يغذي الصراع في بورتسودان.. من يسعى لفصل شرقي السودان؟

أحمد يحيى | 4 years ago

بشكل شبه يومي لا تنقطع الأخبار المتواترة والمتكررة عن اشتباكات وحوادث اقتتال أهلي وطائفي بين المجموعات الإثنية شرقي السودان، خاصة في مدينة بورتسودان، صاحبة الميناء الإستراتيجي على البحر الأحمر.

تلك الاشتباكات بين هذه المجموعات بمختلف طوائفها ومشاربها، أضحت  ظاهرة تؤشر لمستقبل مخيف في تلك المنطقة، فلماذا تتصارع الآن؟ وماهو شكل الصراع الدائر؟ وهل هناك أطراف خارجية تغذي معادلة الصراع وتساهم في إشعال الموقف؟.

هذه الأحداث تأتي في وقت يبحث فيه السودان في ظل الحكم المؤقت الحالي (مجلس سيادة من المدنيّين والعسكريّين لفترة انتقالية مدتها 39 شهرا) عن حالة من الاستقرار إثر شهور من الاحتجاجات الشعبية غير المسبوقة أطاحت بالرئيس عمر البشير في نيسان/أبريل 2019.

زرع الفتن

الباحث السوداني وائل نصرالله، قال لـ"الاستقلال": "السودانيون شعب مسالم بطبيعته، وأهل شرق السودان كسائر الأقاليم، عانوا من ويلات الإهمال، والتهميش، على مر العصور المتعاقبة، والآن تتم محاولة زرع الفتن، وإذكاء الحروب بينهم، لاستئثار قوى إقليمية متعددة بخيرات هذا الإقليم بالغ الأهمية".

وأردف: "الإثنيات والعرقيات الموجودة متعايشة منذ مئات السنين، وتجمعهم علاقات واسعة، وضاربة في أعماق التاريخ، وبينهم روابط اجتماعية، وثقافية، واقتصادية، فما الذي جد حتى تشتعل المعارك بينهم، ويقتل بعضهم بعضا؟".

وأضاف الباحث السوداني: "منطقة الشرق السوداني تتمتع بأهمية إستراتيجية بالغة، بسبب الموانئ المطلة على البحر الأحمر، وحدودها المتقاطعة مع إثيوبيا، وإريتريا، ومصر شمالا، لذلك فهي مطمع من كل هؤلاء، الذين لا يريدون للسودان أن ينهض، ويتحكم بثرواته الهائلة، وأن يكون قوة صاعدة في القارة الإفريقية على غرار بعض الدول، ومنها إثيوبيا على سبيل المثال". 

حرب القبائل

في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، قتل 3 أشخاص، وأصيب 24 آخرين، باشتباكات قبلية، شهدتها مدينة بورتسودان، شرقي السودان، فيما أعلنت السلطات الأمنية حظرا للتجوال، وذلك إثر اندلاع أعمال شغب احتجاجا على زيارة الأمين داوود زعيم حركة "الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة" المتمردة للمدينة. 

وينتمي داوود إلى قبيلة "البني عامر"، لكن أفرادا من "الهدندوة"، وهي أكبر قبيلة في المنطقة، احتجوا على تنظيم استقبال شعبي في مدينتهم لزعيم من قبيلة منافسة، ما أدى إلى اندلاع صدامات.

ونقلت وكالة الأنباء الرسمية "سونا" أن داوود "خاطب الحشد الجماهيري"، في بورتسودان، وتناول في خطابه "قضايا شرق السودان وحقه المشروع في توظيف ثرواته من المعادن والذهب وثرواته البحرية لمعالجة قضايا الصحة والتعليم"، ودعا إلى "فتح الحدود مع دولة إريتريا وتوظيف الجوار لتحقيق المصالح العامة".

وداوود نائب رئيس "الجبهة الثورية"، إحدى الحركات المسلحة المتمردة التي تجري في جوبا مفاوضات سلام مع السلطات الانتقالية في السودان، وعاد في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إلى الخرطوم بعدما قضى 9 سنوات في المنفى.

وكثيرا ما يشهد السودان صدامات قبلية يتخللها في أكثر الأحيان سقوط الكثير من القتلى. وتعد مدينة بورتسودان، الشريان الاقتصادي الرئيسي في البلاد، وتشهد باستمرار إضرابات ينفذها عمال الموانئ للمطالبة بظروف عمل أفضل ورفع أجورهم.

مدينة أشباح

بسبب الاشتباكات الضارية بين القبائل، والقتال المستعر، تحولت مدينة بورتسودان شرقي السودان، والتي تضم الميناء الرئيسي للبلاد، إلى مدينة أشباح، بفرض حظر التجوال على خلفية أحداث عنف كان آخرها المواجهات بين عرقية البني عامر وبقية قوميات البجا، وسط اتهامات لمحاور إقليمية بإشعال فتنة قبلية في المدينة.

قد تبدو الأحداث الدامية بين البني عامر والنوبة في يونيو/حزيران وأغسطس/آب 2019، ذات خلفيات إثنية، ساهم تراخي السلطات في ارتفاع قتلاها. لكن المواجهات الحالية بين البني عامر من جانب، والأمرار والهدندوة من جانب آخر، تتزايد فيها فرضيات المؤامرة الخارجية، وسباق فرض النفوذ بين العسكر والمدنيين في أجهزة الحكم الانتقالية، حسب تقارير عدة. 

مطلع يونيو/حزيران الماضي، سقط 40 قتيلا من البني عامر مقابل 12 من النوبة يوم وقفة عيد الفطر، وجاءت تلك الأحداث عقب فض اعتصام قوى الحرية والتغيير، أمام القيادة العامة للجيش بالخرطوم.

وتعود شرارة الانفلاتات بين قبائل النوبة والبني عامر، إلى فترة الاحتجاجات إبان عهد البشير، عندما استغل منفلتون الاحتجاجات في مدينة القضارف لنهب محل تجاري، فاضطر مالكه لقتل اثنين من المهاجمين بسلاح ناري.

بعدها وفي نفس المدينة نشب خلاف بين سقا من قومية البني عامر وسيدة من النوبة، انتهى إلى عدد من القتلى والمصابين. ومنها سرت حالة الاحتقان إلى مدينة خشم القربة بولاية كسلا، عندما أردى جواهرجي قتيلين بالرصاص لمحاولتهما نهب معرضه. وطالت اتهامات التقصير والتباطؤ الأجهزة الرسمية التي عجزت عن وأد فتنة استمرت لأشهر، لتسفر عن أحداث دامية، ومتكررة.

في 25 أغسطس/ آب الماضي، وعلى خلفية أحداث قبلية بالولاية، أقال مجلس السيادة الانتقالي، الحاكم العسكري لولاية البحر الأحمر اللواء ركن عصام عبد الفراج، ومدير جهاز المخابرات العامة بالولاية. 

ظهر عجز السلطات في تقييد 1070 بلاغا ضد مجهول في أحداث بورتسودان المتعاقبة، وما أقر به مدير شرطة الولاية في المؤتمر الصحفي للجنة تقصي الحقائق في أغسطس/ آب الماضي، وهو أن الشرطة انسحبت أثناء الأحداث لنفاد الغاز المدمع. ليبرز التساؤل لمصلحة من تنفلت الأحداث وتشتعل الفتن في المدينة بالغة الأهمية الاقتصادية؟.

موانئ دبي

البداية من العام 2008، عندما تقدمت شركة موانئ دبي بعرض لتشغيل ميناء بورتسودان، وتم رفضه في ذلك الوقت من الحكومة السودانية.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2017، قدمت دبي طلبا جديدا لهيئة الموانئ البحرية في السودان، يتضمن إدارة الميناء بالكامل لمدة 50 عاما، إلا أن الهيئة رفضت ذلك واقترحت عليها مناصفة الإدارة مع الشركة الفلبينية التي تدير الميناء منذ عام 2013، وهي شركة الخدمات الدولية لمحطات الحاويات (آي سي تي أس آي) المملوكة لرجل الأعمال الفلبيني إنريك ريزون. 

لكن موانئ دبي رفضت العرض مطالبة بتسليم الميناء كاملا وخاليا من العمالة السودانية، لذلك جاءت ردة فعل الأمين العام لجبهة شرق السودان محمد بري قوية وأعلن رفض الجبهة تشريد أي من العمال الذين يُشغلهم الميناء وعددهم 3000 عامل.

وفي 19 يوليو/ تموز 2018، نشرت مجلة "الإيكونوميست" البريطانية تقريرا، حذرت فيه من أن الطموحات الإماراتية بالسيطرة على موانئ شرق إفريقيا، والاستفادة منها تجاريا وعسكريا، ينذر بدخولها في مواجهة مع دول أخرى مثل الصين وقطر، تسعى بدورها للاستفادة من الفرص المغرية التي تقدمها هذه المنطقة الإستراتيجية.

وأوضحت المجلة أن الإمارات واحدة من عدة دول خليجية تسعى للفوز بموطئ قدم إستراتيجي في شرق إفريقيا، من خلال استغلال الموانئ، حيث أن السيطرة على هذه النقاط يوفر أسبقية تجارية وعسكرية، إلا أنه ينذر أيضا باندلاع التوترات في المنطقة.

وذكرت المجلة أن أولى خطوات شركة موانئ دبي في شرق إفريقيا كانت في سواحل جيبوتي، وكان الإماراتيون حينها من المستثمرين القلائل المهتمين بتلك المستعمرة الفرنسية السابقة الصغيرة والفقيرة. 

وقالت المجلة البريطانية: "أبو ظبي من بين كل الدول العربية، تسعى لفرض قوتها العسكرية خارج حدودها، وكل موانئ القرن الإفريقي توجد قرب مضيق باب المندب، الذي يمثل نقطة حيوية في مدخل البحر الأحمر، يمر منه 4.8 ملايين برميل نفط يوميا في 2016".

سفينة شحن داخل ميناء بورتسودان

إضراب عام

وفي 20 فبراير/ شباط 2019، بدأ إضراب عام في هيئة الموانئ السودانية، لمقاومة خصخصة تستفيد منها شركة فلبينية، يقولون إن الإمارات تديرها من الباطن، وسط شبهات وعمولات تحيط بالصفقة.

ومثّل الاتفاق مقصلة لآلاف العمال الذين ينحدر أغلبهم من قومية البجا في شرق السودان، حيث يتفشى الفقر بشدة. ويعمل في الميناء الجنوبي نحو 1800 عامل من جملة 13 ألفا يعملون في هيئة الموانئ، إلى جانب 37 ألفا من عمال الشحن والتفريغ.

وتصاعدت الانتقادات للاتفاق لحد وصفه بـ"الجريمة" المروعة في حق الاقتصاد الوطني، لضآلة مردوده المادي، وتشريد العمال بموجبه، فضلا عن شكوك بشأن وجود علاقة بين الشركة الفلبينية وشركة موانئ دبي.

وأكد المضربون حينها، أن ما يعزز هذه الشكوك أن الشركة الفلبينية ستدير المرفأ الجنوبي من فرعها في مدينة دبي. ويحذر العمال من أن ثمة مخاوف من أن تسيطر الشركة الفلبينية على ميناء إستراتيجي تحتاجه الحكومة لإدخال معدات ذات بعد أمني وعسكري أحيانا.

من إضراب العمال في ميناء بورتسودان

سر الصراع 

مصدر مطلع رفض الإفصاح عن اسمه قال لـ"الاستقلال": "ما يحدث من صراع بين القبائل، ليس مجرد صراع طبقي أو إثني فقط، بل هناك مشروع تقسيم يسري في الإقليم الشرقي من السودان، وهو مشروع تفكك على أثره تلك المنطقة إلى جغرافيا، متحاجزة ومتباعدة".

وأضاف: "الجغرافيا السودانية مرتبطة بالقبيلة، ومشروع التقسيم الذي يسري، ليس مرتبطا بشرق السودان فقط، بل في دارفور، والنوبة، والجنوب الجديد، لأن المجموعات، والقبائل، والإثنيات هناك، تقدم نفسها باعتبارها السلطة العليا، في ظل ضعف أو إضعاف الدولة المركزية".

وأردف المصدر المطلع: "أما بخصوص شرق السودان، فخصوصيتها نابعة من أهميتها، باعتبارها تضم موانئ هامة على البحر الأحمر، مثل بوتسودان، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي الفريد، ومواردها الغنية، ولذلك هناك دول إقليمية، تعبث بأمنها، وخاصة الإمارات، وإريتريا، ومصر". 

وأوضح: "الخطة كانت واضحة منذ البداية، حيث تم ضرب العملية السياسية في شرقي السودان، ولم تعد هناك مشاريع ذات طابع قومي، وكل مجموعة عرقية أصبحت تحشد لزعيم سياسي خاص بها، ومن خلال ذلك ضربت الوحدة الاجتماعية أيضا".

وذكر: "الدول التي تزرع الفتن تحاول أن تخلق في شرق السودان، وضع أشبه بسوريا، والعراق، واليمن، وأخيرا ليبيا، بإحداث شرخ، وتكوين مجموعات مغلقة تعمل ضد بعضها البعض، خاصة في ظل تقويض الجهاز الأمني المركزي، وتحطيم الجهاز السياسي، وآل الأمر إلى أن الدولة أصبح يحكمها مجموعة من الناشطين، بلا تصور حقيقي". 

واختتم حديثه: "لابد أن يتماسك النسيج المجتمعي في شرق السودان، والاتفاق على مجابهة المشاريع السياسية الانتهازية للقوى الإقليمية، وتحديدا الإمارات، ومنع حالة الاختراق الأمني، حتى لا تعود البلاد إلى مراحل الولاءات القبلية، وتضيع فكرة الدولة".

الموقع والثروات

حسب دراسة أعدها الباحث السوداني إدريس نور محمد، بعنوان "إخفاقات الماضي شرق السودان.. وطموحات المستقبل"، فإن حدود الإقليم الشرقى هى البحر الأحمر شرقا، وإريتريا، وإثيوبيا جنوبا، والنيل غربا، حتى حدود النيل الأزرق في الجنوب الغربي،  ومصر شمالا. 

ويمتد من المنحدرات الشمالية للهضبة الإثيوبية في الجنوب إلى الحدود السودانية المصرية شمالا، وتبلغ مساحته 110 ألف ميل مربع، ويضم 3 ولايات هي (كسلا والقضارف والبحر الأحمر).

ويمتاز الإقليم من الناحية التاريخية باحتضانه لأقدم الحضارات الإنسانية، كما كان من أهم البوابات التي دخلت من خلالها العروبة والإسلام إلى السودان. 

وتتفاوت تضاريس المنطقة بين سلسلة الجبال ذات الارتفاع المتوسط تليها أراض منبسطة تتخللها تركيبات صخرية إلى جهات النيل، والمنطقة الجنوبية، وبينما يصدق على المناطق الشمالية والشمالية الغربية، وصف الصحراء نجد أن مناطق (دلتا القاش - طوكر  - منطقة البطانة - جنوب القضارف) أراضي زراعية خصبة.

ومن المعالم الإيكولوجية البارزة للإقليم الشرقي على البحر الأحمر، الذي يمتد ساحله بطول 640 كلم مربع، وهو يمثل بوابة  السودان ومنفذه الملاحي إلى العالم الخارجي وبه الموانئ الرئيسية (بورتسودان- سواكن)، بالإضافة إلى ميناء النفط الجديد (بشائر)، ومراسي أخرى صغيرة متعددة. 

وتقدر ثروات قاع ما تحت  البحر الأحمر في تلك المنطقة بمليارات الدولارات، مضافا لذلك المعادن من الأحجار الكريمة، كما توجد معادن أخرى بالإقليم مثل الحديد والنحاس والتنجستن، هذا إلى جانب الرخام والحجر الجيري.

وفي الجنوب الغربي نهر عطبرة ومشروع الرهد كمشاريع للري، ومناطق البطانة، وجنوب القضارف، حيث الزراعة الآلية المطرية التي توفر للسودان نصيب الأسد من المخزون الإستراتيجي للحبوب، وتعتبر القضارف أكبر سوق للحبوب في إفريقيا بالإضافة لصناعة السكر والقطن في مشروع القربة.

تلك العوامل جعلت من هذه المنطقة مطمعا، وبدأت إرهاصات التدخلات الخارجية، تتكشف من خلال الاشتباكات التي تحدث، بين العرقيات المختلفة المتعايشة في الإقليم، خاصة البجا وبني عامر.