حروب الجنرالات بمصر.. دولة فقيرة وأسلحة هائلة

في مصر نظام قديم متجذر، لم يمت بعد ثورة 25 يناير 2011، ولكنه تجدد على أثر ولادة عسيرة، بانقلاب عسكري دموي في 3 يوليو/ تموز 2013، فكان أشد وطأة ووحشية من ذي قبل. ولجأ الجنرالات إلى تكتيك متطرف في منهجية تسليح الجيش، وإعادة تأهيله نحو عقيدة عسكرية مختلفة تعتمد في الأساس على قمع الانتفاضات الداخلية بالمدن، ومحاربة التمرد المسلح في سيناء والصحراء الغربية، وتأمين حالة العسكرة المهيمنة خلال عهد عبد الفتاح السيسي، فكونوا ترسانة عسكرية مخيفة، لم يبخلوا عليها بصفقات مليارية في بلد يعاني غالبية أهله من الفقر والفقر المدقع، ومن اقتصاد هش لا يكاد يفيق.
أبرز صفقات السلاح
تعيش الدولة المصرية، أزمات اقتصادية متلاحقة، معتمدة بشكل مباشر على المساعدات الخليجية، إلا أن الأمر اختلف تماما عند عقد صفقات السلاح، وتعزيز الترسانة العسكرية للجيش.
فبحسب معهد ستوكهولم لبحوث السلام (SIPRI) جاءت مصر في المرتبة الثالثة عربيا من حيث واردات الأسلحة بنسبة 215 بالمئة خلال الفترة بين 2008 و2017.
ففي 16 فبراير/شباط 2015، وقعت مصر وفرنسا، اتفاقية بموجبها وردت الحكومة الفرنسية لمصر طائرات حربية من طراز "رافال" في صفقة بلغت قيمتها 5.2 مليار يورو، وبحسب بيان الإليزيه، كانت الصفقة هي الأولى للطائرات منذ إنتاجها عام 1986م.
ويوم 10 أكتوبر/تشرين الأول 2015، شهد عبد الفتاح السيسي، ورئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، مراسم التوقيع على صفقة حاملتي الطائرات (ميسترال)، بتكلفة قدرها 950 مليون يورو.
(مقطع تسلم الدولة المصرية لحاملة الطائرات "ميسترال" يوم 2 يونيو/حزيران 2016)
و تسلمت القاهرة من موسكو في أبريل/نيسان 2016، 50 طائرة من طراز (ميج 29)، ضمن صفقة أسلحة ضخمة تشمل شراء منظومة (SA-17 و SA-23) دفاع جوي، بالإضافة إلى شراء 46 طائرة من طراز (KA-52)، في اتفاقية تسليح تاريخية لم تحدث منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، بلغت قيمتها 5 مليارات دولار، بحسب موقع ديفينس ويب.
ما وراء الصفقات.. أسلحة في غير موضعها
في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2018، نشر موقع "ستراتفور" الأمريكي تقرير بعنوان (مصر وحمى الإنفاق على التسليح"، وأرجع التقرير أن الكم الهائل لصفقات السلاح التي عقدتها الدولة المصرية في الآونة الأخيرة، يرجع إلى عوامل جيوسياسية أبعد من الحاجة العسكرية، في ظل توجه النظام المصري إلى الاعتماد على مصادر متعددة للتسليح، تجاوزا لمخاطر الاعتماد الأساسي والرئيسي على الولايات المتحدة كمصدر وحيد لواردات السلاح بعد اتفاقية كامب ديفيد عام 1978، وكذلك لتعزيز نفوذ البلاد لدى القوى الأجنبية الأخرى مثل روسيا وفرنسا وبريطانيا.
وذكر تقرير "ستراتفور" أن ترسانة مصر العسكرية متنوعة بشكل كبير، ما يفرض قيودا على قواتها المسلحة، وضرب مثلا بقوات الدفاع الجوي التي تعمل على تشغيل بطاريات صواريخ أرض جو حصلت عليها من الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وألمانيا، وجميع البطاريات لها منصات مختلفة إلى حد كبير، مما يجعل من الصعب القيام بتدريب القوات في نفس الخدمة عبر معدات مختلفة.
ولكن أخطر ما ورد في التقرير، هي الجزئية المتعلقة بـ"ميكانيزم" الأسلحة التي حصل عليها الجيش في السنوات الأخيرة، حيث قال "إن الضرورات العسكرية ليست هي العامل الذي أدى إلى الزيادة الكبيرة في مشتريات النظام المصري من الأسلحة، فعلى الرغم من المعركة التي يخوضها الجيش في سيناء ضد المتمردين، إلا أن الأسلحة لا تناسب طبيعة القتال هناك".
وقدم التقرير وجها لمعاناة القوات المصرية المقاتلة على الجبهة هناك، حيث تعاني من نقص الموارد، وافتقار سلاح المشاة الذي يقوم بمعظم عمليات الاشتباك إلى المدرعات المتقدمة ومعدات القتال الفردية، وفيما يتعلق بالمركبات، قام الجيش بنشر دبابات (M-60A3 ) الأقدم والأكثر ضعفا، في حين أن دبابات (M1 Abrams ) الأكثر تقدما، والمحمية بشكل أفضل، بقيت خارج نطاق العمليات، كذلك المركبات المقاومة للألغام، ومركبات (MRAP ) المجهزة ضد الأكمنة، لم تكن حاضرة في خضم المعارك المستعرة في سيناء.
وتأتي تلك الصفقات وسط حالة من الضبابية يفرضها الجيش المصري حول أوضاعه المالية، لا سيما أن مخصصات الدفاع والأمن القومي في الدولة المصرية تحتل المرتبة رقم واحد في الميزانية العامة للدولة.
الجيش المصري.. حرب المدن وإشعال سيناء
وقال بيري كاماك الباحث في برنامج الشرق الأوسط بمؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي إن "الجيش المتورط في السياسة سيئ للاستقرار والديمقراطية".
أما عبد الفتاح السيسي رئيس النظام الحالي، الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي، وقاد انقلابا عسكريا مكتمل الأركان ضد الحكومة المنتخبة، فقال نصا قبل أيام من انقلابه: "الجيش لو نزل الشارع اتكلم عن مصر كمان 30: 40 سنة".
وفي 3 يوليو/ تموز 2013، تحرك الجيش ونزلت الدبابات والمدرعات إلى شوارع القاهرة، لتحكم قبضتها على البلاد، وتقوم بفض المظاهرات الغاضبة، وتقتل أعدادا كبيرة من المدنيين.
ولكن المأساة الأفدح كانت في سيناء، حيث يخوض الجيش حربا طاحنة هناك، دفع ثمنها آلاف المدنيين الذين قتلوا وهجروا قسريا، وتعرضوا لقصف مروع من الطائرات الحربية، والمدافع.
فحسب تقرير "المرصد المصري للحقوق والحريات"، فإن "قوات الجيش والشرطة ارتكبت سلسلة من الجرائم بحق أهل سيناء تمثلت في قتل 1374 حالة خراج إطار القانون، وهدم 2577 منزل، بالإضافة إلى تدمير وحرق منقولات مادية."
وتأتي هذه الحصيلة الصادمة لتعضد أن سيناء أرض حرب، والنظام الذي أدخل الإقليم في عام طوارئ شديد الوطأة قد أعمل في المواطنين خراب لم ينالوه من قبل، ثم أطلق عملية سيناء 2018، المعروفة باسم "المجابهة الشاملة" التي حصدت بجوار عدد قليل من المسلحين الكثير من المدنيين الأبرياء.
السلاح المصري في ليبيا
في 20 مارس/آذار 2018 انطلقت من القاهرة سلسلة اجتماعات ضمت عسكريين ليبيين، لبحث سبل توحيد المؤسسة العسكرية الليبية، وإعادة هيكلتها، وانعقدت الاجتماعات بحضور رئيس الأركان المكلف من المجلس الرئاسي الليبي اللواء عبد الرحمن الطويل، وبحضور الفريق عبد الرزاق الناظوري رئيس أركان القوات المسلحة الليبية التابع لحفتر، والرجل الثاني بعده في الجيش، الأمر الذي يعزز دور مصر في صياغة وترتيب العملية السياسية في ليبيا منذ الإطاحة بنظام العقيد معمر القذافي، والاعتماد المباشر على اللواء خليفة حفتر الذي مثل نقطة الدعم لإنفاذ الإرادة السياسية، والعسكرية للبلدين.
وقد انخرطت القاهرة في الصراع بشكل مباشر، وصل إلى التدخل العسكري، وقصف عدد من الأهداف في الأراضي الليبية.
تبدى هذا الأمر بوضوح مع الغارات التي شنها سلاح الجو المصري يوم 16 فبراير/شباط 2015، عندما ضرب مدينتي سرت ودرنة في العمق الليبي، على خلفية ذبح 21 عاملا مصريا قبطيا على يد تنظيم الدولة، يوم 12 فبراير/شباط 2015، عندما اختطفوا من مدينة سرت، وكانت الضربات المصرية قد جاءت قبل يوم واحد من إتمام صفقة طائرات "الرافال" مع فرنسا.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل دعا السيسي بشكل واضح إلى استصدار قرار أممي لتشكيل تحالف دولي للتدخل في ليبيا، وهو القرار الذي تحطم على أساس رفض الدولة الجزائرية لذلك التدخل.
وفي تطورات لاحقة يوم 27 مايو/أيار 2017، نفذت القوات الجوية المصرية ضربات أخرى، عندما قصفت مدينة درنة على خلفية حادث مقتل الأقباط المصريين في محافظة المنيا، واتهام الحكومة المصرية لتنظيم القاعدة في ليبيا بالاشتراك والتخطيط لهذه العملية.
وكشف تسريب بثته قناة "بانوراما" الليبية، في 19 فبراير/شباط 2015، عن مساع مصرية إماراتية لدعم محاولة انقلابية فاشلة في ليبيا بقيادة اللواء خليفة حفتر قبل عام، وتحديدا في فبراير/شباط 2014، وجاء الحوار المسرب بين عباس كامل، وعبد الفتاح السيسي، حينما كان الأخير وزيرا للدفاع، ودار محور المكالمة في الدقائق الأولى منها، عن أحمد قذاف الدم ابن عم معمر القذافي، ورئيس الحكومة الليبية آنذاك علي زيدان، كما تطرق الحديث للشخصية الفلسطينية، والقيادي المقال من حركة "فتح" محمد دحلان، والذي ألمح عباس لحساسية موقفه وهو مستشار ولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد، في إشارة لدور خفي يلعبه في الداخل الليبي.
وكشف التسريب عن اتصالات بدت بين السيسي عندما كان وزيرا للدفاع مع زيدان وقذاف الدم، قبل فبراير/ شباط من العام 2014، حيث كان ينتظر تحركا جماهيريا يقوده معارضو المؤتمر الوطني "المنتخب" على غرار تحركات 30 يونيو/ حزيران في مصر.
وكشف تقرير الأمم المتحدة الصادر في مايو/أيار 2015، عن عمليات تهريب سلاح إلى ليبيا قامت بها مصر والإمارات، ولم تشمل تلك العمليات الأسلحة والذخائر فقط، بل شملت أيضا تحويل طائرات عسكرية مصرية إلى ليبيا، لدعم اللواء خليفة حفتر.
وفي 23 فبراير/شباط 2015، نشرت منظمة العفو الدولية "أمنستي" تقريرها الذي جاء بعنوان (ليبيا: تنامي الأدلة التي تثبت ارتكاب جرائم حرب على إثر الضربات الجوية التي نفذتها مصر)، وأكدت فيه (أن سلاح الجو المصري قد تقاعس عن اتخاذ الاحتياطات الضرورية اللازمة لدى شنه ضربات تسببت بمقتل مدنيين في أحد الأحياء السكنية في مدينة درنة الليبية، في 16 فبراير/ شباط 2015)، وأوردت (تعد هذه الحادثة واحدة من سلسلة من العمليات المروعة في الأسابيع الأخيرة، التي يرقى بعضها إلى مصاف جرائم الحرب، وتظهر كيف يجد المدنيون أنفسهم مجبرين أكثر من ذي قبل على تحمل وطأة الهجمات الانتقامية مع تصاعد دوامة العنف في ليبيا).
وتكمن مفارقة الفورة الهائلة في سباق تسليح الجيش المصري، والنفقات العسكرية الضخمة، هو الحالة الاقتصادية المتردية، لبلاد غارقة في الفقر، تواجه عجزا شديدا في ميزانيتها العامة، إضافة إلى الديون الداخلية والخارجية، بما في ذلك قرض صندوق النقد الدولي، وانخفاض قيمة عملتها المحلية، وأن الضباط العسكريين الذين يقودون الأوضاع يضعون في سقف أولوياتهم الصفقات العسكرية، قبل تقديم خطة واضحة للإصلاح الاقتصادي والسياسي.
المصادر
- خطوط المعركة الجديدة في الشرق الأوسط
- بحث المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية عن تحديات الصراع في الشرق الأوسط
- تقرير موقع ستراتفور الأمريكي: مصر وحمى شراء الأسلحة
- نص تقرير منظمة العفو الدولية عن الضربات الجوية المصرية داخل الأراضي الليبية
- تقرير موقع ديفينس ويب عن صفقة الأسلحة المصرية الروسية
- تقرير معهد ستوكهولم لبحوث السلام (sipri) عن واردات الأنظمة العربية من الأسلحة
- مصر تشتري أسلحة ألمانية جديدة لتعزيز قدرتها العسكرية