بالمخابرات.. كيف أصبح التغريد خارج السرب محظورا في عهد السيسي؟

أحمد يحيى | منذ ٥ أعوام

12

طباعة

مشاركة

"يا بخت عبد الناصر بإعلامه"، جملة نطق بها رئيس النظام المصري عبد الفتاح السيسي من باب التندر والفكاهة لكنها أفصحت عن مكنون نفسه وعقله تجاه المنظومة الإعلامية التي يحلم بأن تكون في عهده.

ورغم توالي الأزمنة وتعاقب الرؤساء والحكومات، إلا أن الرجل العسكري أعطى أوامر صارمة لأجهزته الأمنية بإحكام القبضة على الإعلام بكل أنواعه وأطيافه. ثم طور عملية السيطرة الداخلية إلى مجابهة قنوات المعارضة التي تبث من الخارج وتتبعها، مع خنق وسائل التواصل الاجتماعي، عبر لجان وكتائب إلكترونية.

عشرات التقارير والتسريبات الغربية والعربية كشفت خطط ومساعي نظام السيسي الانقلابي لهيكلة الإعلام، ومنع أي قناة أو وسيلة إعلام تغرد خارج السرب أو تنقل رسالة ورؤية مغايرة لرؤية وإرادة رأس هرم السلطة.

وثائق وتقارير

في 31 يوليو/ تموز الماضي، كشف موقع "الجزيرة نت" حصوله على عدد من الوثائق والتقارير الإعلامية التي يصدرها المركز الإعلامي العسكري في إدارة الشؤون المعنوية بوزارة الدفاع المصرية.

وكشفت التقارير التي يعود تاريخها إلى الفترة بين عامي 2016 و2017، استخدام الجيش المصري، وتحديدا الشؤون المعنوية للقوات المسلحة، وسائل إعلامية لمتابعة اتجاهات الرأي العام وأداء القنوات المؤيدة والمعارضة. 

كما يقر الجيش في بعض القضايا بتمكن وسائل الإعلام المعارضة من التأثير على الرأي العام وخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، ويقترح مجموعة وسائل لمواجهة ذلك التفوق.

وتقدم التقارير العسكرية ملخصات من الرصد اليومي للصحافة الإقليمية والعالمية، ونقل مقتطفات تتحدث عن مصر في مختلف وسائل الإعلام، إلا أنها تهتم أكثر برصد الأداء الإعلامي البريطاني والأمريكي والإسرائيلي تجاه مصر والشرق الأوسط عموما.

كما أظهرت تحسسا شديدا لدى إدارة الشؤون المعنوية من الأفكار المتداولة عبر الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي أكثر من مرة يتم التحذير من رواج دعوات لمناهضة النظام.

اللافت بحسب ما تم كشفه أن هذه التقارير تقدم رصدا لأهم الأحداث المتداولة عبر وسائل الإعلام المختلفة على مدار اليوم، مع التركيز في اختيار هذه الأحداث على معيار العلاقة بالشأن المصري، بهدف توفير المعلومات لصناع القرار وللقيادات العسكرية التي تصلها هذه التقارير.

كما لفت الموقع أن هذه التقارير لا تكتفي بعملية الرصد فقط، وإنما تقدم مؤشرات بيانية من واقع التغطية الإعلامية للقنوات المحلية المصرية، تحتوي اسم القناة والبرنامج، والمذيع، والمدة التي استغرقها النقاش، وتعطي تقييما لتوجه التغطية بشكل عام هل كان سلبيا أو إيجابيا؟ وهل كانت محايدة تجاه الرئيس عبد الفتاح السيسي والقوات المسلحة والحكومة المصرية؟

وتشمل عمليات الرصد التي تتحدث عنها التقارير جميع القنوات، بما فيها المحسوبة على المعارضة، التي تمكنت (رغم الحظر والتشويه) من التأثير على الرأي العام باعتراف هذه التقارير.

كتائب إعلامية

الصحفي المصري طارق حسين، قال لـ"الاستقلال": "الوثائق التي تم الكشف عنها لا تحمل جديدا فيما يخص سيطرة الجيش على الإعلام المصري، ولكنها توضح المزيد من التفاصيل، وأسلوب إدارة هذه العملية، خاصة وأن عبد الفتاح السيسي عمل منذ بداية حكمه على إخضاع وسائل الإعلام بشكل كامل، وعدم إعطاء فرصة أو ثغرة لوجود رأي معارض لقرارته وسياسته".

وأضاف: "لكن وجود إعلام معارض في الخارج، يكشف أفعال النظام، ويفضح انتهاكات السيسي، أحدث قلقا بالغا لدى النظام، وعمل على إخماده ومجابهته بشتى الوسائل الممكنة، لأن الحاكم المستبد لا يقبل وجود رأي معارض، خاصة إذا كثرت أخطاؤه وتعددت جرائمه". 

وأكد حسين: إن" القبضة الأمنية دمرت مفهوم الإعلام المستقل، ولم تعد هناك خطوط فاصلة بين القنوات الرسمية التابعة للدولة، والقنوات الخاصة، فالاصطفاف في خدمة السيسي، أصبح العامل الأساسي للسياسة التحريرية لهذه القنوات. 

مصدر خاص قال لـ"الاستقلال": "توجد كتائب تابعة للشؤون المعنوية للقوات المسلحة داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون. هذه الكتائب تضم مجموعة من المترجمين، والمحامين، بالإضافة إلى إعلاميين وصحفيين، ووظيفتهم الأساسية متابعة القنوات الفضائية في الداخل والخارج". 

وأردف أن "هذه الفرق المتخصصة تقوم بعدد من الوظائف، منها متابعة القنوات الخارجية، وترجمة المحتوى إلى اللغات الإنجليزية والفرنسية، مع كتابة تقارير كاملة تقدم إلى جهات عليا". 

حسب المصدر "غاية تلك العملية تتحدد في أكثر من هدف، أولها تتبع الأخطاء التي قد تصدر عن تلك المؤسسات الإعلامية المعارضة، وملاحقتها قضائيا في الخارج، ومعرفة المحتوى الصادر ومواجهته، ودراسة مدى تأثيره على الرأي العام الداخلي".

مؤشرات مخيفة 

تقرير المركز الإعلامي العسكري المصري الذي نشره "الجزيرة.نت" كشف أبرز الانتقادات التي حفلت بها وسائل الإعلام ضد سياسات النظام، وتمثلت في اعتراض بعض أهالي بورسعيد على الشروط الجديدة للإسكان الاجتماعي، وزيادة مبالغ التعاقدات مع البنك، فضلا عما وصفته باستغلال البعض وعلى رأسهم جماعة الإخوان المسلمين للأزمات الراهنة بالتحريض على التظاهر ضد نظام الحكم.

وتظهر التقارير تحسسا شديدا لدى إدارة الشؤون المعنوية من الأفكار المتداولة عبر الإعلام الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي، وفي أكثر من مرة يتم التحذير من رواج دعوات لمناهضة النظام.

وذكر ذات التقرير أن هناك 14% مما وصفها بالتوجهات السلبية، تتمثل في دعوات للتظاهر ضد نظام الحكم، وأن "جماعة الإخوان الإرهابية" تسعى للتعبئة واستغلال الأزمة الاقتصادية للحشد لمظاهرات 11/11 المعروفة إعلاميا بثورة الغلابة.

وتشمل عملية التعقب والرصد ما يبث وينشر في وسائل الإعلام الإقليمية والدولية، حيث تقدم التقارير ملخصات من التعقب اليومي للصحافة العالمية، وتنتقي مقتطفات تتحدث عن مصر في مختلف وسائل الإعلام مثل فايننشال تايمز، وموقع ميدل إيست آي، وموقع ميدل إيست مونيتور، وصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، وموقع ديلي تايمز الأمريكي، ووكالة الأنباء القطرية وغيرها، بيد أنها تهتم أكثر برصد ما يرد في الإعلام البريطاني والأمريكي والإسرائيلي تجاه مصر والشرق الأوسط.

وفي هذا السياق يورد تقرير الخميس 20 أكتوبر/تشرين الأول 2016 ما كتبته "فايننشال تايمز" عن محاولة الحكومة المصرية إقناع الشعب بمزايا الإصلاح الاقتصادي في حين أنها تحضر لقرارات ستؤدي إلى صدمات وشيكة في الأسعار، ضمن إطار سعيها لإتمام الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.

واختتم التقرير بأن "السيسي قد ظهر في تسريب بالفيديو يعود إلى فترة ما قبل انقلاب 2013، يتحدث فيه عن تكوين (أذرع إعلامية) يمكن توجيهها والتأثير عليها لصالح ما يريد الجيش المصري توجيه الرأي العام إليه".

ترتيبات مخابراتية

في 14 أغسطس/ آب الجاري، نشرت صحيفة "الأخبار" اللبنانية، تقريرا تحت عنوان "مصر: المخابرات ترتب لتغييرات واسعة في الإعلام"، وذكرت أن هناك "حركة تنقلات وتغييرات ينتظر أن تشهدها وسائل الإعلام المصرية، تدريجيا، خلال الفترة المقبلة، ضمن مساعي جهاز المخابرات العامة إلى تنفيذ توجيهات الجنرال في مجال المضامين المقدمة فنيا وإعلاميا".

وأكدت أن الجهاز المعني يستعدّ لإجراء تغييرات واسعة في خريطة الإعلام، ستطيح قيادات وتصعد أخرى لتولي مناصب قيادية".

ولفت أن "الغموض يحيط بمصير عشرات العاملين المتوقع الاستغناء عنهم خلال الفترة المقبلة ضمن سياسة ترشيد النفقات". 

وذكر تقرير الصحيفة اللبنانية، أن المخابرات تخوض المرحلة الأخيرة من خطة السيطرة على جميع الشبكات المهمة الموجودة في مصر من خلال شركة "سينرجي" التي يترأسها تامر مرسي، لكن المفاجأة الكبرى أن تامر نفسه بات على وشك مغادرة منصبه في الشركة خلال الأيام المقبلة، حيث سيُعيَّن شخص آخر مكانه بإعلان رسمي. 

كما أعلنت أنه "قبيل عيد الأضحى بأيام قليلة، أقصت شبكة (DMC) الإعلامي أسامة كمال من برنامجه (مساء DMC)، والإقصاءٌ جاء للدفع بالإعلامي رامي رضوان، الذي حصد إشادة من السيسي خلال إدارته جلسة (اسأل الرئيس) في المؤتمر الوطني للشباب بنسخته الأخيرة".

التقرير أرجع تلك الإستراتيجية المتبعة إلى أن "السيسي لم يعد قادرا على تقبّل ولو القليل من النقد، بل يريد أن يشاهد الإعلام الذي يتمناه إعلاما داعما للدولة لا يعارض ولا يناقش، ويكتفي بتأييد كل ما يقال دون شرح التفاصيل أو السؤال عن أمور قد تبدو مثار جدل". 

تسريبات فاضحة 

في 6 يناير/كانون الثاني 2018، نشرت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية تقريرا أنجزه الصحفي "ديفيد كيركباتريك"، تضمن توجيهات من ضابط مخابرات مصري يدعى النقيب أشرف الخولي إلى مجموعة من الإعلاميين والفنانين المصريين للترويج الضمني عن قبول الدولة المصرية لقرار ترامب بشأن القدس عاصمة إسرائيل، والقبول برام الله عاصمة للدولة الفلسطينية.

من أبرز المتورطين في ذلك التسريب الإعلامي عزمي مجاهد، وسعيد حساسين بالإضافة إلى مفيد فوزي والفنانة يسرا. المحتوى الذي أحدث جدلية واسعة، جاء معبرا عن تجربة الإعلام المصري النظامي، والأذرع الإعلامية للسلطة العاملة تحت مظلتها.

لم يتوقف الأمر عند تسريبات نيويورك تايمز في بدايات يناير/كانون الثاني 2018، بل جاءت مجموعة التسريبات الأخرى التي أذاعتها قناة مكملين، وتناولتها العديد من القنوات والصحف العالمية يوم 10 يناير/كانون الثاني 2018 لتؤكد وتكشف كيف يدار الإعلام المصري الداخلي المحسوب على النظام الحكام.

في خضم التسريب يطلب النقيب أشرف "ضابط ذكرته مصادر التسريبات أنه ينتمي لجهاز المخابرات الحربية المصرية" بشكل مباشر من الإعلامي عزمي مجاهد "مقدم برامج على قناة العاصمة " أن يقوم بتوجيه إهانات حادة للنظام القطري وشخصيات من الأسرة الحاكمة.

كذلك طلب منه الضابط أن يكيل السباب للشيخ يوسف القرضاوي، قبل أن يوجهه إلى التعريض بأمير دولة الكويت لتضامنها مع قطر في الأزمة الخليجية. ومع انعقاد القمة الخليجية في الكويت 5 ديسمبر/كانون الأول 2017، وأن يذكر الشعب الكويتي بالدعم المصري لهم في حرب الخليج عام 1990، وهو التوجيه الذي تلقاه مجاهد معقبا بتوجيه إساءة لفظية بالغة للشعب الكويتي.

 

لسان السلطة 

وفي حلقة 11 ديسمبر/كانون الأول 2017 على قناة العاصمة في برنامج "الملف" الذي يقدمه عزمي مجاهد، نفذ الإعلامي التعليمات بدقة وبوضوح وبالألفاظ التي وردت في التسريب، حيث قام بمهاجمة دولة قطر بضراوة، ووجه إهانات بالغة للشيخ القرضاوي، وتعرض مع ضيوفه لدولة الكويت، مذكرا بتحرير مصر للكويت في حرب الخليج.

وفي تسريب آخر يطلب النقيب أشرف من عزمي مجاهد أن يتحدث عن القبض على وزير الداخلية الأسبق حبيب العادلي، وطلب النقيب من مجاهد أن يتحدث أن مصر دولة لا أحد فيها فوق القانون، وللمفارقة هو ما طبقه الإعلامي المصري نصا في حلقة 5 ديسمبر/كانون الأول 2017.

وتضمنت التسريبات علاقات تعاون بين جهاز المخابرات الحربية وعدد آخر من الإعلاميين والفنانين على غرار جابر القرموطي وخالد صلاح والفنانة عفاف شعيب، وكذلك محادثة بين النقيب أشرف ووليد حسني رئيس قناة العاصمة الذي كان برفقة ضابط يدعى إمام من جهاز الأمن الوطني.

وكشفت تلك التسريبات كيفية إدارة أجهزة المخابرات للأذرع الإعلامية للنظام، وأنها تمثل المتلقي للإرادة السياسية للنظام فتبثها إلى الشعب، وحقيقة أن القنوات الخاصة في مصر أصبحت لسان السلطة، وماسبيرو "مبنى التلفزيون الحكومي الرسمي" ما هو إلا هيكل قديم عجز النظام عن إصلاحه وتطويره.