عبد العزيز الثعالبي.. مفكر إسلامي قاوم الاستعمار الفرنسي في تونس

زياد المزغني | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

يمر طلاب المدارس في تونس على اسمه مرورا سريعا، وسط جملة من الأسماء في تاريخ الحركة الوطنية زمن الاستعمار دون الوقوف على شخصيته وقيمة الأثر الذي خلّفة في تاريخ تونس الحديث.

عبد العزيز الثعالبي أو الشيخ كما يلقب في جل المراجع التي تحدثت عن سيرته، زعيم سياسي وطني في تونس، من أصول جزائرية في وقت لم يكن للحدود معنى كبير، وقائد إسلامي كبير ملأ في الآفاق ذكره وعمت أرجاء العالم الإسلامي بفضل تحركاته ومشاركته في محطات مفصلية من تاريخ الأمة.

مزج الثعالبي في مسيرته بين فكر تجديدي إسلامي، أثار غضب المؤسسات التقليدية، ونشاط سياسي تحرري أغضب الاستعمار، حيث كان مؤسس الحزب الدستوري الحر الذي قاد النضال الوطني في تونس ضد الاستعمار الفرنسي.

واستمر دور الحزب الدستوري الكبير رغم تغيير قيادته إلى مرحلة بناء دولة الاستقلال والانفراد بالحكم في مرحلتي الرئيسين الراحلين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي.

المولد والنشأة

وُلد عبد العزيز الثعالبي بتونس العاصمة بتاريخ 5 سبتمبر/أيلول 1876، ونشأ في عائلة مشهورة بعلمها، فهو من أصول جزائرية وجده هو عبد الرحمن الثعالبي أحد قادة المقاومة الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، والذي رفض منصب قاضي القضاة، ليغادر من حينها بجاية ويستقر في تونس.

نشأ تحت رعاية والده الذي كان يشغل خطة عدل إشهاد (كاتب عدل)، وجده المنحدر من أسرة جزائرية معروفة بالعلم والصلاح.

عندما بلغ من العمر اثني عشر عاما التحق بجامع الزيتونة، بعدما حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ اللغة العربية بالمدرسة الابتدائية.

فتلقى بالجامع الأعظم علوم اللغة العربية والشريعة عن كبار أساتذة العصر، منهم المشايخ مصطفى بن خليل وحسين بن حسين وإسماعيل الصّفايحي ومحمد النجار وسالم بوحاجب.

ولما امتلأ وطابه علما واشتد نظره فهما، انقطع عن الدراسة قبل الحصول على شهادة "التطويع" لأنه لم يكن يرى نفسه في حاجة إليها، بل كان كل ما يطمح إليه، بعدما اكتسب زادا ثقافيا لا بأس به، إنما هو دخول معترك الحياة والاتصال بأعلام النهضة الفكرية بتونس.

ضريبة الإصلاح

التحق عبد العزيز الثعالبي برواد النهضة الفكرية والحركة الإصلاحية كالبشير صفر، وكانت باكورة كتاباته في جريدة ''المبشر ''منذ سن 1892 وعمره 16 سنة، ونشر مقالات في عدد من الصحف كـ"الصواب" و"الزهرة" و"الحاضرة" و"المنار"، إلى أن أصدر جريدته الخاصة "سبل الرشاد" وعمره 19 عاما.

وهذه المجلة ذات توجه إسلامي وحدوي تنويري تحرري ولكن لم تلبث أن عطلتها سلطات الاحتلال الفرنسي لجرأة مواضيعها، ومكنه إتقان اللغة العربية وفنون كتابتها من مواجهة الاستعمار الفرنسي وفضح جرائمه والدعوة للاستقلال.

وبعد إغلاقها من المستعمر الفرنسي، سافر الشيخ إلى بعض الدول، منها ليبيا واليونان وتركيا ومصر، حيث كان يلتقي بالمفكرين المتنورين والسياسيين المصريين من أمثال محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وعبد الرحمان الكواكبي.

ثم عاد إلى وطنه حاملا مشروعا فكريا يهدف إلى تجديد التأويل العقلاني للقرآن ومحاربة التحجر الذهني والعقائدي الذي هيمن طويلا على العقل الإسلامي.

لكنه جوبه بتعنت من الزيتونيين وتعرض إلى حملة تكفير من الشيوخ المحافظين بعدما أدلى بمواقف تتعلق بمقاصد الشريعة الإسلامية، أقرب إلى عقلانية ابن رشد وابن خلدون، وهو الأمر الذي اعتبره شيوخ الزيتونة آنذاك تطاولا على الأولياء والاستخفاف بكراماتهم، ومساسا بالعقيدة واستنقاصا من رموز مُقدسة في المجتمع.

روح التحرر

في 23 يوليو/تموز 1904، حكمت المحكمة الابتدائية بتونس على الشيخ عبد العزيز الثعالبي بالسجن مدة شهرين للتهمة الموجهة ضده.

وما أن غادر السجن حتى فكر في تأليف كتاب للرد على خصومه من رجال الدين "الناقمين على التطور" -حسب تعبير الشيخ محمد الفاضل بن عاشور- وإظهار الدين الإسلامي الحنيف في مظهر الدين المقام على أسس الحرية والعدالة والتسامح.

 ولم يكن من الممكن آنذاك نشر ذلك الكتاب باللغة العربية في تونس، خاصة وأن خصوم الثعالبي كانوا يتربصون به الدوائر، فقرر إصداره باللغة الفرنسية بباريس، اتقاء لشرهم.

وبما أنه كان لا يتقن تلك اللغة، فقد اعتمد في نقل تأليفه إلى الفرنسية على صديقيه المحامي سيزار بن عطاء والمترجم السابق بالمحكمة الابتدائية في تونس الهادي السبعي.

وبذلك، أصدر كتاب "روح التحرر في القرآن" في العام 1905 بباريس ليحمل اسم ثلاثة مؤلفين، سيزار بن عطاء والهادي السبعي وعبد العزيز الثعالبي.

وتضمن الكتاب كثيرا من الأفكار الإصلاحية التي كانت رائجة في ذلك العصر، لا سيما المتعلقة منها بتحرير المرأة المسلمة ومقاومة البدع والتمسك بالكتاب والسنة.

كما دعا إلى تخليص العقيدة الإسلامية مما اختلط بها من باطل مناف لروح التوحيد الخالص كالتقرب للأولياء والصالحين وعبادة الزوايا والأضرحة والخضوع لأصحاب الكرامات، وتخليص الدين الإسلامي مما علق به من خرافات وأوهام.

النضال السياسي

في العام 1905، انضم الثعالبي إلى "النادي التونسي" الذي كان يضم خيرة من رجال الفكر والسياسة في تونس مثل علي باش حانبة وحسن قلاتي.

غير أن الخطوة الأهم كانت بانضمامه لـ"حركة الشباب التونسي" التي تضم نخبة من الإصلاحيين في تونس، وأسس رفقة علي باش حانبة جريدة "التونسي" في 1908.

كما ترأس جريدة "الاتحاد الإسلامي" التي تخصصت في مواجهة المستعمر الإيطالي الذي كان قد غزا ليبيا حينها.

لمع اسم الشيخ الثعالبي في سماء المقاومة بتونس من خلال مشاركته في الحركات الاحتجاجية التي عرفتها البلاد في تلك المرحلة، مثل حركة طلبة الزيتونة سنة 1910، وأحداث الزلاج سنة 1911، ومحاولته مساعدة المجاهدين الليبيين في نضالهم ضد الإيطاليين.

وقد استمرت حركة الشباب التونسي في نشاطها حتى سنة 1912 حينما اندلعت "أحداث الترامواي" ليقع القبض على عدد من قيادتها ونفيهم خارج تونس وكان من بينهم الثعالبي الذي عاد إلى موطنه لاحقا مع اندلاع الحرب العالمية الأولى سنة 1914.

"الدستوري الحر"

ما أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها حتى أقدم الوطنيون في تونس على إعادة تنظيم صفوفهم وضبط مطالبهم محاولين الاستفادة قدر الإمكان من المبادئ الـ14 التي أعلن عنها الرئيس الأمريكي ويلسن إثر انتهاء الحرب، لا سيما مبدأ الاعتراف بحق الشعوب في تقرير مصيرها.

وقرر قادة الحركة الوطنية أن يعهدوا بمهمة عرض القضية التونسية على حكومة باريس، إلى عبد العزيز الثعالبي الذي أصبح بعد وفاة علي باش حانبة سنة 1918، زعيما للحركة.

تحول الثعالبي إلى باريس في شهر يوليو/تموز 1919 للترويج للقضية التونسية عبر إلقاء المحاضرات والخطب ونشر المقالات في الصحف الفرنسية المناصرة لقضايا الشعوب، والاتصال بقادة الأحزاب السياسية وبالخصوص الحزب الاشتراكي.

وبعد وصوله إلى فرنسا بعام واحد، أصدر الثعالبي كتاب "تونس الشهيدة" بالتعاون مع المحامي التونسي المقيم في باريس أحمد السقا الذي تولى نقله إلى اللغة الفرنسية. 

ورغم مصادرته من قبل السلطات الفرنسية، فقد انتشر بتونس في كنف السرية وزاد من حماس الوطنيين الذين تبنوا المطالب الواردة فيه وأجمعوا على بعث أول حزب منظم في تونس، برئاسة الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وهو "الحزب الحر الدستوري التونسي" الذي أعلن عن تأسيسه يوم 15 يونيو/حزيران 1920.

وردت السلطات الاستعمارية الفرنسية على تأسيس الحزب بإلقاء القبض على الثعالبي ونقله إلى تونس، لكن جرى الإفراج عنه تحت ضغط من التونسيين.

ولقي الحزب الدستوري شهرة واسعة وانخراطا كبيرا من المواطنين والمثقفين فيه، بفضل قدرة الشيخ على الإقناع والاستقطاب، وهو ما دفع فرنسا إلى نفيه مرة أخرى وتحديدا إلى إيطاليا سنة 1923. وغادر الشيخ الثعالبي البلاد في جولة إلى المشرق شملت عدة دول والتقى خلالها بقيادات للعمل الوطني والإسلامي حينها.

إلا أن فترة غيابه التي دامت 14 عاما، تغيرت فيها الأوضاع داخل الحزب، حيث قاد عدد من القيادات الشباب ممن أكملوا دراستهم الجامعية في فرنسا انشقاقا واسعا في الحزب أوصل إلى تأسيس "الحزب الحر الدستوري الجديد" في مارس/آذار 1934، بقيادة محمود الماطري والحبيب بورقيبة.

وبعد عودته إلى تونس في 1937، حاول الثعالبي رأب الصدع وإعادة توحيد الحزب الذي أسسه بنفسه إلا أنه تعرض إلى كل أصناف الإهانة التي وصلت إلى درجة ممارسة العنف ضده من أنصار بورقيبة.

وعي إسلامي

انتقل الثعالبي من مصر إلى الشام فالعراق، حيث درس في جامعاتها منذ 1925 إلى سنة 1930، ثم ترك بغداد إلى القاهرة، ومنها سافر إلى الصين، وسنغافورة وبورما والهند والكويت ثم عاد إلى مصر، وذلك بهدف الدعوة لتحرير الشعوب العربية والإسلامية.

حاول الشيخ فض النزاع القائم بين الطائفتين المسلمة والهندوسية، محذرا من سرقة غاندي للثورة على الاحتلال البريطاني من المسلمين وتفريغ البلاد منهم بالاتفاق مع البريطانيين لترجيح الأغلبية لفائدة الهندوس.

كما حاول الزعيم التونسي توحيد ملوك وسلاطين العرب في رابطة سياسية وجامعة إسلامية تمكنهم من انتشال الأمة من الوضع الذي تعيشه، خاصة بعد سقوط الخلافة العثمانية.

ولعب الثعالبي أيضا دورا بارزا في تأسيس المؤتمر الإسلامي العام بالقدس الذي انعقد في سبتمبر/أيلول 1931، حتى جرى تعيينه مكلفا بالدعاية والنشر وعضوا في المكتب الدائم للمؤتمر، وسافر إلى الدول والأمصار مُعرفا بالقضية الفلسطينية.

وأنهى عبد العزيز الثعالبي حياته في منزله بالعاصمة تونس مدرسا لطلبة جامع الزيتونة ومكملا لمؤلفاته العديدة، قبل أن توافيه المنية في 1 أكتوبر/تشرين الأول 1944 عن عمر يناهز 68 سنة.