين الرفاق الأصدقاء من الإسرائيليين ليعيشوا معه بسلام. وكأن من خط بنود صفقة القرن التي رفضها هم آخرون".

وأشارت الكاتبة الفلسطينية إلى أن أبو مازن "لا يريد إلا السلام ونبذ العنف والإرهاب والعيش بسلام مع صديقه السلمي صاحب السلام إيهود أولمرت، فالأخير صديقه الحقيقي الذي رحب به بحب وتقدير وتأهيل ودعاه برجل السلام، ولذلك من الصعب حقيقة فهم لمن ينتمي رئيس السلطة، ولكنه بالتأكيد هو لا يمثل الشعب الفلسطيني".

وفي فقرة أخرى من مقالها، تقول حرحش: "في خطابه أمام الأمم المتحدة، يبكي أبو مازن منع ترامب للمساعدات المليونية، ويتفاجأ ويستغرب من ترامب الذي لم يعد يعرفه.. وكأن ترامب كان صديق طفولته وخان العشرة ولعب الأطفال البعيد".

فلسطين أبو مازن

المحللون الذين تابعوا خطابات عباس الأخيرة، وجدوا تناقضا كبيرا في مواقفه، ما جعلهم يقفوا حائرين عن حقيقة ما يريده الرجل التسعيني، وعلى من يراهن، بعد كل هذا العمر، وهي الحيرة التي دفعت بالباحث المختص بالشؤون الفلسطينية رامونا وادي، التوقف أكثر من مرة في مقالات عدة كتبها بموقع "ميدل إيست مونيتور"، عن تصريحات أبو مازن في مجلس الأمن.

ودعا رامونا وادي، ضرورة نسيان كل شيء عن "غلو" محمود عباس فيما يتعلق بالمقاطعة الكاملة لإسرائيل والولايات المتحدة، بما في ذلك  التنسيق الأمني، خلال خطابه أمام مجلس الأمن الدولي يوم الثلاثاء في العاشر من فبراير/ شباط الجاري، بعد أن قدم اقتراحا بعقد مؤتمر سلام دولي آخر "لإحلال سلام حقيقي بين الفلسطينيين وإسرائيل".

ووفق الرأي السابق، فإن مثل هذا المؤتمر، "المنهك والمتكرر والخطير بالنسبة للفلسطينيين، هو نموذج آخر قدمه عباس ودعمه نظريا المجتمع الدولي، ولا سيما دول الاتحاد الأوروبي. مرة أخرى، تتمثل أولوية عباس في إثبات أهميته لتوقعات ومطالب المجتمع الدولي، لسبب بسيط هو أنه ليس لديه "شرعية سياسية بين شعبه".

وبحسب "ميدل إيست مونيتور"، فإن فلسطين التي يتحدث عنها عباس ليست فلسطين التي يريدها الفلسطينيون، ولكنها البنية التي حددها المجتمع الدولي لمساعدة عملية الاستعمار الإسرائيلية، سواء تم تحقيق ذلك من خلال إطار دولتين عفا عليها الزمن، أو من خلال "صفقة القرن" لترامب.

بين خطابين

وفي تقرير أعده "مركز القدس لدراسات الشأن الفلسطيني والإسرائيلي"، فإنه بين الخطاب الأول لمحمود عباس بعد إعلان ترامب لصفقة القرن، والخطاب الأخير أمام مجلس الأمن، شعر المواطن الفلسطيني أن الحراك الفلسطيني لن يتجاوز الرفض دون التقدم بخطوات عملية على الأرض، خاصة بعد تراجع النفس الدافع نحو المصالحة وزيارة غزة لدى قيادة السلطة الفلسطينية.

ويشير تقرير عن المركز إلى أن الأداء السياسي الرسمي، لم يرق لمستوى طموح الشارع الفلسطيني، الذي تُثبت المُعطيات بأنه جاهز ومستعد لكنه فاقد للثقة، كما أن الطرف الإسرائيلي لم تكن لديه تخوفات خارج سقف ما قامت به السلطة، فالترجيح لدى النخب السياسية والأمنية الصهيونية، لم تتجاوز سقف رفض السلطة مع وجود حراك فلسطيني محدود على الشارع.

وأرجع التقرير استمرار اتساع الهوة بين القيادة والشعب، إلى أن جزءا كبيرا من القيادات الفلسطينية تعمل لمصلحتها الشخصية، في ظل الثراء الفاحش لشريحة ليست بالقليلة من المتنفذين.