لماذا توقعت أكاديمية أمريكية أن تكون ثورة مصر القادمة اقتصادية؟

إبراهيم عبدالله | منذ ٤ أعوام

12

طباعة

مشاركة

أثارت الأكاديمية الأمريكية أيمي أستون هولمز جدلا واسعا بعد نشرها لكتاب جديد يناقش الأوضاع السياسية المصرية في أعقاب ثورة يناير/كانون الثاني 2011 وصولا إلى عام 2018.

هولمز التي تعمل كأستاذ مشارك بالجامعة الأمريكية بالقاهرة عنونت كتابها بـ "ثورات مصر وانقلاباتها.. التحركات الجماهيرية والعسكر وأمريكا منذ مبارك وحتى السيسي".

الكتاب الذي يقع في 235 صفحة قسمته هولمز لخمسة أبواب معنونة بهاشتاجات عربية ميزت كل مرحلة، افتتحت الجزء الأول من الكتاب بفصل مخصص لثورة يناير (الشعب يريد إسقاط النظام)، تلاه فصل عن الثورة على المجلس العسكري عام 2012 (يسقط يسقط حكم العسكر) والتي نتج عنها إجراء أول انتخابات ديمقراطية لاختيار رئيس جمهورية.

الفصل الثالث جاء تحت عنوان (يسقط يسقط حكم المرشد)، وخصصته المؤلفة للحديث حول ما أسمته "ثورة 30 يونيو/حزيران 2013" وتحركات الإطاحة بحكومة الإخوان.

أما القسم الثاني للكتاب تناولت فيه المؤلفة الثورات المضادة تحت عنوان (انتخبوا الع...ص) والذي تناول فترة انتخابات السيسي عام 2014، فيما اختتم الكتاب بفصل بعنوان (تيران وصنافير مصرية) وهو مخصص للفترة من 2014 وحتى 2018.

سعد الدين إبراهيم

هولمز المتخصصة في علم الاجتماع السياسي قدمت للقاهرة عام 2008 لتحل محل الدكتور سعد الدين إبراهيم رائد علم الاجتماع السياسي، والذي اشتهر بانتقاداته اللاذعة لنظام الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك.

إبراهيم توقف عن المجيء للقاهرة بعد 2008 عقب إجراءات تضييق بحقه تضمنت فترات متقطعة من السجن وإغلاق مركز ابن خلدون الذي أسسه للاهتمام بقضايا حقوق الإنسان.

وتقول هولمز: إنها حرصت منذ قدومها للقاهرة على تسجيل أفكارها في شكل سلسلة من المقالات والأبحاث القصيرة التي نتج عنها الكتاب، الذي تصفه بأنه مشروع (أركيولوجي) تطور مع الزمن ليخرج بشكله النهائي.

المؤلفة التي عملت لفترة زميلة في معهد وودرو ويلسون للدراسات بواشنطن، ترى أن عودتها لمصر أصبحت في حكم المستحيل بعد الاستهداف المتكرر لأكاديميين غربيين كثر بتهم تصل للجاسوسية.

الأمر الذي قاد بعدد منهم إلى للسجن، وأودى بحياة آخرين من ضمنهم الطالب الإيطالي جوليو ريجيني الذي قتل على يد أجهزة تروج أذرعتها الإعلامية مؤامرات تنضح بـ"الزينوفوبيا وكراهية الأجانب"، حسب الباحثة.

هولمز التي غادرت القاهرة العام الماضي تلقفتها جامعة هارفرد لتعمل معها بشكل طارىء منهية عقد من الزمن قضته كأستاذة مساعدة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة.

الجامعة الأمريكية بالقاهرة هي المؤسسة التي ترى هولمز أن بمقدورها استنادا على استقلالها النسبي عن المنظومة التعليمية الحكومية وتاريخها العريق الممتد لقرن من الزمان على تقديم حلول تنقذ الوسط الأكاديمي المصري من عزلته الدولية المتزايدة منذ 2013، والتي باتت أبرز تجلياتها التحذيرات التي توجهها الجامعات العالمية لطلبتها من زيارة مصر لتعلم اللغة العربية أو إجراء الدراسات الميدانية باعتبار أن مصر أصبحت (منطقة خطر).

وتحكي هولمز بأسى شديد عن حوادث سجن لعدد من أصدقائها وطلابها المصريين ذوي النشاطات السياسية بتهم ملفقة والزج بهم في معتقلات (قروسطية) لا تتوافق مع أبسط المعايير الإنسانية لرعاية السجناء.

العهود الخمسة

ترى هولمز: أن الحراك السياسي في مصر منذ ثورة 2011 يمكن تقسيمه لخمسة مراحل أساسية، تبدأ أولاها بأحداث 25 يناير/كانون الثاني 2011 حين اندلعت مظاهرات ميدان التحرير المطالبة بإسقاط نظام الرئيس الأسبق حسني مبارك والتي انتهت في فبراير/شباط من العام ذاته بخلعه واستيلاء المجلس العسكري على مقاليد السلطة.

عند ذلك ابتدأت المرحلة الثانية والتي امتدت حتى منتصف 2012، وهي الفترة التي شهدت سيطرة المجلس العسكري على السلطة وما رافقها من أحداث ماسبيرو ومجلس الوزراء ومحمد محمود، وشهدت قمع غير مسبوق للشباب المشاركين في المشهد الثوري واعتقالات طالت 10 آلاف ناشط مدني، ومثل أحد أهم أحداثها الإغلاق ومن ثم الطرد لعدد من ناشطي مؤسسات المجتمع المدني الأمريكية العاملة في مصر.

وتؤكد هولمز بأن: نهاية هذا العهد جاءت مع موافقة المجلس العسكري على إجراء الانتخابات الرئاسية وتسليمها في نهاية المطاف للفائز بجولتها الثانية الرئيس السابق محمد مرسي.

"العهد الثالث حسب المؤلفة بدأ مع تسلم مرسي للحكم وانتهى مع انطلاق ثورة 30 يونيو/حزيران 2013 حين خرجت الجماهير مطالبة بإسقاط (حكم المرشد) وخلع جماعة الإخوان عن سدة الحكم"، حسب هولمز، في حين أن المطالب كان تتلخص في إجراء انتخابات رئاسية مبكرة.

الفاصل بين العهود الثلاثة السابقة والعهدين اللاحقين هو برأي هولمز، الحاجز بين الثورات بأنواعها والثورات المضادة التي قادتها هياكل وأجهزة النظام القديم، ورامت من خلالها استعادة السلطة وإعادة الأوضاع لما كانت عليه قبل 2011.

وتضمنت مرحلة الثورة المضادة عهدين ترأس الأول منها المستشار عدلي منصور برئاسته المؤقتة التي انتهت بانتخاب قائد الإنقلاب الفريق عبدالفتاح السيسي عام 2014 رئيسا للجمهورية، ثم استقرار العهد الأخير للسيسي حاكما بصلاحيات شبه مطلقة لإدارة البلاد لمدة 4 سنوات، وهي الأربع سنوات التي ميزها السخط الشعبي المستمر على قرارات السيسي الاقتصادية وإجراءاته السياسية المثيرة للجدل والتي تضمنت تنازله عن جزيرتي تيران وصنافير لصالح السعودية.

الخطيئة الأمريكية

وإذا كان للتاريخ من لحظات مفصلية تتغير عندها كل الحسابات، فقد كان للحظة التي قررت فيها إدارة أوباما التغاضي عن تحركات الجيش المصري عام 2013 الأثر الأكبر في إجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة بمصر، ولا يدري أحد كيف كان يمكن للمشهد أن يتغير لو أن وزير الخارجية جون كيري لم يبد دعمه لتحرك الجيش بوصفه: "انقلابا لاستعادة الديمقراطية".

الخطيئة الأمريكية ترسخت بوصف هولمز يوم أن فهم قادة الجيش المصري بأنهم يحظون بدعم واشنطن (أو تغاضيها في الحد الأدنى) لعمل ما شاؤوا، وهو الفهم الذي أكده عدم إيقاف إدارة أوباما للمعونة العسكرية لنظام انقلابي تحظر القوانين الأمريكية تقديم أي شكل من أشكال الدعم له.

الكوابح الأمريكية كان من شأنها - بحسب هولمز- أن تفيد في حث الجيش على اختيار إجراءات أقل قمعا ضد معارضيه، وبضمان مشاركة الجميع في عملية سياسية موسعة تضمن استقرارا للبلاد على المدى الطويل.

ورغم جهود الدبلوماسي الأمريكي ويليام بيرنز والتي وثقتها المؤلفة في الكتاب، ومحاولاته جمع الإخوان والجيش في جولات تفاوض، إلا أن غياب الجدية وعدم وجود ضغط حقيقي على قيادة الجيش يلزمها بالتنازل المتبادل أدى لفشلها في تحقيق أي نتيجة على الأرض.

وفي مقابل التخبط الأمريكي كان موقف الاتحاد الإفريقي مبدئيا وصارما في رفض الإجراءات الانقلابية والتي نتج عنها تجميد عضوية مصر في الاتحاد ومؤسساته حتى العودة للعملية الديمقراطية وإجراء انتخابات شعبية وإعادة العمل بالدستور.

الحياء الأمريكي في وصم مشهد 2013 بالانقلاب الكامل رغم تحفظ رموز جمهورية في الكونجرس على تلكؤ إدارة أوباما في هذا السياق عوض عنه الحماس الخليجي الكامل لدعم تحركات الجيش وتحمل الأعباء المالية الكاملة الناتجة عنه.

الدعم الخليجي الذي تصفه هولمز بأنه: أتى بعد ساعات قليلة من إعلان الانقلاب جاء بمفعول إيجابي كبير زاد من ثقة العسكر في تحركاتهم وأكسبهم رصيدا شعبيا مفعما بالآمال المعلقة على المشاريع القادمة والرخاء المنتظر.

كما قلل الدعم الخليجي المهول من قدرة الولايات المتحدة على التأثير في مشهد تزيد فيه مبالغ الخليجي المباشر على معونة عسكرية أمريكية هزيلة مليئة بالإجراءات الإدارية المعقدة والضمانات للتأكد من سلامة صرفها.

مربع القوى

ترى الكاتبة أن: مربع التأثير في مصر ينحصر بأربع قوى أساسية يتشكل من مجموع توافقها أو تصارعها شكل المشهد المستقبلي للبلاد. وتضم هذه الرباعية الجيش بمؤسساته، وطبقة رجال الأعمال، وأمريكا، ومجاميع المعارضة.

هذه الأقطاب الأربعة تتداخل مع بعضها في دوامة مد وجزر مستمرة، ورغم نجاح الجيش بقيادة السيسي في الحفاظ على تماسكه، فإنه نجح كذلك في استقطاب رجال الأعمال عبر مشاريع التنفيع والإسناد المباشر والامتيازات المتنوعة.

أما الولايات المتحدة فإنها تبدو -وخصوصا في زمن ترامب- محيدة عن المشهد المصري على وقع التأثيرات الخليجية الضامنة لحكم السيسي والمروجة لإنجازاته في أروقة صناعة القرار بواشنطن.

وتتبقى المعارضة التي يتزعمها الإخوان وتدعمها دول "الضد" الشرق أوسطي (قطر وتركيا) عاملا مهما في التأثير على المشهد الإعلامي بعد أن تم تقليم أظافرها الميدانية عبر 5 سنوات من القمع المتواصل.

"1952 و2011"

تفرق هولمز بين نمطين من الثورات عاشتها مصر في تاريخها الحديث، ففي الوقت الذي يمكن فيه اعتبار ثورة 1952 وما تلاها ثورات (علوية) قام بها ضباط استولوا على مقاليد السلطة وأجروا تغيرات دراماتيكية عبر أوامر صادرة من الأعلى شملت إعادة تقسيم ملكية الأراضي (الإصلاح الزراعي) وطرد المحتلين البريطانيين (اتفاقية الجلاء) والقضاء على الملكية الوراثية وإرساء دعائم جمهورية دستورية، فإن ثورة 2011 وما تلاها يمكن وصفها بالثورة (السفلية) التي انطلقت من أسفل الشارع وقادها نشطاء خرجوا من رحم الجماهير محاولين نقل احتياجاتهم وتحقيق تطلعاتهم.

وفي الوقت الذي لعب فيه الجمهور المصري العام دور المتابع والمتلقي لقرارات الثورة (العلوية) منذ العام 1952، فإن ثورة 2011 (السفلية) نقلته لموقع القيادة تاركة للنخبة العسكرية دور اللحاق بالمشهد والاستجابة للتطلعات الجماهيرية، وهي التطلعات التي لم تتوقف إلا عندما استعادت النخبة العسكرية زمام المبادرة من جديد فارضة إرادتها عبر انقلاب 2013 وما تلاه من إجراءات لم تخلو من عنف مبالغ فيه.

هولمز التي تنفر من مصطلح "الربيع العربي" لعدم دقته - من وجهة نظرها- ولعجزه عن توصيف مشهد تضافرت في تكوينه عناصر متعددة (غير عربية) كالنوبيين والأمازيغ والأكراد ونظائرهم من الأقليات التي تعيش فيما يصح توصيفه بالوطن العربي، لا تبدو متشائمة من مستقبل الثورات التي ترى أن نهايتها لم تحن بعد.

فإذا كانت الثورات (العلوية) التي قادها عبدالناصر ورفاقه لم تخب منذ العام 1952 حين انطلقت حركة الضباط الأحرار بمصر ليتواصل زخمها عبر العالم العربي بانقلابات العراق وسوريا واليمن والسودان لمدة 17 عاما اختتمت باستيلاء العقيد القذافي ورفاقه على الحكم في ليبيا رافعين ذات الشعارات التي رفعها عبدالناصر ومستندين إلى ذات المرجعيات القومية.

فإن زخم الثورات (السفلية) ذات الطابع الشعبي هو بكل الأحوال أعمق وأكثر تجذرا، وترى هولمز في الحراكين الجزائري والسوداني تتمة للمشهد الذي انطلق في تونس دون أن تبدو أن خاتمته تلوح في الأفق.

الثورة القادمة

غياب المظاهرات الشعبية لا يعني الاستقرار عند هولمز، خصوصا في ظل أنظمة قمعية تجرم أي شكل من أشكال التظاهر السلمي أو الدعوة إليه.

وتتوقع هولمز أن تكون التحركات القادمة في مصر اقتصادية الدوافع بامتياز، فعلى الرغم من قمع نظام مبارك وتفرد نخبة من رجال الأعمال بالنفوذ في عهده، فإن إحصائية نشرت عام 2000 أثبتت أن طبقة الـ 1% الأكثر ثراء في مصر تمتلك حوالي ثلث مقدرات البلاد الاقتصادية بنسبة 32%.

والعجيب، حسب هولمز:  أنه رغم شعارات العدالة الاجتماعية التي رفعها ثوار يناير فإن هذه النسبة قد ارتفعت بشكل كبير، لدرجة أشارت فيها آخر الأرقام المنشورة أن الطبقة ذاتها باتت تمتلك بحلول 2014 حوالي نصف مقدرات البلاد بنسبة  49%، مما يعني أن مليون مواطن مصري يستحوذون على نصف ثروة البلاد فيما يتصارع 99 مليون مصري على النصف الباقي.

الغياب المهول للعدالة الاجتماعية، برأي هولمز: هو وصفة لتحركات قادمة لا يرى المشاركون فيها أي مستقبل لهم في بلد تعوزه الحرية والرفاه على السواء.