بعد قرار إقالة مستشاريه.. هل يحارب عباس الفساد أم يرعاه؟

مهدي محمد | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

حدث غير مسبوق على الساحة الفلسطينية، عنوانه الكبير والمعلن "مكافحة الفساد" إلا أن تفاصيل وخلفيات قرار رئيس السلطة محمود عباس بإنهاء خدمات جميع مستشاريه، تحمل على ما يبدو في طياتها أسبابا أخرى، قد تكون هي من أجبرت الأخير على اتخاذه.

وبين ما هو معلن وما قد يكون مستترا، يتجدد الحديث عن سياسات ومواقف وقرارات عباس في الشؤون الداخلية للسلطة على نحو تنتعش معه الاتهامات التي تلاحقه برعاية الفساد لا مكافحته، وتقريب المفسدين لا محاسبتهم.

زلزال فلسطيني

ووفق ما نشرته الوكالة الفلسطينية الرسمية للأنباء "وفا"، فقد قرر عباس إنهاء خدمات مستشاريه كافة، وإلغاء العقود والامتيازات المترتبة على عملهم كمستشارين بصرف النظر عن مسمياتهم أو درجاتهم.

مصادر فضّلت عدم الكشف عن هويتها، قالت لوكالة "فرانس برس"، إن عباس اتخذ هذا القرار بعدما قدمت لجنة خاصة شكّلها في يونيو/حزيران الماضي تقريرا تفصيليا عن المبالغ التي يتقاضها كبار الموظفين في السلطة الفلسطينية، وخاصة المستشارين.

شكّل عباس هذه اللجنة، عقب تقارير نوهت إلى رفع أعضاء الحكومة الفلسطينية السابقة رواتبهم بدون قرار رئاسي، وطلب عباس من اللجنة بحث كافة التفاصيل المتعلقة برواتب هؤلاء الوزراء والمستشارين.

يتضمن قرار رئيس السلطة الفلسطينية أيضا، إلزام الحكومة السابقة- رئيسا وأعضاء- بإعادة المبالغ التي تقاضوها عن الفترة التي سبقت موافقته الخاصة على رواتبهم ومكافآتهم.

كان نشطاء قد كشفوا بداية يونيو/حزيران الماضي، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، معلومات تشير إلى أن رواتب أعضاء الحكومة السابقة، قد زادت بنسبة تصل إلى نحو الضعفين، بقرار من عباس، وهو ما أثار جدلا واسعا داخل الساحة الفلسطينية.

توابع الزلزال كانت قاسية جدا على رئيس الحكومة السابقة الـ(17) رامي الحمد الله، الذي نشر عبر حسابه على "فيسبوك" تدوينة قال فيها: "أود التذكير بأنني وبتاريخ 17 يونيو/حزيران، طالبت وزير المالية (شكري بشارة) بإطلاع الرأي العام على تفاصيل رواتب رئيس وأعضاء الحكومة الـ17 ولكنه لم يفعل وأعود وأطالبه اليوم".

وأضاف: "تعزيزا لمبدأ الشفافية، أطالب وزير المالية بالكشف عن حقيقة الموضوع وكشف أسماء الذين استفادوا من القرار من الحكومتين الـ17 والـ18 ومن هم بدرجة وزير أو رؤساء الهيئات والسلطات أو شخصيات أخرى في مواقع متعددة في الدولة، علما أن اعتماد فخامة الرئيس كان فقط لأعضاء الحكومة الـ17".

كما طالب الحمد الله، وزير المالية بالتحدث بخصوص بدل الإيجار لبيوت وزراء الحكومتين المذكورتين ومن هم بدرجة وزير ورؤساء الهيئات والسلطات وشخصيات أخرى.

صراع نفوذ

تصريحات الحمد الله بقدر ما حملت تبرئة لشخصه من أية مخالفات، بقدر ما كشفت عن صراع محتدم بين أقطاب ومسؤولي السلطة الفلسطينية، على نحو يعزز ما يقال بشأن قرار عباس أنه يأتي في سياق هذا الصراع ليس إلا.

الحمد الله، قال إن وزير المالية في حكومته قرر صرف العلاوة الدورية وعلاوة غلاء المعيشة للوزراء بأثر رجعي بعد أشهر من اعتماد الرئيس محمود عباس لقرار زيادة رواتبهم في يوليو/تموز 2017.

وتابع: "هناك العديد من المراسلات بيني وبين وزير المالية تبين أنني كنت دوما ضد هذه الزيادة.. خلال خدمتي كرئيس وزراء، لم أتقاض أي بدل إيجار أو تغطية لأية فواتير كهرباء أو مياه أو هاتف منزل كما هو متبع ومعمول به للوزراء ومن في حكمهم، وطوال الوقت كنت ضد هذا الموضوع بل وكتبت لفخامة الرئيس حوله والذي أحال الموضوع لمستشاره القانوني".

من أبرز أسماء المعتقلين في سجون السلطة "فايز السويطي"، الذي أسس بداية يونيو/حزيران الماضي صفحة "الحراك الفلسطيني ضد الفساد"، والتي ركزت على نشر وثائق لفساد مسؤولي السلطة و"فتح"، وكان أشهر ما نشره وثائق تدين حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية بالفساد وشراء الأراضي على حساب المال العام.

وبدأت الصفحة تحظى بالكثير من الردود والمشاركات، لتبدأ بعدها مرحلة تسريب للوثائق السرية واحدة تلو الأخرى، والمتعلقة بفساد استغلال نفوذ لمسؤولين آخرين، الأمر الذي أشعل موجة غضب شعبي وصلت إلى حد التظاهر والمطالبات بفتح التحقيق والمحاسبة وإنهاء الفساد المستشري بالسلطة.

مراقبون رأوا، أن تسريبات قضايا الفساد في رام الله يأتي في سياق صراع النفوذ بين القيادات الفتحاوية، وتثبيت سياسة التفرد في ظل غياب جهات الرقابة، وأن تعطيل المجلس التشريعي جزء من التمهيد لتطبيق هذه السياسة.

وقالوا، إن ما تم تسريبه حول رواتب الوزراء في حكومة الحمد الله جزء من التنافس والصراع السياسي تحت عناوين مالية، فكل قيادة تطمح في أن تزيح الأخرى وتحل محلها للتمتع بأكبر قدر من المزايا والنفوذ.

الأزمة المالية

ورغم أن وكالة الأنباء الفلسطينية لم تتطرق إلى السبب الذي دفع عباس لاتخاذ قرار إنهاء خدمات مستشاريه ورد الحكومة السابقة للزيادات المالية، لكن تحليلات عدة أشارت إلى أن الأزمة المالية التي تعيشها السلطة الفلسطينية ربما تكون السبب وراء هذه الإجراء.

وتعيش السلطة منذ فبراير/شباط الماضي، أزمة مالية خانقة بسبب رفضها استلام أموال الضرائب التي تجبيها إسرائيل لصالحها منقوصة، حيث تجمع إسرائيل نحو 127 مليون دولار في الشهر على شكل رسوم جمركية مفروضة على البضائع المتجهة إلى الأسواق الفلسطينية والتي تمر عبر موانئ الاحتلال الإسرائيلي قبل أن تحولها إلى السلطة.

لكن الكنيست أقر العام الماضي قانونا يقضي باقتطاع جزء من هذه الأموال ردا على تقديم السلطة الفلسطينية مبالغ إلى عائلات الفلسطينيين المسجونين لدى الاحتلال بسبب تنفيذهم هجمات ضد إسرائيليين.

وبينما فاحت رائحة الفساد من مقار السلطة ومكاتب كبار المسؤولين، تصرف السلطة منذ 7 أشهر 60 بالمئة فقط من قيمة رواتب موظفيها الحكوميين بعد رفضها استلام أموال عائدات الضرائب.

وبلغت موازنة السلطة لعام 2018، نحو 4.4 مليارات دولار، وتعتمد على 3 مصادر لتمويل نفقاتها؛ أولها الضرائب المحلية بأنواعها المختلفة (وتشمل بالأساس ضريبة الدخل، وضريبة القيمة المضافة، وضريبة الملكية)، وتشكل نحو 25 بالمئة من الإيرادات الكلية للسلطة، وتقدر بنحو 1.1 مليار دولار سنويا.

في حين أن المصدر الثاني لتمويل الموازنة، هو إيرادات المقاصة، وهي الضرائب على الواردات السلعية التي تحولها إسرائيل شهريا للسلطة، وفقا لبروتوكول باريس الاقتصادي الموقع بينهما سنة 1994، وتشكل حصيلتها النقدية نحو 50 بالمئة من الإيرادات الكلية للسلطة، وتبلغ 2.5 مليار دولار سنويا.

أما المصدر الثالث لتمويل الموازنة، فهو المساعدات الخارجية، وتشكل ما بين 16-25 بالمئة من تمويل الموازنة، بقيمة إجمالية تقدر بنحو 1.2 مليار دولار.

راعي الفساد

الظاهر في قرار الرئيس الفلسطيني يوحي بأنه المكافح الأول للفساد في سلطته، والذي لم يتردد في اتخاذ قرار مثل هذا عندما تثبت وقائع الفساد، لكن الحقيقة أنه وبشكل مباشر أو غير مباشر فإن عباس ذاته متورط في الفساد.

فإما يكون جزءا ممن يحققون الثراء الفاحش على حساب الشعب ويعلم تفاصيل ما يفعله كبار المسؤولين بسلطته ويشجعهم على ذلك بإبقائهم في مناصبهم وعدم محاسبتهم، أو أن يكون جاهلا بما يحدث وهذه مصيبة أكبر.

في مارس/آذار 2014، خاطبت كوادر من حركة فتح النائب العام الفلسطيني للتحقيق في وقائع فساد واتهامات أخلاقية تلاحق حسين الشيخ وزير الشؤون المدنية السابق وعضو اللجنة المركزية بالحركة.

وقالت الكوادر في تقارير نشرتها مواقع إخبارية فلسطينية إنهم لجأوا إلى النائب العام "بعد أن أوصد رئيس السلطة محمود عباس أمامهم كل باب"، ولم يجدوا من عباس "إلا حفظ هذه البلاغات في الأدراج حماية للشيخ".

ورأوا أن دولة الفساد في رام الله ترعرعت حتى أصبح أعلام الفساد المالي والسياسي والأخلاقي مثل محمود الهباش وزير الأوقاف السابق وغيره رموزا في السلطة، مشيرين إلى أن كل وقائع الفساد تجري تحت سمع وبصر رئيس السلطة الذي يحمي الفاسدين طالما دانوا له بالولاء.

وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي قرر عباس حل المجلس التشريعي الفلسطيني، الأمر الذي انعكس على مزيد من وقائع الفساد المالي والإداري لمسؤولي السلطة، والذي كان يساهم المجلس بجزء من مواجهته كأداة رقابية.

وقال يحيى موسى، مقرر اللجنة القانونية والإدارية في المجلس التشريعي الفلسطيني إن السلطة التي غيّبت دور المجلس في الرقابة المالية والإدارية استغلت هذا الأمر لمصلحتها في تغذية فساد مسؤوليها.

وأشار إلى أن معظم المحيطين بعباس تحوم حولهم شبهات فساد، خاصة في ملف التصرف بالمعونات الاقتصادية وأموال التبرعات التي تصل إلى السلطة باسم الشعب.

هل يُحاسَبون؟

خلافا لما نشره السويطي، فإن كثيرين كشفوا الكثير ومن بينهم وزير الشؤون الاجتماعية السابق شوقي العيسة، الذي أشار إلى ملف بدل السفر للوزراء الفلسطينيين، وما فيه من فساد واحتيال، يمكن في حال استرداد مبالغه المستولى عليها أن تنعش موازنة السلطة.

وكشف العيسة، أن استقالته من حكومة التوافق الوطني في 2017، كانت بسبب رفض رئيسها رامي الحمد الله تعيين موظفين أكفاء غير فاسدين، وترقية سواهم من الفاسدين في السلك الحكومي.

وعلى الوتيرة ذاتها، كشف نقيب الموظفين الفلسطينيين السابق بسام زكارنة، أن ما صرف للوزراء حصل خارج نطاق القانون، لأنه تم بناء على طلب الوزراء من الرئيس عباس، وليس وفقا للأصول القانونية، ومنح الوزراء بدل السكن بقيمة 10 آلاف دولار شهريا.

أما الخبير الاقتصادي نهاد نشوان، فقد قال، إن مراجعة البيانات المالية الفلسطينية الموجهة لهيئة الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء الرسمية "وفا"، تبين أن موازنتهم تعادل موازنة هذه الوزارات مجتمعة: الاقتصاد، الإعلام، النقل والمواصلات، شؤون المرأة، العدل، السياحة، بقيمة 182 مليون شيكل سنويا (1 شيكل إسرائيلي= 0.28 دولار أمريكي)، وهذه سابقة في فساد الحكم، وكيفية تخصيص أموال شعب محتل لتلفزيون فاشل.

وتحدث مصدر مسؤول في الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة "أمان"، طلب عدم كشف هويته، أن "تقارير الفساد في السلطة تؤكد الشكوك في شفافية آليات التوظيف للمناصب العليا، فالعام 2018 لوحده صدر فيه 39 قرارا للتعيينات العالية شملت 62 موظفا، لم يتم الالتزام فيها بمبدأ تكافؤ الفرص والمنافسة النزيهة، ومن أبرزها: سـفراء، مستشارين، رؤسـاء هيئات مؤسسـات عامـة، وكلاء وزارات، مـديرو عموم، محافظون، مما يكشف عن تراجع وتدهور خطير في مؤشر النزاهة والشفافية بأداء السلطة الفلسطينية في التعيينات والموازنة العامة، واستحواذ الطبقة المتنفذة على التعيينات العليا، بسبب غياب الرقابة".

اللافت أنه منذ نشأة السلطة الفلسطينيّة عام 1994، دأبت منظّمات محليّة ودوليّة على إصدار تقارير تتابع ملفّات الفساد داخل وزاراتها ودوائرها الحكوميّة، حيث لم يقتصر فسادها على تجاوزات إداريّة وماليّة بحتة يرتكبها أفراد غير مسؤولين بدافع المصالح الشخصيّة، بل فساد مزمن ومتأصّل في هيكل السلطة الأساسيّ.

وكشفت أول عملية تدقيق فلسطينية في 1997، أن 40 بالمئة من ميزانية السلطة، بما يصل إلى 326 مليون دولار أُسيء استعمالها، فيما حوَّلت إسرائيل 500 مليون دولار لحسابات بعض المسؤولين الفلسطينيين في بنوكها.وعليه يبقى التساؤل: ما مصير تلك الأموال، وهل يحاسَب هؤلاء نظير جرائمهم، أم أن سلطة عباس سوف تستمر في المزيد من حماية الفساد؟